للموت هيبة وجلال، حتى ولو كان موت حيوان صغير، ولكننا لم نعد نشعر بهذه الهيبة أو الصدمة لسماع خبر الموت، فأخبار الموت تملأ نشرات الأخبار، عشرات القتلى يوميا في العراق، وأفغانستان، وكل بقاع الأرض، الموت يحصد شباب نجع حمادي في صباح العيد، ويزور خالد سعيد في الإسكندرية، الموت زائر يومي حتى لو لم يكن مرحّباً به. ولكن هل ضياع هيبة الموت واعتياد القسوة علامة من علامات التخلف والانهيار الأخلاقي في مجتمعنا؟ سؤال يجب أن نجيب عليه جميعاً.. بالأمس جاءني صوت صديقتي حزيناً عبر الهاتف، لقد ماتت قطتها أثناء إجراء عملية جراحية لها (للقِطة) لاستئصال الرحم، فكّرت أن أذهب لمواساتها، فوجدتها تجلس حزينة، وشعورها بالذنب يقتلها، فأثناء زيارات سابقة كانت قطتها تعاني مرضاً ما يجعلها تسقط إفرازات، وكانت صديقتي تكتفي بوضع قطع قماش لحماية الأثاث أو منعها من الجلوس في بعض الأماكن لكي لا تتسخ، تركتها صديقتي حتى بلغ بها المرض مداه، وعندما ذهبت للبيطري كانت قطتها في حاجة لعملية جراحية وماتت أثناءها، قالت والدموع في عينيها: "لقد أهملتها"، قلت لها: ما متوسط عمر القطة؟ قالت: من 15 إلى 20 عاما، قلت لها: وكم عاشت؟ فردّت: 4 سنوات، وأكملت حديثها عنها، وكيف كانت تؤنسها في وحدتها وتسمع كلامها. ولم أجد كلمات أواسيها بها سوى أن الموت مصيرنا جميعا، وأن هذه المخلوقات بالتأكيد ستذهب إلى الجنة؛ لأنها لا ترتكب آثاماً تُذكر، أو ربما تعود روحها إليها في قطة أخرى. وبدا كلامي ساذجاً جداً، وربما تبدو لكم القصة بكاملها كذلك، فما هذا الترف الذي يجعل شخصاً يربي حيواناً ويهتم له كل هذا الاهتمام في بلد "يفرم" البني آدمين كل يوم.. نعم (يفرم من الفعل فرم يفرم فهو مفروم). ولكني خرجت من عندها محمّلة بحالة من الكآبة الشديدة، لماذا لا يزعجني موت القطة؟ رغم أنها روح، خلقها الله وبشكلها وتكوينها هي آية من آيات عظمته، حتى لو كانت بلا عقل كالبشر أو سخّرها الله لنا في بعض الحاجات، فلماذا لا يهمني أمرها؟ خلال الأسبوع الماضي كنت أحاضر في ندوة مع طلبة مسافرين قريباً لأمريكا، وفي محاولة مني لتحضيرهم نفسياً لما سيرونه هناك قلت: "حاولوا أن تحترموا الحيوانات الأليفة الخاصة بأصدقائكم وزملائكم من الأمريكان"، وحاولت أن أوضّح ما أقصده في نكتة خفيفة فقلت: "إن ترتيب أهمية الأفراد في الأسرة الأمريكية كالتالي: المرأة ثم الطفل ثم الحيوان الأليف -سواء قطة أو كلب- ثم الرجل"، وضحك البعض في حين اعترض الآخرون على وجود الرجال في ذيل القائمة. وفي الحقيقة أن القانون الأمريكي يكفل للمرأة والطفل حقوقهم كاملة، ويحميهم من أي اعتداءات، وقد تحدث اعتداءات بالتأكيد، ولكن تتم المعاقبة عليها بموجب القانون الذي سنّه "رجل " في الغالب؛ لأن وضع المرأة والأطفال في أمريكا والدول الأوروبية تطوّر بالتدريج، وفي البداية لم يكن لهم كل الحقوق التي يتمتعون بها الآن، ومنها حقوق ما بعد الطلاق، والتي تُمكّن المرأة وتجعلها أحياناً رقم واحد في العائلة الغربية وليس الرجل، هذا إن لم يكونا معا على قدم المساواة وهذا هو الأغلب، وهذا مجرد توضيح لوجهة نظري في هذا الترتيب الذي لا يتعدى كونه رؤية شرقية ساخرة لمجتمع مختلف الثقافة. المهم.. نعود لقضيتنا وهي الحيوان الأليف، ولماذا لن تكون كراهيتنا للكلاب أو للقطط على سبيل المثال مقبولة عند العقول المتحضّرة؟ الحيوانات الأليفة كائنات لا تضرّ، قد لا تنفع، ولكنها عادةً لا تضرّ أحداً، تحب صاحبها وتفي له دون أي طلبات أو طموحات أو مصالح متعلقة بهذا الحب. فتخيل أن تكره كائناً بريئاً إلى هذا الحد، وأن تبعده عندما يقبل عليك، وربما تنهره أو تؤذيه أحياناً، سيبدو هذا في نظر أي عقل متحضر، همجية وقسوة غير مبررة، يعني شراً بالفطرة، كما أن البعض يثق بحسّ حيواناتهم، فلو أقبلوا عليك وأحبوك عرفوا أنك طيب، وإن ابتعدوا عنك ظنوا أن بداخلك شراً كامناً يدركه حيوانهم الأليف بحسّه القوي تجاه الخطر. ولذلك ستجد في معظم دول العالم المتقدم أقساماً كبيرة جدا بالمتاجر مخصصة لكل ما تحتاجه تربية الحيوانات الأليفة، وتعد مهنة الطبيب البيطري من المهن المرموقة وذات الأجور المرتفعة هناك، كما أنهم يصدرون كتباً كثيرة ودوريات ومجلات متخصصة في هذا الشأن، كما أن هناك لُعباً وهدايا قد تشتريها لكلبك أو قطّتك. ورغم كل ما رأيته هنا وهناك، من وجهة نظري ظلت القطة بالنسبة لي "مجرد قطة"، لا تستحق كل هذا الاهتمام، وفكرة إجراء عملية جراحية لها فكرة مثيرة للضحك؛ لأنني ظننت أنها لا تستحق مئات الجنيهات التي ستدفعها صديقتي مقابل العملية، فالقطط كثيرة والحمد لله، ولو تعبت فقط.. سرّبيها.. ويتولاها الله.. وهاتي قطة جديدة. ولم أدرك كل ما ينطوي عليه إحساسي من قسوة خفية، وأنانية، إلا عندما ماتت وفكّرت فيها وفي مصيرها كروح، ووقتها شعرت بأن الحكام وصانعي القرار يتعاملون مع الشعوب الفقيرة مثلما تعاملت بمنطقي الجاهل مع القطة، دون أن يدركوا أن الآلاف الذين يموتون يومياً من الجوع والحروب والأغذية المسرطنة والفقر هم في الحقيقة أرواح ونفوس لها قيمتها. قبل عيد الأضحى الماضي سمعت عن خلاف وقع بين مصر وأستراليا وبعض الدول الأوروبية، والسبب أن مصر تريد استيراد خراف حية وتذبحها على الطريقة الإسلامية، ولكن مصدّري اللحوم هناك لا يوافقون إلا على إرسال لحوم مذبوحة، أولاً: لأنهم لا يريدون تعذيب هذه الحيوانات برحلة الانتقال الطويلة والشحن، وثانياً: لأن هناك فيديوهات مسجّلة وصلتهم عن طرق ذبح مخالفة لمواثيق الرفق بالحيوان. ويُحكى أنه عندما حاول المسئول المصري الدفاع عن موقفنا قائلاً: "إننا نراعي حقوق الحيوان"، يقال إن المسئول الأسترالي أجاب قائلاً: "كيف يمكنكم أن تراعوا حقوق الحيوان في بلد لا تراعي حقوق الإنسان". وبعدها أستطيع أن أتخيل الصمت المطبق الذي حل بنا، وبالفعل قررت السلطات الأسترالية التضحية بالمكاسب الاقتصادية مقابل الانتصار لحقوق الحيوان، وأعلنت رفضها تصدير الخراف إلى مصر، مما تسبب في مشكلة كادت أن تتحول إلى أزمة دبلوماسية. وأتذكر وقتها قول الساخر الجميل "أحمد رجب" على صفحات الأخبار: "لو لم أكن مواطناً مصريا لوددت أن أكون خروفاً أستراليّاً". اليوم أشعر بالعكس، وهو أننا لن نعرف حقوق الإنسان إلا عندما نراعي حقوق الحيوان أولاً، وحق كل روح وكل كائن حي في الحياة، وهنا سنتكلم عن أشجار مصر الجديدة وجاردن سيتي العتيقة، والتي يتم استئصالها واحدة تلو الأخرى، سنتكلم عن الصيد بالديناميت، سنتكلم عن المعاملة الجائرة للأحصنة والحمير التي تجرّ العربات الكارو. قد يقول البعض: ما هذا الموضوع التافه، وقد تقول مثلما كنت أقول بالأمس وإيه يعني قطة ماتت!، ولكني تغيّرت وراجعت موقفي، وشعرت أنني حزينة جدا؛ لأن قطة صديقتي قد ماتت، وحزينة أكثر على موقفي السابق، وعلى أشياء كثيرة أخرى تموت وتختفي من حياتنا يومياً بسبب الإهمال والقسوة وليس لأي سبب آخر. هل تستحق الحيوانات الأليفة كل هذا الاهتمام الذي يمنحه الغرب لها؟ • نعم.. فهي روح مثلها مثل البشر • لا.. دي مجرد حيوانات • ربما.. ولكن الإنسان أهم • لا أهتم