"لا خَلَتكِ يا مصر بركة، ولا زال بِكِ حِفظ، ولا زال منك مُلْك وعِزّ، يا أرض فيك الخِباء والكنوز، ولك البر والثروة، سال نهرك عسلاً، كثَّر الله زَرعك، ودَرَّ ضرعك، وزَكَّى نباتك، وعظُمت بركتك وخصُبْتِ، ولا زال فيكِ الخيرُ ما لم تتجبري وتتكبري، أو تخوني وتسخري؛ فإذا فعلتِ ذلك عراكِ شَر، ثم يعود خَيركِ". (دعاء لمصر، يُنسَب لآدم عليه السلام حين آراه الله عزّ وجل مصر، فيما كان يُريه من خلقه)
خلال قراءتي التاريخ، حاولتُ كثيراً أن أضع يدي على ذلك الشيء الذي استفزّ كثيراً من المؤرخين القدامى، وجعلهم يولون مصر اهتماماً لم يحظَ به بلد. بحثتُ كثيراً، وفكّرتُ كثيراً، وفي النهاية سَلَّمتُ بأن هذا الأمر العجيب مما يُضاف لكثير من الأمور المرتبطة بمصر، وليست لها تفسيرات سوى أنها مصر.. خذها هكذا كما هي! تعالوا ننظر بعض ما قيل في كتب التراث عن مصر وبعض ما فيها.. وأُنبّه القارئ أن بعض ما قد يَرِد من أحاديث منسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، أو للأنبياء عامة عليهم السلام، أو للصحابة رضي الله عنهم، قد يكون متراوحاً بين قوة السند أو ضعفه، أو ربما لا يكون له سند من الأساس؛ لكننا نستعرضها لنتأمل كيف نظر الأسلاف لمصر. بين المَدح والقَدح اختلفت الأقوال بين مادح لمصر، يصل لجعل أرضها مقدسة مباركة من عند الله، وذامّ لها، جعلها موطناً للذلّ والفِتَن؛ فنرى حديثاً للصحابي الجليل عبد الله بن سلام رضي الله عنه يصفها بأنها "بلد معافاة، وأهلها أهل عافية، وهي آمنة ممن يقصدها بسوء، من أرادها بسوء كَبَّه الله على وجهه"، أما كعب الأحبار فيضيف: "من أراد أن ينظر إلى شبه الجنة؛ فلينظر إلى أرض مصر إذا ازدهرت"، وعبد الله بن عمر يُردفهما قائلاً: "البركة عشر بركات؛ ففي مصر تسع، وفي الأرض كلها واحدة، ولا تزال في مصر بركة أضعاف ما في الأرضين". وفي أهلها يقول عبد الله بن عمرو بن العاص: "قبط مصر أكرم الأعاجم كلها، وأسمحهم يداً، وأفضلهم عنصراً، وأقربهم رَحِماً بالعرب عامة، وبقريش خاصة"، وفي كتاب "فتوح مصر" لابن عبد الحكم، حديث منسوب للنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "قبط مصر؛ فإنهم أخوال وأصهار، وهم أعوانكم على عدوكم، وأعوانكم على دينكم"، وثمة حديثٌ آخر يؤكد الإمام السيوطي صحته، يقول: "اللهَ اللهَ في قبط مصر؛ فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لَكُم عدة وأعواناً في سبيل الله". أما ما جاء في ذمّها؛ فمنه تفسير بعض العوام قول الله تعالى {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} أنه قيل في مصر. وثمة قول منسوب لأبي هريرة رضي الله عنه، يقال إنه نقله عن الرسول صلى الله عليه وسلم: أن مصر هي "أول الأرضين خراباً". ومما يُنسَب لعمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال في وصف مصر: "ترابها ذهب، ونيلها عجب، ونساؤها لُعَب، ورجالها عبيد لمن غلب"، ويضيف الرواة لتلك العبارة إردافه: "يجمعهم مزمار وتُفَرّقهم عصا!".. إضافة لذلك، قيل قديماً عن خَلق مصر، أن الله تعالى حين خلق العالم، ذهبت كل صفة طيّبة إلى بلد، وفي ذيلها صفة ذميمة؛ فلما جاء دور مصر قال الرخاء: "أنا ذاهب"؛ فانطلق الذُل في إثره قائلاً: "وأنا معك"! والأرجح أن كثيراً من تلك الأقاويل به من المبالغات ما به؛ خاصة مع ازدياد جرأة بعض الكُتّاب والمحَدّثين على اختلاق الأقوال والأحاديث لأجل خدمة رجال الحُكْم؛ تلك السُّنة التي سنّها بعض السياسيين العباسيين، وبقيت في تصاعُد؛ خاصة في العصرين المملوكي والعثماني؛ الأمر الذي دعا رجلاً ثقة هو الإمام جلال الدين السيوطي رضي الله عنه -خلال توليه مهام القيادة الدينية في مصر- أن يمنع المُحَدّثين الجوّالين من رواية الأحاديث على قارعة الطريق، وأن يضع في كتاباته قوائم بأسماء المُحَدّثين والفقهاء والمؤرخين ممن كانوا في مصر، بترتيب قوة أسانيدهم ومصداقيتهم. النيل.. المقطم.. الإسكندرية أكثر ما ذُكِرَ في كتب القدماء: النيل والمقطم والإسكندرية، وهذا مفهوم لما لهؤلاء الثلاثة من دور كبير في الحياة اليومية المصرية. أما عن النيل، الذي كان في "الجبتانا/أسفار التكوين المصرية"، مفتاح بدء تجمّع المصريين الأوائل؛ فقد زخرت الكتابات بالأقوال عنه؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "النيل، وسيحان، وجيحان، والفرات، من أنهار الجنة". وكعب الأحبار يقول رَداً على من سأله عن خبر النيل في كتاب الله: "إني لأجد في كتاب الله، يوحَى إليه (أي النيل) في كل عام مرتين"، ويضيف مؤكداً أن النيل هو نهر العسل في الجنة، والعرب القدماء قالوا في النيل إنه -على حد قول المسعودي- من سادات الأنهار، إذا زاد غاضت (قَلّ مائها) له الأنهار والأعين والآبار، وأنه لعَظَمَته هو النهر الوحيد الذي يسميه أهل مصر "البحر"، وتلك تسمية مستمرّة حتى الآن بالذات في الجنوب. والمقطم عند المؤرخين جبل مبارك؛ ففي رواية للإمام جلال الدين السيوطي، أن المقوقس -بعد فتح مصر- طلب من عمرو بن العاص شراء المقطم من المسلمين بمبلغ مالي كبير؛ فاستأذن ابن العاص الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي نبّهه لأن الأمر مريب، وطلب منه أن يسأل المقوقس عن سرّ طلبه؛ فلما سأله، أجابه المقوقس أنه يجد في الكتب الدينية أن سفح المقطم ينبت فيه شجر الجنة، وهذا لأن الله تعالى حين أراد تنزيل الوصايا العشر على موسى عليه الصلاة والسلام سأل الجبال: أيها يحتمل وطأة هبوط الرسالة؛ فكلها رفض؛ عدا طور سيناء؛ فقضى الله عليهم أن كلاً منهم يعطي لطور سيناء من شجره جزءاً؛ فكلهم فعل ذلك إلا المقطم؛ فقد جاد بكل ما عليه من شجر؛ فلهذا هو أجرد؛ فكافأه الله بأن جعل ما ينبت فيه من شجر الجنة؛ فلما علم عمر بن الخطاب بذلك، أَمَر عمرو بن العاص أن يجعل المقطم مقبرة للمسلمين. وفي أهم الأحداث التاريخية في مصر، كالأوبئة والمجاعات، كثيراً ما نرى الناس يصعدون للمقطم للصلاة والدعاء، ويسجّل التاريخ أن في المرض الأخير للحاكم المحبوب أحمد بن طولون، صعد حشد غفير من الناس إلى المقطم: اليهود بالتوراة، والمسيحيون بالإنجيل، والمسلمون بالقرآن، وأخذوا جميعاً يُصلّون ويدعون الله وهم يبكون بحرارة، أن يشفي ابن طولون، ويطيل بقاءه بينهم. أما الإسكندرية فكان لها نصيب كبير من الاهتمام؛ ففضلاً عن دورها كأهم ميناء تجاري مصري منذ إنشائها وحتى يومنا هذا؛ فإنها حظيت بأقوال وأساطير وأوصاف، منها قولهم إن الرهبان الأقباط ارتدوا السواد لأن الإسكندرية كانت تضيء بشدة ليلاً في ضوء القمر لشدة بياض ونقاء رخامها وكثرته، وأن الإسكندري عندما بناها قال: "هذه مدينة فقيرة إلى الله تعالى، غنية عن الناس، فبارك الله فيها". ويقول بعض المؤرخين إن أهل الإسكندرية عند الله مرابطون في سبيل الله إلى يوم الدين، وهذا لأنهم أول من يلاقي العدو إذا غزاها، وبالغ البعض فقالوا: إن الميت فيها له أجر شهيد؛ لأنها "كنانة الله، فيها خير سهامه". وتتصاعد المبالغة بذكر أنها المقصودة ب"إرم ذات العماد"، وقيل في أحد الأحاديث الضعيفة إن "أربعة أبواب من الجنة منفتحة في الدنيا: الإسكندرية، وعسقلان، وقزوين، وجدة". مصر في النبوءة وثمّة نبوءة في حديث سنده منسوب لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن مما يجري في مصر -قُرب يوم القيامة- أن عدواً للمسلمين قادم من بلاد الأندلس (إسبانيا والبرتغال حالياً)، يُغير على شمال إفريقيا فيقتل ويخرّب؛ فيفرّ المسلمون وهو خلفهم؛ حتى يصل مصر؛ فيخرج له منها جيش يردعه ويطرده، ثم يطلب ذلك الرجل الأمان ويُسلِم طوعاً، وبعدها يخرج آخر من الحبشة ويغزو جنوب مصر؛ فيفرّ الناس منه إلى الفسطاط والجيزة، ثم يخرجون في جيش كبير ويهزمون الجيش الحبشي، ويأسرون منه عدداً كبيراً؛ حتى يُباع الواحد من الأحباش بعباءة. وهذا الحديث يُقال إنه "صحيح موقوف". الختام العبقري صلاح جاهين لخّص الأمر في قوله: "على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء"؛ فبالفعل لم يعرف التاريخ بقعة من الأرض جَرَت في ذكرها الأقلام مثل مصر، ولا قوم أثاروا -بجميلهم وقبيحهم- الأذهان والأقوال أكثر مما فعل المصريون؛ فمنذ فتحها على يد العرب منذ نحو 1400 سنة، وهي مُلهِمة الكُتّاب بين مؤرخ أمين ومؤرخ مأجور، ومُحَدّث ثقة، وآخر نَصّاب، وشاعر عاشق، ومستشرق مجذوب إليها.. وهي من قَبْلُ، حتى امتزاج طميها بالدم العربي، قِبْلة المؤرخين الأوائل أمثال: مانيتون، وهيرودوت، وهي الأوفر ذكراً في القرآن؛ فهي -بكل ذلك- مبتدأ التاريخ، وما سواها خبره. مصر أطول قصة في التاريخ، من قَبلنا كتبوا فصولها، وما سيكتبه القادمون بأقلامهم، يقف منتظراً ما نكتبه نحن بأفعالنا. (تم) مصادر المعلومات: - البداية والنهاية: ابن كثير. - حُسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة: الإمام جلال الدين السيوطي. - مُرُوج الذهب ومعادن الجوهر: المسعودي. - وصف أفريقيا: الحسن بن الوزّان الفاسي الشهير ب"ليون الأفريقي". - تحفة النُظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار: ابن بطوطة. - الخطط المقريزية: تقي الدين المقريزي. - سياحت نامه: أوليا جلبي. - عبر وادي النيل: إدواردو تودا. - القاهرة مدينة الفن والتجارة: جاستون فييت. - الأساطير المتعلقة بمصر في كتابات المؤرخين المسلمين: د.عمرو عبد العزيز منير. - بدائع الزهور في وقائع الدهور: ابن إياس. - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: ابن تغري بردي. - الجبتانا: مانيتون السمنودي.
واقرأ أيضاً هل آمن الفراعنة بالأنبياء والقيامة والصراط المستقيم؟ الرجل الذي وحّد المصريين بعد مذبحة عظيمة فسُمّيت البلاد على اسمه عندما عاشت مصر في حماية السحر والجنّ والتعاويذ!