ظروف ميلاد ذلك التنظيم مثيرة بحق، فقد وُلِدَ في أجواء دامية ماديًا ومعنويًا. فمن الناحية المادية كان الجو المحيط هو حالة التناحر الشرسة بين أمراء الحرب الأفغان الذين انهالت عليهم الثروات من اقتطاعهم قسمًا من أموال المعونات المرسلة للمجاهدين الأفغان والشعب الأفغاني البائس، بلغ الأمر أن عدد مَن سقطوا مِن قادة الميليشيات الأفغانية ضحايا الاغتيال، كان أكبر من عدد رفاقهم الذين سقطوا في ساحة المعركة ضد السوفيت. أما معنويًا، فقد كان الفكر التكفيري ينمو ويترعرع، ويتسع نطاقه ليشمل لا الحكام المغضوب عليهم من المتطرفين فحسب، بل كل من يتعامل مع دوائر حكومات هؤلاء الحكام أو يشارك في الانتخابات أو وظائف السلطة.. ولم يكن أيمن الظواهري استثناءً لذلك، فقد اعتنق نفس الفكر، وزاد من نزعته الدموية الحادة في تطبيقه تجربة السنوات التي قضاها في السجن، حتى أن رفاقه في المستشفى الذي عمل به لفترة في بيشاور لاحظوا أنه قد تحوّل لشخص عدواني متحفّز يُفسّر كل كلمة بسوء نيّة، وأن هامش معارضته الأخلاقية للقتل الجماعي والجرأة على سفك الدم قد صار أكثر ضيقًا وضعفًا! لم يعدم ذلك الاتجاه من عارضوه وتصدّوا له، فقد وقف المناضل الفلسطيني دكتور عبد الله عزام في وجه ذلك التيار، وشدد على حرمة المسلم على المسلم، وكان يرى أن أولوية جهاد المسلمين هي حل المشكلة الفلسطينية، وكان بالفعل قد ساهم في إنشاء حركة جديدة لتكون قوة إسلامية (والتي أصبحت تعرف باسم حماس) تحقق التوازن مع القوة العلمانية الممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات. كانت رؤية "عزام" تتعارض تمامًا مع رؤية "الظواهري" الرامية لإشعال الثورات والاضطرابات في البلدان الإسلامية كوسيلة لإسقاط أنظمتها والاستيلاء على الحكم، وللأسف، فشل "عزام" في المنافسة مع "الظواهري" على استقطاب أسامة بن لادن الذي سرعان ما رجحت عنده كفة أيمن الظواهري الذي نظّم هجمات معنوية ضارية على "عزام" ومنهجه، بلغت حد اتهامه بالعمالة للمخابرات الأمريكية ودس البعض لاتهامه ببيع المشاريع الخيرية لمنظمات مسيحية غربية. وفي الحادي عشر من أغسطس 1988، عُقِدَ اجتماع بطلب من عبد الله عزام، ضم "بن لادن" و"الظواهري" ومجموعة من قادة الجهاد العربي في أفغانستان؛ لمناقشة مستقبل الجهاد فيما بعد انسحاب السوفيت، وجرى تصويت على إنشاء منظّمة تضم العرب المجاهدين. في ذلك اليوم، بدت في كلمات "بن لادن" بشدة نزعة الزعامة، حتى أنه قد أغفل -عامدًا- ذكر دور "عزام" وفضله كمؤسس حقيقي للجهاد العربي في أفغانستان. "الظواهري" ومن معه كانوا يعارضون تمامًا رؤية "عزام" للجهاد تم الاتفاق على تسمية المنظمة "القاعدة العسكرية".. وبقيت مسألة اختيار زعامة له. كان المنطق يقتضي أن يكون عبد الله عزام هو ذلك الزعيم، ولكن تيارات عدة كانت تنفر من ذلك. ف"الظواهري" ومن معه كانوا يعارضون تمامًا رؤية "عزام" للجهاد، والمصريون والسعوديون كانوا يخشوْنه لانتمائه ل"الإخوان المسلمين"، وكانوا يقلقون من احتمال أن يوجه طاقة مريديه لصالح التنظيم المذكور، وكان للسعوديين سبب إضافي للرغبة في التخلّص منه، هو رغبتهم في وجود رجل سعودي على رأس القاعدة يمكنه وضع مصالح المملكة في الاعتبار. وبالإضافة لكل هؤلاء، كان أمير الحرب الأفغاني "حكمتيار" قد غضب على "عزام" لمؤازرته منافسه العنيد "مسعود". ما عُرِفَ بعد ذلك هو أن لحظة ميلاد "القاعدة" لم تكن في ذلك الاجتماع سالف الذكر، بل كانت قد أُسِسَت مسبقًا بين "بن لادن" و"الظواهري" وبعض المجتمعين المتفقين معهما في الفكر، وما كان ذلك الاجتماع سوى تمثيلية لإعلان الميلاد. تزامنت مع ذلك منافسة ضارية بين تنظيميّ "الجماعة الإسلامية" بقيادة "عمر عبد الرحمن"، و"الجهاد" بقيادة "الظواهري"، على استقطاب "بن لادن" بثروته الطائلة، ولكن هذا الأخير حسم المنافسة باختيار التحالف مع "الظواهري". وفي نفس الوقت، كانت حملة "الظواهري" لتشويه صورة "عزام" قد بلغت ذروتها بتصعيد الاتهامات له بالفساد والعمالة، حتى بدأ ترتيب عملي لمحاكمته والتحقيق معه، واستقبل المتهم المناضل "عزام" ذلك بهدوء غريب. وفي يوم 24 من نوفمبر 1989 وبينما كان عبد الله عزام يستقل سيارته مع اثنين من أبنائه، أطاح بهم انفجار قنبلة معدة مسبقًا وزنها عشرون كيلو جرامًا من مادة TNT. في نفس اليوم الذي كان فيه "الظواهري" ينشر في بيشاور شائعة عمل "عزام" لصالح الأمريكيين، وفي جنازة عبد الله عزام، كان أيمن الظواهري يمدح الشيخ ويثني عليه بحرارة شديدة! السعودية 1989 في خريف 1989 عاد "أسامة" للسعودية، وقد بلغ الحادية والثلاثين من عمره، وقامت الصحافة السعودية ب"نفخ" صورته، حتى استقرت في قرارة نفسه فكرة أنه خُلِقَ لأجل "مهمة مقدّسة"! لكن شهرته كان لها أثر سلبي على نظرة الشعب للأسرة الحاكمة ونمط حياتها المفرط في البذخ. وكانت ظاهرة البطالة المفرطة تخلق شبابًا خاوي الفكر والطموح، التقط "بن لادن" هؤلاء وبدأ يُحدّثهم هنا وهناك عن "الغرب الكافر" الذي ينظر للمسلمين كالنعاج، وأن الحل الوحيد لإيقاف التدخل الأمريكي في الشرق الإسلامي هو توجيه الضربات له؛ حتى يخرج الأمريكيون من بلاد المسلمين ويعودون لبلادهم. وينسب المؤلف ل"بن لادن" أنه قال تعليقًا على اجتياح إسرائيل للبنان بضوء أخضر من أمريكا "بينما أنظر للأبراج المدمّرة في لبنان، انقدح في ذهني أن نعاقب الظالم بالمثل، وأن ندمر أبراجًا في أمريكا لتذوق بعض ما ذقنا!". مغادرة "بن لادن" أفغانستان كانت بداية مرحلة جديدة من التخبّط له وللقاعدة وهكذا أصبح حديث "بن لادن" يُمثّل مشكلة للنظام السعودي الذي كان يحاول أن يحل محل إيران كحليف استراتيجي لأمريكا في الشرق الأوسط، ومن ناحية أخرى بدأ يهدد العلاقات السعودية اليمنية؛ حيث كان "أسامة" يحاول إقناع السلطات السعودية بالتدخل في جمهورية اليمن الجنوبية الشيوعية لقلب النظام الشيوعي، وبعد أن اتّحدت اليمن في دولة واحدة قام "بن لادن" بتوجيه ضربات من خلال تنظيم القاعدة للاشتراكيين اليمنيين، مما دفع علي عبد الله صالح -الرئيس اليمني- للاحتجاج لدى الملك فهد الذي أمر أسامة بن لادن بالتوقّف عن دس أنفه في شئون اليمن، وتم سحب جواز سفره، الأمر الذي سبّب له صدمة أعادته للواقع، وجعلته يفيق من نشوة "البطولة" التي عاش فيها طويلاً! بعد ذلك عاد "أسامة" لإثارة المشاكل بأن صوب انتقاداته لصدام حسين الذي كانت السعودية قد وقّعت معه توًّا معاهدة عدم اعتداء، ومرة أخرى حذّرته السلطات من إفساد العلاقات السعودية- العراقية، ولكن تلك العلاقات انهارت بالفعل بمفاجأة اجتياح العراق لدولة الكويت! فور وقوع الغزو أصاب الرعب السعوديين من احتمال تعرّضهم لغزو مماثل، وهنا بدأت فكرة الاستعانة بالأمريكيين تتردد، الأمر الذي خشاه "بن لادن"، فسعى لإقناع السلطات بعدم طلب عون الأمريكيين، وعرض أن يقدّم مائة ألف مقاتل يتبعونه خلال ثلاثة أشهر، وعندما واجهه وزير الدفاع السعودي بحقيقة اختلاف الطبيعة الجغرافية لأفغانستان -التي اعتاد أسامة القتال فيها- عن تلك الكويتية؛ حيث يصعب تطبيق حرب الجبال التي يبرع فيها "بن لادن" ورجاله، لم يجد "أسامة" ردًّا منطقيًا، ولما سأله الوزير: "ماذا ستفعل حين يضربكم بصواريخ محمّلة بأسلحة كيميائية وبيولوجية؟" لم يكن في ذهنه أي خطة عملية واكتفى بالحديث عن "الإيمان". بالطبع رفضت السلطات السعودية عرض "بن لادن" الذي حاول استقطاب رجال الدين لصف فكرته، وذكرهم بالحديث القائل "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" فأجابه أحد العلماء الكبار وهو يشير لعنقه بأن مناقشة هذا غير ممكنة(!!).. وخلال أسابيع، وصل نحو نصف مليون جندي أمريكي إلى السعودية، وكان ذلك مسمارًا آخر في نعش العلاقة الطيبة بين "بن لادن" والنظام السعودي. في ظل تلك الأجواء، قرر "بن لادن" العودة لباكستان للتوسط لإنهاء الحرب الأهلية الأفغانية، وبالفعل أقنع السلطات السعودية بإعادة جواز سفره له بعد أن وقّع على تعهد بعدم التدخّل في السياسة السعودية ولا سياسة أي بلد عربي آخر، وفي مارس 1992 وصل إلى مدينة بيشاور. وخلال المفاوضات بين الخصمين الأفغانيين "حكمتيار" و"مسعود"، اختلف موقف "بن لادن" عن موقف السعوديين، ومنذ تلك اللحظة انهار التحالف بين أسامة بن لادن والنظام السعودي! كانت جهود "بن لادن" لمنع الحرب الأهلية الأفغانية قد انهارت.. وهنا أدرك أن عليه مغادرة أفغانستان.. وكانت تلك بداية مرحلة جديدة من التخبّط له وللقاعدة.. من محطة جديدة.. السودان.. (يُتّبع) اقرأ أيضا: أسامة بن لادن.. "المرعب" البُروج المُشَيَّدة.. القاعدة والطريق إلى 11 سبتمبر