نعم سيدة البرطمانات الأولى.. بلا منازع، ولا تقُل لي إن جدّتك تملك برطمانات أكثر مما تملكه جدتي أو إن أمك تصرّ على الاحتفاظ بكل العلب الفارغة، فمهما كانت ثروتكم من هذه الكراكيب فهي لا تضاهي ثروة جدتي التي جمعتها بصبر وإخلاص طيلة 70 عاما. ولا تقتصر هذه الثروة على البرطمانات فقط، ولكنك ستجد ملابس قديمة، ولعب أطفال معطلة، وأدوات مطبخ مفكّكة.. وأحمدك يا رب. ويرجع سبب احتفاظها بهذه الأشياء إلى أملها في أن تجد من يُصلحها أو تَصلُح له، فيبعثها من جديد، فجدتي من قدماء المصريين الذين يؤمنون بالبعث ويبنون له أهراما من الكراكيب، تحت السرير، فوق الدولاب، في المنور، فوق السطوح، وفي أي مكان صالح للتخزين، المهم ألا ترمي شيئاً أبداً!!. لطالما تعجبت من عادات جدتي غير المفهومة، فجدتي تحب الاحتفاظ بالأشياء الجديدة.. جديدة لم تمسّ.. وتحب الاحتفاظ بالأشياء القديمة حتى وإن كانت غير صالحة للاستخدام، دولابها ممتلئ بالملابس، وظلت لسنوات وسنوات لا ترتدي سوى جلباب أسود وبضعة جلابيب منزلية، تحتفظ بذهبها أيضا دون أن تلبسه سوى في المناسبات الخاصة جدا، وبالأواني حتى النحاسية منها والتي لم تعد مُستخدمة؛ بهذه العادات كانت الجدة مؤسِّسة مبدأ "النيش في الجهاز.. يا نؤجّل الجواز". نعم "النيش"، كارثة هذا العصر، فخطورة النيش وتهديده لحياة البشر وسعادتهم أكبر من أسلحة الدمار الشامل والأوبئة، لقد رأيت بعيني أفراحا تنفضّ وأحبّاء يفترقون لمجرد خلاف حول كتابة طقم الصيني في القايمة أو أطقم الشاي أو... أو... إلخ، من مستلزمات النيش العصري اللازم لكل بيت مصري. رأيت نساء يغلقْن خزائن "النيش" على أطباق زجاجية وبايركس وصيني وأطقم شاي وقهوة وملاعق ذهبية، ويأكلون هن وأزواجهن وأولادهن في أطباق بلاستيكية لا يزيد ثمن الواحد منها على 3 جنيه. رأيت رجالا يتداينون ويطلبون سُلفا من أشغالهم من أجل أن يجهّز الواحد منهم ابنته بكل تلك الأشياء التي لم أرَ واحدة من صديقاتي أو قريباتي تستخدمها من الأصل، ولكنها موجودة؛ لمجرد الاستعراض، وكأنها قررت أن تفتح متحفاً للأطباق والأكواب. لن أنسى ذلك اليوم وتحديدا ذلك الحوار التاريخي بين جدتي وابنتها الصغرى (خالتي)؛ حيث تقترح جدتي أن تقبل خالتي عرضا من أحد محلات المستلزمات المنزلية بأن تشتري 4 أطقم، كل طقم يحوى حوالي 200 طبق من مختلف الأحجام والأشكال، بسعر ممتاز وهو 2000 جنيه، وألفين جنيه وقت زواج خالتي كان مبلغا لا يُستهان به إطلاقاً، ولكن ليست هذه هي القضية. القضية هي صرخة خالتي في ذلك الوقت: "يا لهوي 800 طبق يا ماما.. ليييييييييييييييه!!"، فتردّ جدتي بعقلانية شديدة: "عشان تحطّيهم في النيش"!، وهنا تفجّر خالتي قنبلة من العيار الثقيل: "ومين قال لحضرتك إني هاجيب نيش أصلا"، وهنا يظهر على وجه جدتي العديد من الانفعالات المختلفة في نفس الوقت؛ فهي مندهشة، وغير مصدّقة، وغاضبة، ولا تجد ما تقوله، وأشياء كثيرة تُسفر عن دخولها في صدمة لمدة نصف دقيقة تظل خلالها محدّقة في وجه خالتي، حتى تبدأ في الاستيعاب، فتخرج من بين شفتيها ثلاث كلمات بصعوبة: "أمّال هتجيبي إيه؟!" تردّ خالتي بفخر وابتسامة تعلو وجهها وكأنها فازت بالجولة الأولى: "مكتبة". يبدأ غضب جدتي في الخروج عن حدّه، وتبدأ في الصراخ: "مكتبة تعملي بيها إيه؟!" تردّ خالتي ببديهية: "أحط فيها كتب"، فترد جدتي: "وهتحطي الأطباق فين؟"، ترد خالتي ببساطة: "في المطبخ طبعا.. ده المكان الطبيعي للأطباق، وبعدين أنا هاجيب أطباق على قدي، ويا دوب لو عملت عزومة ولا حاجة.. ما إنتي عارفة يا ماما أنا بحب التغيير، ومن وقت للتاني ممكن أشتري حاجة جديدة". وهنا ترمي جدتي بآخر ورقاتها: "والناس تقول علينا إيه لو شافوا جهازك داخل مافيهوش الحاجات دي والكراتين فاضية؟"، ترد خالتي بردّها الحاسم القاتل الأخير: "هابقى أملأ لك الكراتين كتب يا ماما"!!!. هذا ليس فصلا من رواية تحكي صراع الأجيال؛ فهو ما حدث بالفعل، ولا فارق كبيرا بين كراكيب جدتي غير الصالحة للاستخدام وأشيائها الجديدة غير المصرّح باستخدامها؛ فكلها في منطق خالتي كراكيب تملكنا ولا نملكها.