داخل المعمل نتعلم جميعاً الحذر في التعامل مع الأدوات الزجاجية كيلا ننجرح، وهو بالطبع أهون الأمور! وأيضاً نتعلم الخوف من استعمال المواد الكيميائية التي تكون شديدة الخطورة بدءاً باحتراق الجلد بالصودا الكاوية أو انفجار الأنبوب أثناء تسخينه على النار، ولا تنتهي بقفز الأحماض المركّزة إلى وجهك وعينيك؛ خاصة حمض الكبريتيك المركّز المعروف بماء النار!. لذلك عند دخولك إلى أحد معامل الكيمياء العضوية أو الكيمياء الصيدلية سينتابك الفزع أول الأمر لدى رؤيتك لتلك الكائنات التي ترتدي المعاطف البيضاء، وعلى رؤوسها تلك النظارات العملاقة التي تحجب نصف الوجوه، وتمسك بالأنابيب بماسك خشبي؛ لتقوم بالتجارب المريبة بينما تلمع أشعة النيران على الوجوه!. في أحد معامل الكيمياء العضوية كان من ضمن خطوات إحدى التجارب هو إضافة الacetic anhydride وهو حمض الأسيتيك منزوع الماء، وهو شديد التطاير يصيب بحرقان شديد عند استنشاقه، لذلك كانت تنبيهات المعيدين واضحة وحازمة بهذا الخصوص؛ حرصاً على صحتنا؛ إذ نصحونا بارتداء النظارات الواقية كيلا يُمتص عن طريق غشاء العين الرقيق فيلهبها، وإلى الإسراع بسحب حاجاتنا منه وغلق الزجاجة سريعاً بإحكام، ويستحسن لو كتمنا أنفاسنا أثناء السحْب وأثناء التجربة ونبدأ في استعمال الخياشيم الخفية لدينا!. أعيدت التعليمات أكثر من مرة حتى أصابنا الملل، وبعدها بدأنا العمل بالفعل، التزم معظمنا بالتوجيهات وأحياناً كنا نجد صعوبة في ارتداء النظارات الواقية فوق عويناتنا الطبية، فنضطر لخلعها، وعندها كنت أبتسم لرؤية من يعانون ضعف البصر من الزملاء يتخبّطون في أرجاء المعمل بسبب عدم وضوح الرؤية!. كانت الأمور تسير على ما يرام.. ارتديت العوينات الواقية.. سارعت بسحْب ما أحتاجه وأحكمت إغلاق العبوة وأنا أكتم أنفاسي، حتى بدأت في الإصابة بأسفكسيا الاختناق وبدأ لوني يميل للزرقة! لم يمر وقت طويل حتى بدأت أشعر بحرقان بعيوني.. أغمضتها وفتحتها مراراً لكن الحرقان كانت تزيد حدته، وبدأت أشعر بحرقان أنفي أيضاً، وبدأت العيون تسيل، والأنوف تسيل دون أن أعي السبب؛ فلقد التزمت بالتعليمات كما يجب.. رفعت رأسي لأرى صديقتي في حالة أسوأ.. إذ التهبت ملتحمتها للغاية حتى صارت جديرة بتمثيل أقوى أفلام الرعب، وبدأت الدموع تنهمر.. والظاهرة تنتشر.. الكل بدأ في العطس والسعال، والكل يمسك أنفه وبيده حفنة من المناديل الورقية يحاول منعها من المزيد من السيلان، وأصبحت أرى عشرات الأزواج من العيون الحمراء حولي للزملاء والزميلات.. الكل ينظر لمن حوله في تساؤل بينما عجز البعض عن إكمال الجمل المستفهمة جرّاء سوء حالتهم لتصل لحد البكاء الصريح!!. توجّه أحدنا إلى المعيد يستنجد به وهو يمسك بحافة مكتبه كأحد ضحايا الحروب الكيميائية يتعلق بحافته في استجداء! اندهش المعيد لما يجري، لكن سرعان ما انتقلت له نفس العدوى، وبدأت عينه في الالتهاب وأنفه تسيل صارخاً: -" ليه كدة؟ ليه كده؟"! ثم استبدّ به الغضب معلناً أن هناك من لم يلتزم بالتعليمات، وجعل المعمل كله يصاب بتلك الحالة الفذّة من البكاء!.. وهنا كان الأمر قد اشتدّ، ففتح أحدنا الباب فاراً، وانطلقنا جميعاً في الرواق هاربين مستغيثين نستنشق الهواء النقي كالغارقين في لهفة شديدة، ونفرك عيوننا في توحّش لنتخلص من الحرقان الشديد!. كان مشهدنا يصدم من يرانا بالخارج؛ حيث يرون حوالي عشرين طالباً وطالبة يبكون ويفركون عيونهم الحمراء ويسعلون ويعطسون!! وانضم إلينا المعيد يبكي أيضاً بعيون حمراء حتى أوشكنا على صنع فيلم تراجيدي ممتاز!. توجّه أحد العمال أخيراً لداخل المعمل لنعرف أن أحد الطلبة ترك زجاجة الحمض مفتوحة بعد أن أخذ حاجته منها ليحيل المعمل إلى معمل المبكى!.. بعد إعادة تهوية المعمل وتماسك البعض عدنا للعمل تاركين من ما زال يكفكف دموعه بالخارج!.