"إنه الحجّ.. هذه الموقف الفظيع الذي فيه تجتمع المسلمون، ويتعلموا ألا يتوكلوا على الله".. كان هذا استهلالا رائعا لخطبة تلقى في يوم جمعة على منبر في مسجد يسمعها مئات البشر من شيخ وقور، بعمة بيضاء وزي أزهري يذكّرك بالشيخ محمد عبده.. لم أفاجأ كثيرا؛ لأني تعوّدت على مثل هذه "الهفوات البسيطة" كما ترى، فليس بالعيب الكبير أن الخطيب لا يعرف أن كلمة "الموقِف" مذكر لا مؤنثة ليقول "هذه الموقف".. كما لا يعيبه أن يصف "هذه الموقف" بأنه "فظيع" يقصد رائع، أو أن يقول "تجتمع المسلمون" بالتأنيث، لنخلص في النهاية للعبرة والدرس المستفاد من رحلة الحج وهو: "أن نتعلم ألا نتوكل على الله" ويقصد "ألا نتوكل إلا على الله" مع حذف "إلا" على اعتبار أن القارئ مصحصح وهيفهمها وهي طايرة.. على امتداد الخطبة وأنا أستمع إلى بشائع -أقصد جمع كلمة بشعة- وخطايا لغوية وبلاغية وحتى شرعية "فظيعة" تماما مثل "هذه الموقف" الذي تحدثنا عنه فوق!! إننا نتحدث عن "منابر منكوبة" كما ذكرها الدكتور -عبد العظيم المطعني- رحمة الله عليه وهو يقصّ قصة الخطيب المفوّه الذي خطب خطبة كاملة عن سيدنا "سليمان بن يعقوب"!!!!! وتزدحم في رأسي عشرات الأمثلة لنكبات كهذه من أئمة معتبرين تولّوا مهمة إرشاد الناس وأُخِذَ عليهم ميثاق "لتبيننه للناس ولا تكتمونه".. ولست أدري كيف تم التصديق على تعيين إمام يجهل بدايةً نطق الآيات القرآنية فضلا عن حصوله على شهادة عليا أصلا.. ولا تظن أن الأمر يقتصر على جانب الأخطاء اللغوية؛ فهذه "الحيطة المايلة" قد انهدت أخيرا على أيدي خطبائنا الأفذاذ، فمن: "إن الشيطان قد ركب علينا ودلدل رجليه" إلى: إن الكفار ذهبوا إلى "محمدا وعمِّه أبو طالب" بكل العلامات الإعرابية التي تتيحها اللغة، إلى أن وصلنا في النهاية إلى مرحلة: "هذه الموقف الفظيع الذي تجتمع فيه المسلمون -على فكرة المسلمون كده صح- ليتعملوا ألا يتوكلوا على الله".. يا عم اتوكل إنت على الله بقى.. كان الأقدمون يُحرصون كل الحرص على عدم وجود أخطاء لغوية في خطبهم حتى أن سيدنا معاوية رضي الله عنه عُدّت له ثلاثة أخطاء نحوية في إحدى خطبه فاغتمّ لذلك حتى قيل له: "كفى المرء حسنا أن تُعد معايبه"، فماذا نقول عن خطباء أزهرنا الموقر؟ لا نملك إلا أن نقول: "كفى المرء عيبا أن تعد محاسنه" في حالة أن تكون له أصلا محاسن أو حتى أم السعد! تخطّى الأمر مرحلة اللغة والتدقيق اللغوي اللازم لأزهري قحّ كان أسلافه يحفظون ألفية ابن مالك وشرح ابن عقيل عن ظهر قلب.. فإذ بالأخلاف يدخلون الأزهر بجزئين قرآن ويخرجون منه بلا قرآن ولا حديث ولا لغة ولا حتى وعي بالدين والناس.. لتكون النهاية: "هذه الموقف الفظيع الذي تجتمع فيه المسلمون، ليتعلموا ألا يتوكلوا على الله".. الآن نرى فضائح شرعية في خطب جمعاوية؛ فمن قائل: "يقول الله تعالى فيما معنى الآية" والله سبحانه وتعالى لم يقُل معنى الآية.. إلى قائل: "من الذي يحجّ؟ لم يعد يحجّ إلا المُرابي.. إلا الحرامي"، وكأن التكليف بالحج قد سقط عن الشرفاء.. إلى هذا الذي يفصّل ويسهب في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لم يقُله: "قم إلى الصلاة متى سمعت النداء مهما تكن الظروف".. وقد بحثت في كل كتب الحديث فلم أجد النبي نطق كلمة "الظروف" هذه مطلقا إلا على رواية أخينا خريج الأزهر الشريف، إضافة إلى أننا نعلم أنها من أقوال الشيخ حسن البنا رحمه الله.. ظللت طول الخطبة "الفظيعة" -أقصد الرائعة بالطبع- أتذكر "هذه الموقف" الذي حدث لي شخصيا حينما كان أحدهم يحضّر خطبة "قبل صلاة الجمعة بنصف ساعة"، ثم سألني عن أسماء بعض "مشاهير الإسلام"، فقلت له من جاء على بالي: سيدنا عبد اله بن عباس.. سعيد بن المسيب.. الحسن البصري.. ابن القيم.. فقال لي: كده فلّ.. وفي الخطبة كان ذهولي حين سمعته يقول: وقد روي عن عبد الله بن عباس أنه قال كذا... وكان سعيد بن المسيب يفعل كذا.. وقد ذكر الحسن البصري كذا. وورد عن ابن القيم أنه قال كذا.... وكلها أقول ما قالها أحدهم، ولكن حشر صاحبنا أسماءهم في خطبته لتكون ذات ثِقل.. ثقّل الله ميزانه وميزان معلميه.. الأمر جد خطير.. وتبدو خطورته حينما ننظر الآن لدور المسجد في التربية، ونظرة رجل الشارع لإمام المسجد وخطيب الجمعة بل وللجمعة ذاتها على أنها وقت يقول فيه واحد منعزل عن الواقع بعض الترهات والطلاسم لنعود إلى بيوتنا وقد قضينا الويك إند في الجامع.. بالطبع نحن لا نعمّم الأحكام وإن كان الله يأخذ الصالحين بالطالحين إذا كثر الخبث، ولكن الأمر قد تخطى كل الحدود ونخشى على منابرنا وعلى مساجدنا أن يأكلها الجهل والقول بغير علم، والافتراء على الله وعلى نبيه، فيحل علينا سخط الله.. في عقلك الآن عشرات الذكريات الكوميدية مع مواقف كهذه وبعد كل خطبة تنساها، فلا تتذكرها إلا حينما يبدأ الخطيب في إلقاء خطبة الأسبوع التالي فتقول: افتحوا الباب.. خرّجوني.. ولكن على فين يا حلو؟ هتسمع يعني هتسمع..