خطة شهرزاد الخبيثة لا بد أن شهرزاد كانت فائقة الذكاء، وخبيرة بسيكولوجية النفس البشرية؛ حتى تصل إلى تلك الخدعة التي ستُمكّنها من السيطرة على سلطان البلاد شهريار؛ فقد كان هذا الأخير خارجاً من تجربة صعبة سبّبتها خيانة زوجته له؛ مما جعله يمقُت الجنس الناعم كله، وكان عقابه رهيباً. فالفتاة التي يتزوجها، تعيش معه ليلة واحدة فقط، ومع مطلع الصباح يلتمع سيف السيّاف مسرور ليقطع رقبتها بلا رحمة.. وهكذا يتكرر هذا الأمر مراراً ليضجّ الناس بالشكوى من السلطان المجنون، الذي يقضي على فلذات أكبادهم؛ بسبب خطأ ارتكبته واحدة منهن.. لهذا تجد شهرزاد نفسها ملتزمة بأن تُكفكف نهر الدم هذا، وتتقدم كعروس جديدة للسلطان، وعلى الرغم من أنها ابنة الوزير؛ إلا أن هذا لن يشفع لها في النجاة من مخالبه. تُرى من أين أتت هذه الثقة الجبارة لهذه الفتاة الجميلة، والقدرة على السيطرة؟ إنها تستخدم سحر القصّ، الذي لا يصمد أمامه أحد، وهكذا كانت شهرزاد من أوائل من عرفوا كيف يأسرون السامع بنهاية مباغتة ولاهثة، وكأنها تُطبّق أحدث تقنيات الإثارة والتشويق التي يستخدمها كتّاب الروايات المسلسلة على صحف الجرائد، وصانعي المسلسلات التليفزيونية. تجلس شهرزاد إلى السلطان، وتحكي أولى قصصها، ثم تقطعها؛ لأن ديك الصباح قد ملأ الأسماع بصياحه، ولأن السلطان فضولي؛ فهو يتوقف عن تنفيذ خطته الدموية لحين انتهاء القصة التي لا تنتهي أبداً؛ فقصة داخل قصة داخل قصة، ويتوه السلطان في عشرات القصص المتشابكة المتداخلة بمهارة، وبعد انتهاء ألف قصة يُدرك غرضها الخبيث؛ فقد وقع في حبها، وغيّرته دون أن يدري. ملحمة لا يُعرف كاتبها أغلب الظن أن هذه الملحمة لا يوجد مؤلف واحد لها؛ بل هم مؤلفون كثيرون على مدى التاريخ والبلاد؛ حيث نجد فيها تأثيرات بابلية، وفارسية، وهندية، وعربية.. ومع مرور الزمن اكتسبت طابعاً عربياً واضحاً؛ فالأحداث تدور في مدن شهيرة، مثل بغداد والكوفة وغيرها، وسنقرأ عن الخليفة هارون الرشيد، والقصص العجيبة التي تحدث في زمنه؛ على الرغم من أن التاريخ الإسلامي ينفيها تماماً عنه، وهو الذي كان آية عصره في حكم بلاد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. تأثير ألف ليلة على الكتّاب الغربيين قلّ أن تجد كاتباً لم يتأثر بألف ليلة وليلة؛ سواء كان من الكتّاب العرب أو الأجانب؛ فتأثيرها يتعدى حدود الزمان والمكان بشكل غريب، وأديب عظيم مثل جابرييل جارسيا ماركيز يؤكد أن الصدفة التي جعلته يعثر في مكتبة جده على كتاب ألف ليلة وليلة، وأنه لو لم يعثر عليه لما صار أديباً، أو على حد قوله "هو ما صنع مني أديباً، بعد أن سحرتني الحكايات داخله، وأكثر ما شُغِفت به هو دور الراوي". بل ووصل الأمر إلى أن يتعلم "ماركيز" حكمته الثمينة من ذلك الكتاب المفرط في القِدَم؛ إذ إنه يقول: "تعلّمت من ألف ليلة وليلة ما لن أنساه أبداً؛ وهو أنه يجب أن نقرأ فقط الكتب التي تُجبرنا على أن نعيد قراءتها". بل إن هناك من يعتقد أن التأثير قد وصل إلى شكسبير ذاته، من خلال أعماله: "عطيل"، "ترويض النمرة"، "تاجر البندقية"، وغيرها، لتَشَابهها مع حكايات مماثلة في ألف ليلة وليلة، بعد أن صُبغت بصبغة إنجليزية ملائمة. أما عن الكاتب الإيطالي الأشهر جيوفاني بوكاتشيو؛ فقد وجدوا أن ملحمته "الديكاميرون" -أو "الليالي العشر" كما يسمونها- متأثرة بشكل كبير بألف ليلة وليلة؛ وخاصة أن الحكاية الأولى في "الديكاميرون" قد تشابهت مع قصة وَرَدَت سلفاً في ألف ليلة وليلة. وإذا جئنا للشاعر الروسي العظيم بوشكين، سنجد أنه يعترف بأنه قد تأثّر بألف ليلة وليلة، في كتابة عمله الشعري -الذي أطلق شهرته في مقتبل شبابه- "رسلان ولودميلا"، والفكرة الأساسية المتناولة في العملين هي خطف العروس ليلة زفافها. ولا ننسى الكاتب الألماني جوته الذي تأثّر -بشكل كبير- بالتراث العربي عموماً؛ فقد كان يقرأ ألف ليلة وليلة مُترجماً عن الطبعة الفرنسية، وقد حفظ حكاياته وعاش فيها، وهذا التأثير سيظهر فيما بعد في أعماله؛ فنرى البطل في روايته الرومانسية المبكرة "آلام فرتر"، يتحدث عن حكايات الجدة المشوقة، وعن جبال المغناطيس، والسفن التعسة التي تتفكك، وهي تشبه قصة من قصص ألف ليلة وليلة بالفعل. بل وانتقل التأثير إلى الجزء الثاني من ملحمته "فاوست"، من خلال شخصيتيْ "فاوست" و"كريتش"؛ متأثراً بشخصيتين مماثلتين في الملحمة العربية. أما الشاعر الإنجليزي"جيفري تشوسر"؛ فقد ظهر ذلك التأثير من خلال عمله الشهير وغير المكتمل "حكايات كانتربري". وحتى لو لم يظهر التأثير بشكل قاطع في الأعمال العالمية؛ فهو يظهر في تكوين الكُتّاب أنفسهم، الذين يعترفون أن ألف ليلة وليلة من أهم المؤثرات التي ساعدت على توهّج جذوة الأدب بداخلهم، أمثال: تشارلز ديكنز، ولافكرافت، وغيرهما. إلا أن هناك ملاحظة شديدة الأهمية متعلّقة بالترجمات التي صدرت لألف ليلة وليلة؛ فقد كانت أحد الأسباب في ترسيخ صورة العرب النهمين في الترف والجنس، من خلال تلك الصوَر الممقوتة الواردة في الملحمة العربية، وأن الهوامش الموضّحة لأشياء كثيرة لا يعرفها القارئ الغربي، كانت أحد أسباب حدوث ذلك؛ لأن المترجمين كانوا يتعاملون بنفس العقلية الغربية القديمة، المُثقلة بخرافاتهم عن الإسلام وأهله. تأثير ألف ليلة على الكتّاب العرب إذا كان التأثير يمتد إلى ما وراء البحار؛ فهو من باب أولى أن يكون لصيقاً بالكتّاب العرب؛ فقد وجدنا كاتبنا العظيم نجيب محفوظ يقوم باستقاء أحداث ألف ليلة وليلة الأصلية، في روايته الممتعة "ليالي ألف ليلة"، وهي توظّف الشخصيات في إطار يتمّ إسقاطه على الواقع؛ فقد قام بنزع الشخصيات من قصص شهرزاد -والتي كانت هذه الأخيرة تقصّها على السلطان المشتاق إلى قطع رأسها- ووضعها في بيئة شهريار نفسه! والحدوتة أنه بعد أن انتهت حكايات ألف ليلة وليلة، ووقع السلطان في غرام زوجته الأخيرة، هدأت الأمور نسبياً، وتوقّف نهر الدم؛ لكن بقي السلطان قلقاً، حائراً؛ كأنه يبحث عن شيء ما. في نفس الوقت قام نجيب محفوظ بتحويل شخصيات "علاء الدين أبو الشامات"، و"السندباد"، و"معروف الإسكافي"، وغيرهم إلى شخوص من لحم ودم، يعيشون في أرجاء المملكة، ويمارسون حياتهم بشكل طبيعي؛ بل هم يُذَكّروننا بالحرافيش، والمهمّشين، والناس البسطاء، الذين يبحثون عن لقمة العيش في رواياته العظيمة. وهنا يتدفق الخيال سريعاً إلى ذلك العالم الواقعي جداً -لو جاز التعبير- بظهور العفاريت والأحداث الغريبة، التي تُشعل المملكة من جديد، وهذا كله من خلال الشخصية الرئيسية شديدة التعقيد، والمتمثلة في المسئول عن الشرطة "جمصة البلطي"، والذي يمرّ بِعِدّة تحوّلات مُذهلة من الشرّ إلى الخير، إلى التصوّف والمعرفة، بشكل يجعله من أعقد الشخصيات الأدبية، وأكثرها متعة وجمالاً كما أرى. لزِمَ هنا توضيح جوّ الرواية؛ لأني أراها التطبيق الحيّ لكيفية تحويل ملحمة قديمة إلى شيء معاصر يتكلم عن قضايا تهمّ الكاتب، مثل الحاكم والمحكوم، الحياة والموت، الحب والبُغض.. إلخ. وبالطبع سنرى تأثير ألف ليلة وليلة في كبار كتّابنا، مثل: توفيق الحكيم، وطه حسين (من خلال روايته أحلام شهرزاد)، علي باكثير، وغيرهم. إن تأثير ألف ليلة سيظلّ ممتداً لأعوام طويلة قادمة؛ لدرجة أن يقول الكاتب الأرجنتيني لويس بورخيس: "تتملّكنا رغبة في التيه في ألف ليلة وليلة، ونعرف أنه بدخولنا في هذا الكتاب يمكننا أن ننسى قَدَرَنا الإنساني البائس".