في الحلقة الماضية تعرّفنا على تدريبات الجنود المصريين على عبور خط بارليف، وكيف استطاعت المخابرات المصرية الحصول على تفاصيل خط بارليف عن طريق العميل المصري رفعت الجمّال.. بعد ذلك بدأت رحلة تحديد الأيام المناسِبة للعبور في مكتب رئيس هيئة العمليات عندما وقف أمامه العقيد "صلاح فهمي" -ضابط التخطيط بهيئة العمليات- ليعرض عليه التقرير اليومي، وملخّص ما تبثه إذاعات العالم عن الموقف الدولي، وكل ما يتعلق بمصر وإسرائيل. ونظر إليه اللواء "الجمسي" طويلا، ثم قال له: "يا صلاح.. هناك كتيب أعدّته المخابرات العامة وطبعته، بعنوان "الأعياد والمناسبات اليهودية في إسرائيل"، هاتِ الكتاب وادرسه جيدا.. ولم يكن من الصعب أن يستنتج العقيد "صلاح فهمي" أن الهدف هو تحديد اليوم المناسب للعبور، وبالفعل أصبحت مسئولية تحديد الأيام المناسِبة للعبور على عاتق سبعة من الضباط تنحصر اتصالاتهم داخل دائرة مغلقة تماما عليهم وعلى رئيس هيئة العمليات، وكان البحث يقتضي تحديد أنسب الشهور، ثم أنسب الأيام في الشهر الذي يقع عليه الاختيار. كما كانت هناك دراسات الهدف منها البحث عن أفضل شهور السنة لاقتحام القناة من حيث المدّ والجزر وسرعة التيار واتجاهه، وكان من المهم في اليوم الذي يقع عليه الاختيار أن يتميز بطول ليله وأن يكون في شهر من الشهور التي لا تتعرض لتقلبات جو شديدة تؤثر على تحرك القوات. وبعد كل هذا البحث تبيّن أن شهر أكتوبر هو الأنسب من بين كل الاحتمالات؛ فهو في الثلث الأخير من العام وهو داخل الإطار الذي حدده الرئيس السادات للعبور، وهو من الشهور التي تُجرى فيها مناورات الخريف المعتادة مما يجعل التحركات العسكرية تتم تحت ستار المناورات والمشروعات التدريبية. كما أن شهر أكتوبر يحتوي على ثمانية أعياد يحتفل بها الإسرائيليون ومنها عيد الغفران المعروف بيوم كيبور، وعيد المظلات، وعيد التوراة، وتطرقت الدراسة إلى طرق الاحتفال بكل عيد من هذه الاعياد ومدى تأثيره على إجراءات التعبئة في اسرائيل. وتبين أنه في عيد الغفران (يوم كيبور) تتوقف الإذاعة والتليفزيون في إسرائيل عن العمل وهو يوم صيام وسكون تام، وهذا يعني استحالة استخدام الإذاعة والتليفزيون في استدعاء قوات الاحتياط وحتى إذا تم تشغيلها فإن أحدا لن يستمع إليها لأن الناس تعرف أن الإذاعة والتليفزيون لا تبث شيئا في هذا اليوم، مما يضطر القيادة الإسرائيلية إلى استخدام وسائل أخرى تستغرق وقتا طويلا حتى يتم تعبئة الاحتياط. وهذا الوقت الطويل هو المطلوب بالنسبة لقوات العبور. كما أن هذا اليوم يتميز بأن ضوء القمر سيكون ظاهرا في النصف الأول من الليل؛ لأنه يوم العاشر من الشهر العربي كما أن النصف الثاني سيكون مظلما، وهذا يناسب تماما خطة العبور، بحيث تنتهي وحدات سلاح المهندسين من إنشاء وتركيب الكباري في ضوء القمر ليستمرّ تدفق العبور بالأفراد والأسلحة والمعدات تحت جنح الظلام. كما سيصادف شهر أكتوبر أن يكون أيضا شهر رمضان وهو شهر الصيام مما يساعد على خداع العدو أكثر وأكثر. كما سينشغل الرأي العام في إسرائيل كثيرا مع بداية أكتوبر في حملات الانتخابات الخاصة ليوم التصويت في انتخابات الكنيست (البرلمان) والمحدّد لها 28 اكتوبر 1973. وسيكون فرق المنسوب بين المد والجزر في القناة أقل ما يمكن، مما يتيح أنسب الظروف لعبور القوارب المطاطية وبناء الكباري. وبالنسبة للجبهة السورية كان هذا اليوم مناسبا ولا يمكن تأجيله عن بدايات اكتوبر لتجنّب موسم البرد الشديد وتساقط الجليد. وانطلاقا من كل هذه الاسباب بدأ التنسيق مع القيادة السورية لعقد اجتماع مشترك، وبالفعل عقد الاجتماع في الإسكندرية يوم الثلاثاء 21 أغسطس 1973 واتفق المجتمِعون على أن شنّ الحرب يجب أن يبدأ قبل نهاية أكتوبر تجنّبا لموسم الجليد في سوريا، كما اتفق الجانبان على أن القوات المسلحة في الجبهتين جاهزة لتنفيذ المهمة المسندة إليها. لكن اليوم والساعة ظلا موضع جدل.. كان هناك اقتراح سوري ببدء الحرب أحد أيام الأسبوع الثاني من سبتمبر بين 7 و11 من ذلك الشهر، وكان الاقتراح الثاني يحدّد يوم الهجوم ما بين 5 و11 أكتوبر، وكان أنسب هذه الأيام بالنسبة للجبهة المصرية هو السادس من أكتوبر. وبالنسبة لساعة الصفر اقترح الجانب المصري أن تكون بعد الظهر؛ حيث يكون قرص الشمس قد مال نحو الغرب، وأصبحت أشعّتها خلف المدفعية المصرية، وفي مواجهة العدو مباشرة، مما يمثل نقطة تفوق للجانب المصري، إلا أن الجانب السوري اعترض على ذلك؛ لأن القوات السورية تتجه في قتالها نحو الجنوب الشرقي، ولذلك يفضّل الجانب السوري أن تكون ساعة الصفر صباحا مع أول ضوء. وبعد مداولات تم رفع الأمر للقيادة السياسية في البلدين، وتشاور الرئيس السادات مع الرئيس السوري حافظ الأسد، ولما كان السادات هو قائد القوات الموحدة للدولتين فقد حدّد ساعة الصفر في الثانية ظهرا يوم السادس من أكتوبر.. في الحلقة القادمة سنتابع كيف عرفت إسرائيل بشأن قيام مصر وسوريا بشنّ الحرب، بل عرفت اليوم أيضا، ولكن كيف تصرّفت بعد ذلك.. هذا ما سنعرض له في حلقاتنا التالية.. فتابعونا،،،
