المفكر والأديب ينظران للعالم بعيون غير تلك التي ينظر بها غيرهما، الأمر الذي يجعل رؤيته تلك تستحق النظر والتفكير، خاصة إذا ما ارتبطت بمجتمع يؤثر فينا بشكل أو بآخر، أو كانت في وجه مقارنة بين بعض أحوالنا وبعض أحوال الآخر.. هذا ما جعلني أرغب في أن أعرض على القارئ العزيز نماذج من نظرات بعض مفكرينا وأدبائنا المصريين والعرب، لبعض مظاهر أوجه الحياة المختلفة في المجتمع الغربي، منها الإيجابي، وكذلك السلبي. الأسرة الغربية بين الترابط والتفكّك الراحل عبد الوهاب مطاوع أبدى إعجابه -أكثر من مرة- بالطريقة التي يحافظ بها الزوج الأمريكي على دفء علاقته بزوجته وأبنائه، بلفتات بسيطة -مع الأسف يعتبرها الزوج الشرقي سخفا رومانسيا- كأن يُنهي مكالمته لزوجته بعبارة "أحبك"، أو أن يحرص على قضاء عطلة نهاية الأسبوع مع أبنائه بعيدا عن جو العمل ومشاغل الحياة، وأن يتذكّر دائما الاحتفال معها بعيد ميلادها، أو ذكرى زواجهما، أو عيد الحب. وعند مواجهة أي مشكلات زوجية يسارع بالجلوس مع زوجته والاستماع إليها، ثم مناقشة كلامها، وإذا لم يصلح هذا الأسلوب؛ فإنهما يلجآن لمستشار للعلاقات الزوجية. ملاحظة الأستاذ "مطاوع" تأتي في سياق مقارنته بين حرص الزوجين في الغرب على حماية زواجهما بتلك اللفتات، وما يفعله كثير من الأزواج في مجتمعنا؛ من تدمير زواجهم بالبخل بالمشاعر، باعتبار أنها "أمر مفروغ منه لا داعي لتكرار الحديث عنه". أما الكاتب صنع الله إبراهيم فيقدّم لنا تجربته الأمريكية من خلال عمله الرائع "أمريكانلي"، وفيه لفت نظري تعبيره برشاقة أدبية عما لمسه من تفكّك أسري في المجتمع هناك، على لسان إحدى الشخصيات النسائية الأمريكية، وهي تحدّث بطل الرواية تعليقا منها على مشهد فتاة مشرّدة تعيش على قارعة الطريق، فتقول السيدة إن هذه الفتاة انفصلت عن أمها في سنّ مبكرة؛ لترتبط بفتاها الذي كانت ترفضه هذه الأم، ثم بعد ذلك تعلّمت منه الإدمان، وانفصلت عنه بعد أن أساء معاملتها، وهي مع ذلك تعيش بين الإدمان والتشرّد والضياع التامّ، وعندما استفسر البطل عن سرّ معرفتها بتلك المعلومات أجابته ببساطة: لأنها ابنتي! الآخر... بين الجهل والتجهيل عن مشكلة جهل كثير من الغربيين بالآخر يتحدث د. علاء الأسواني، في ندوة له، عن بروفيسور أمريكي سأله ببراءة: "أنتم في مصر تعيشون في أهرامات.. أليس كذلك؟" فأجابه د. "الأسواني": "نعم.. أنا وأشقائي وأبي وأمي لكل منا هرمه، نفتح الباب كل صباح لتبادل التحيات، ثم نغلق الباب سريعا" فقال البروفيسور بدهشة: "ولماذا تغلقونه سريعا؟" وكأن هذا ما يدهش بالأمر (!!).. أما الدكتورة ليلى تكلا فتحكي عن شاب أكاديمي مثقف قابلها في إحدى الدول الغربية، وسألها باهتمام: "كيف يعبد المسلمون تسعة وتسعين إلها؟!". والدكتور جلال أمين يتحدث عن "التجهيل" بالآخر، في كتابه "عصر التشهير بالعرب والمسلمين"، حيث يتناول نموذجا للتناول الإعلامي والتثقيفي الأمريكي للمسلمين بعد أحداث 11 سبتمبر، هو المؤرخ والمفكر الأمريكي "برنارد لويس"، وكتابه "أين مكمن الخطأ" الذي سعى من خلاله لبثّ فكرة أن ما جرى في 11 سبتمبر، إنما هو نتيجة طبيعية لتراكمات الحقد على الغرب في نفوس المسلمين! وهو نموذج يسوقه د. "جلال" في سياق حديثه المستفيض في كتابه الرائع سالف الذكر عما قد تنتهجه الإدارة الأمريكية من الاستعانة بالأساتذة والمفكرين المؤثّرين على الشارع الأمريكي لأجل خدمة أجندتها الخارجية. السياسة وأهلها وعن الحياة السياسية يبدي د. علاء الأسواني إعجابه بمستوى الشفافية والحرية السياسية المتاحة في الغرب، مقدما نموذجين؛ أولهما في أمريكا عندما أجرى الرئيس رونالد ريجان جراحة عاجلة، فتناولت جميع وسائل الإعلام حالته الصحية باهتمام بالغ، وقدم الأطباء تقارير للإعلام عن تأثير الجراحة والأدوية على حالته النفسية بل والذهنية، وأثر ذلك على قراراته السياسية.. في مقارنة منه بين ذلك وبين ما جرى في مصر من حبس ومحاكمة الصحفي إبراهيم عيسى؛ بسبب تناوله صحة الرئيس مبارك في أحد مقالاته. النموذج الآخر من بريطانيا، حيث يقصّ د. "الأسواني" قصة مهاجمة إحدى المواطنات البريطانيات رئيس الوزراء الأسبق "جون ميجور" -خلال ولايته- وقذفها إياه ببيضة. فما كان من السلطات إلا أن برّأتها من تهمة الهجوم عليه؛ باعتبار أن ذلك كان من قبيل التعبير عن رأيها، وليس هجوما بدنيا على الرجل! تلك النظرات.. لماذا؟ الغرض من هذا الحديث ليس مجرد سرد لبعض المواقف التي شهدها أو علّق عليها بعض مفكرينا، بقدر ما هو لفت النظر لمدى تغلغل وتنوع وعمق نظراتهم لمختلف أوجه الحياة في الغرب. وليس فقط ذلك الجانب اللامع السطحي منها. إن كل موضوع مما تناولنا يستحقّ موضوعا وحده، ولكن الحديث في تلك الموضوعات ليس بيت القصيد، وإنما هو لفت نظر القارئ العزيز لضرورة متابعة وقراءة وفهم كتابات مفكّرينا، وكتّابنا المصريين والعرب عن مشاهداتهم وتحليلاتهم للغرب، فهم بمثابة "الروّاد" لهذا العالم، الذي دعونا نتفق على أنه مختلف كثيرا، بشكل يستحق أن نتلقى منهم فكرة عنه، قبل أن نرتاده بأنفسنا ونتعرف عليه.