في تسعينيات القرن الماضي، انفعل الكاتب الكبير الراحل أسامة أنور عكاشة بشدّة؛ بسبب عمليات هدم الفيلات الجميلة الصغيرة في الإسكندرية، وبناء أبراج هائلة الحجم وبالغة القبح مكانها. الأمر الذي استمر للأسف حتى اليوم، ليس في الإسكندرية فقط، ولكن في مصر كلها على امتداد جميع محافظاتها، وفي الغالب لن يتوقّف قبل أن تنتهي هذه الفيلات بالكامل. انفعل "عكاشة" كثيراً وتألّم لهذا الأمر، فعبّر عنه في مسلسل يُعتبر الآن من روائع الدراما المصرية، هو مسلسل "الراية البيضا"، وحاول فيه "عكاشة" تصوير صراع يدور بين فريقَيْن؛ يقود أحدهما سفير مثقّف من محبي الجمال والتراث، ويقود الآخر مَعلِّمة جاهلة تمتلك رأس المال صاحب القوة الضاربة الذي يطيح بكل ما أمامه في سبيل تنفيذ رغبات أصحابه. المَعلِّمة تريد فيلا السفير المثقّف؛ لتهدمها وتضمّها إلى أرض أخرى مجاورة لتبني البرج، بينما المثقّف يريد أن يُحافِظ على الفيلا ولا يرغب في البيع.
عُرض المسلسل مرات عديدة على مدى السنوات الماضية، وشاهده ملايين من الناس في كل أنحاء العالم العربي، لكن ما الذي حدث؟ هل توقّف هدم الفيلات منذ ذلك الحين؟ هل تدخّلت الدولة لفعل شيء؟!! بل الأدهى، هل وصلت الرسالة للناس فاحترموا التراث المعماري؟!! الإجابة على كل هذه الأسئلة هي بالطبع لا! لقد فشل المسلسل فشلاً ذريعاً في إحداث الأثر المطلوب، لكن دعونا نُفكّر لماذا: - رغم الدراما القويّة والبارعة في المسلسل؛ فإنه لم يشرح لنا سرّ الصراع، لم يُوضّح المسلسل لماذا الفيلا جميلة ولماذا البرج قبيح!! وما التأثير البيئي الذي يُؤدّي إليه استبدال الأبراج بالفيلات، بل وما التأثير النفسي أيضاً؟!! كان يجب أن يتضمّن المسلسل بعض المعلومات والثقافة المعمارية لينقلها للمُشاهِد كي يفهم أكثر. - ولم يكن المسلسل لينجح في توضيح هذه النقطة؛ بسبب اعتماده الكبير -مثل معظم المسلسلات المصرية- على المَشاهد الداخلية، فنادراً ما يكون هناك مشهد خارجي. وحيث إن المسلسل يتحدّث عن جمال معماري وعقاري في الأساس، فقد كان يجب أن يرينا المسلسل بعضاً من هذا الجمال في المَشاهد الخارجية، لكن معظم مَشاهد المسلسل لا تزيد على لقطات كلوز أب شديدة القرب لوجوه الممثلين وهم يتكلّمون، مع بعض اللقطات المسجّلة مسبقاً لأمواج البحر وهي تضرب الشاطئ بين مشهد وآخر! وهو عيب إخراجي قاتل تشترك فيه معظم المسلسلات المصرية للأسف. - ثقل دم فريق المثقفين في المسلسل، والجمهور عادة ما يكره المثقفين وكلامهم المتحذلق، الأمر الذي لم يشذ عنه مثقفو المسلسل. - الكاريزما الجبّارة لسناء جميل والتي أسبغتها على شخصية "فضة المعداوي". لقد تعاطف الجمهور بشدة مع شخصية "فضة"، وصار ينتظر ظهورها بشغف على الشاشة، ورأى فيها سيدة عصامية قوية وابنة بلد جدعة بالتعبير الشعبي، والأكثر أنها خفيفة الظل، وبالتالي انتقل تعاطف الجمهور المطلوب إلى الاتجاه المضاد تماماً! وبالرغم من المحاولة الصادقة التي قام بها الكاتب الراحل، فإن الوضع للأسف صار أسوأ بكثير مما سبق؛ فاليوم تحوّل هذا النشاط من مجرد نشاط فردي يقوم به بعض المقاولين الأفراد، إلى نشاط مؤسسي تمارسه شركات ذات رءوس أموال عملاقة وشَراكَات خليجية، وتضمّ في جنباتها أفراداً ينتمون إلى جهات أمنية من أجل توفير الحماية لنشاط الشركة، وتذليل المشاكل التي تواجهها سواء مع موظفي الحي ومانحي التراخيص أو سكان المنطقة الذين قد يعترضون على تعدّي عمليات الهدم والبناء على أملاكهم أو راحتهم، وتُسوّق هذه الشركات أبراجها في دول الخليج؛ حيث لا تعدم هذه الدول وجود من يستطيع استهلاك منتجاتهم باهظة الثمن وعديمة الجمال. واستمر هذا النشاط يستشري حتى أنهم بدؤوا في الالتفات للعقارات الصغيرة ذات الدورين والثلاثة وحتى الأربعة بعد أن كادت الفيلات المتبقية أن تنعدم! تحية للكاتب الكبير الذي حاول صادقاً، لكن أحداً لم يلتفت إليه، ولو كان يعيش في دولة أخرى لتدخّلت الحكومات ودرست الأوضاع وسنّت القوانين، لكننا هنا في مصر حيث القاعدة الوحيدة الصحيحة هي "ما فيش فايدة"!