المكان: عربية السيدات في مترو الأنفاق الزمان : أي وقت طول النهار وفي عز الزحمة
يصعد بائع سوبر جلو -نوع من أنواع الصمغ- وينادي على بضاعته بشِعر منظوم، يبيع واحدة والثانية، ويشير لصديقه في المحطة التالية بأن العربية فيها سبوبة كويسة؛ فيصعد بائع الشيكولاتة، ويبدأ غنوته بأنه سيبيع الستة بجنيه ومن ثم يبدأ فصاله مع نفسه -السيدات منشغلات بالتقوقع لكي لا يلمسهم الباعة المتجولون في الزحام- حتى يصل إلى 12 بجنيه بعد أن يقسم بجميع الأيمان وأغلظها أنه لن يربح مليماً واحداً.. فلماذا يبيع إذن؟!!!! ومن بعده سيدة تبيع أدوات التجميل وأخرى تبيع الشرابات.
وفي يوم ما فوجئت بواحدة تبيع خضروات نصف مجهزة للموظفات!! آه والله سوق خضار في المترو.
وهناك الأولاد الصغار الذين يتركون لك ورقة تحكي قصة اليتيم الذي مات أبوه وله 17 أخا، وأنه خرج من المدرسة ليحاول البحث عن رزق لهم، ويذيله بآية قرآنية مكتوبة بشكل خطأ في كثير من الأحيان، ويتغير الوجه ولا تتغير الورقة، وأحياناً كثيرة يكون موزع الورقة امرأة؛ والغريب أنها شابة لا يبدو عليها أنها أتمت العشرين بعد، وتحكي أن لديها 7 أبناء وزوج توفي عنها وتركها، وإذا حسبتها في خيالك؛ فلابد أن تكون قد تزوجت وهي في الثامنة من عمرها لتنجب هذا العدد الذي تدَّعيه في الورقة.
وفجأة.. كمين في إحدى المحطات، هرج ومرج في عربة السيدات، البعض يحاول الاختفاء أو تصنّع البراءة، ولكن من الواضح أن رجال الأمن يحفظون وجوههم ويعرفونهم جيدا، ويشكر الجميع الرب الذي أعاد الهدوء إلى العربة.
كلاكيت ثاني مرة.. المكان: عربية السيدات في مترو الأنفاق برضه. الزمان: أي وقت طول النهار بس مش زحمة أوي المرة دي.
سيدة منتقبة لا يظهر منها شيء ولا حتى عينيها لكي ننظر فيهما ونحاول اكتشاف صدقها من كذبها، تقف لتقول: "السلام عليكم، أكيد ناس منكم يعرفوني واشتروا مني قبل كده، البوليس وقفوني وأخدوا بضاعتي ودفّعوني غرامة، والله لو عندي أي حاجة أبيعها كنت بعتها، ساعدوني بأي حاجة علشان أجيب بضاعة تاني واسترزق".
وتدخل في سلسلة متواصلة من الدعاء؛ تقوم بعض السيدات بفتح حقائبهن ومنح الفتاة التي بدا من صوتها أنها شابة في ريعان الشباب بعض الجنيهات.
يتصاعد من موبايل صيني صوت إعلان حملة "أعطِ المحتاج ولا تعطِ المحتال".
أتعجب من شكوى البعض من عدم نظام عربات المترو ومن الضوضاء؛ في الوقت نفسه الذي يتعاملون فيه مع هؤلاء الباعة، ويقومون بمنح صدقاتهم لهؤلاء الذين اصطلحت الحملة تسميتهم بالمحتالين؛ فالمنطق يقول: إنه يلزم إذا ضرك شيء أن تقاطعه وتتوقف فورا عن التعاطي معه؛ ولكننا -ولا أعرف لماذا؟- مغرمون بالازدواجية!
البعض سيبرر هذا بأنهم يبيعون أشياء يحتاجها الجميع ويزيد عليها الطلب؛ لأنها أرخص من بضائع المحلات لأن بائعها لا يتحمل أي شيء من إيجار ومرافق واستئجار عمالة؛ فهو محل متنقل لا يكلف نفسه سوى علبة سجائره وعلبة كشري أو شقة فول. وأيضا ما يستطيع هؤلاء الغلابة مع مشكلة البطالة؛ خاصة في القاهرة التي احتشدت بالباعة الجائلين ومندوبي المبيعات. وأصبحت مطاردة الشرطة لهم سجالا يوما لا ينتهي وحربا لا يخبو وطيسها.
ماذا تفعل هذه الفئة من الفتيات اللائي ارتدين النقاب والإسدال لإرضاء الله، وفي الوقت ذاته لم يجدن فرصة زواج مناسبة أو فرصة عمل مناسبة لوضعهم الحالي؛ فأصبحوا صورة سيئة للمنتقبات بجلستهم أمام الجوامع لبيع المصاحف الصغيرة والعطور وأحياناً للشحاذة، بعد أن لفظتهم أماكن العمل والشركات التي لا تضع شروطاً للموظفة سوى كلمتين "حسنة المظهر"؛ فما بال من تختبئ تحت ملابسها؛ فهي بالتأكيد غير صالحة للعمل بهذا المنطق أيا كان مؤهلها أو خبرتها أو مهاراتها.
والمحزن أن أغلب هؤلاء الشباب قد منحهم التعليم المجاني فرصة الحصول على مؤهلات عليا؛ ولكن الظروف الحالية قد سلبت منهم حق العمل الشرعي وتحقيق الذات؛ فمعظم الباعة الجائلين بوسط البلد والأسواق الكبرى بالأحياء المختلفة هم من خريجي كليات التجارة والحقوق والآداب وغيرها.
آلاف من المؤهلات العليا لا يجدون مكانا لهم ولبضاعتهم سوى الأرصفة، ورغم ذلك ففي حال أن تستطيع الشرطة اللحاق بأحدهم تبدأ في معاملته وكأنه بائع مخدرات وليس بائع "بناطيل جينز"، وما إن يدفع الغرامة ويتم الإفراج عنه وعن بضاعته بالتأكيد ليس لديه سوى حلّين لا ثالث لهما: إما أن يعود للشارع وللحرب اليومية ويرضى بالفتات المتبقي بعد دفع ثمن البضاعة والغرامة والأكل والسجائر -ده إن تبقى أي شيء- أو يتحول إلى تاجر مخدرات أو نصاب؛ ففي الحالتين نهايته "الكلابشات"، أو يحاول القفز في أول سفينة تطلعه من "مصر المحروقة / المحروسة سابقاً"؛ حتى ولو هيغرق في السكة.
من أي طبقة أنت؟ • المحتاجين • المحتالين • الراغبين في الهجرة • ولا حاجة من دول