الإسلام لا يعرف السلبية أو الاستسلام للظلم والفساد والطغيان داخل المجتمع المسلم أياً ما كان المتسبب في هذا الفساد، حاكماً كان أو محكوماً. لكن ليس معنى هذا، الوقوف للحاكم باستخدام القوة المسلحة، كما ذهبت إلى ذلك بعض الجماعات المسلحة في العديد من الدول العربية والإسلامية.. ولكن هناك مراتب لهذا الجهاد الداخلي، كما قال الإمام "ابن القيم": منها اليد واللسان والقلب حسب الاستطاعة. قَوْلَةُ حقّ عند سلطان جائر قد يُثار تساؤل: لماذا التغيير الداخلي؟ لقد جعل الإسلام قول الحق أمام السلطان الجائر أفضل أنواع الجهاد؛ لأن جهاد العدو الخارجي قد يكون مؤقتاً ولفترة محدودة، أما بالنسبة للحاكم؛ فإنه يحتاج إلى التصويب والتوجيه والنصيحة. وهو لن يرحل في يوم وليلة؛ لذا كان قول الحق أمامه من أفضل أنواع الجهاد، كما أن المقاتل في الميدان كثيراً ما يسلم صاحبه وينجو ويعود بالثواب والغنيمة، أما هذا الرجل الذي يقول كلمة الحق في مواجهة الحاكم؛ فكثيراً ما يتعرض للأذى، وربما للقتل أو الحبس. الفساد الداخلي أولاً هنا يشير الدكتور القرضاوي في لفتة جميلة إلى أن مواجهة الفساد الداخلي مقدّم على الجهاد ضد الكفر والعدوان الخارجي؛ لأن الفساد الداخلي كثيراً ما يكون ممهّداً للعدوان الخارجي. كما أخبر القرآن عن بني إسرائيل {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً} [الإسراء: 4-5]، وهكذا فنتيجة طغيانهم وإفسادهم في الأرض مرتين وعلوهم علواً كبيراً بسبب الظلم؛ سلّط الله عليهم الأعداء من خارجهم يدمّرون معابدهم ويحرقون التوراة، وقد توعّدهم بتكرار هذا العذاب إن عادوا لهذا الفساد مرة أخرى {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8] المسلم لا يكون سلبياً يؤكد القرضاوي أنه ليس من الضروري المواجهة بالسلاح؛ فإن الجهر بكلمة الحق عند السلطان الجائر أفضل أنواع الجهاد. وهنا يشير إلى أن المسلم لا ينبغي أن يكون سلبياً؛ حتى لا تصيبه الفتنة واللعنة التي لن ينجو منها أحد بسبب الصمت على الفساد، كما أنه ليس معنى هذا حمل السلاح والتغيير بالقوة؛ فالمواجهة السلمية يجب أن تكون هي الأصل في الوقوف في وجه الظالمين، ويجب أن يتمّ تدريب الشعوب على ذلك. يمكن مواجهة الطغاة دون سلاح كما يجب وضع الوسائل المناسبة للتحرر من الطغاة والمستبدين.. ويؤكد أنه قد وصل العالم إلى صِيَغ معقولة عبر التاريخ لمواجهة هؤلاء الظَلَمة من السلاطين والحكام، وعلينا -نحن المسلمين- أن نقتبس منها ما يناسبنا ونضيف إليها. ومن ذلك البرلمانات المنتخبة، وحرية تكوين الأحزاب، وحرية الصحافة، وحرية المعارضة للحكومة، والفصل بين السلطات، وحق الأمة في انتخاب الحاكم وعزله سلمياً ومحاكمته.. وما إلى ذلك. الاستسلام للطغاة مرفوض في الإسلام أما الاستسلام للجبابرة والمستكبرين في الأرض بغير الحق؛ فهو أمر مرفوض في ميزان الإسلام، ولا يصلح في مجال السياسة، ولا يستفيد منه سوى هؤلاء الجبابرة. ولقد أدان القرآن الشعوب التي تستسلم للطغاة من الحكام، والتي تنقاد وراءهم؛ فهؤلاء -أي الشعوب- يتحملون الإثم مع هؤلاء الحكام لعدم الوقوف ضدّهم، كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن قوم فرعون {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ، إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ، يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود: 97-98]. وقوله عن فرعون أيضاً {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ، فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف: 54]. فالقرآن يدين الأتباع (الشعوب) كما يدين المتبوعين (الحكام)، ويدخلهم جميعاً النار، ولا يقبل اعتذار الأتباع بأن سادتهم أضلوهم السبيل كما أخبر الله عز وجل {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 166-167]. إذن هناك دور كبير للشعوب في مواجهة الطغيان والفساد. أحزاب المعارضة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر وهنا يُذكّر القرضاوي بإمكانية تشكيل حزب سياسي يهتم بتقويم الحكومة، عملاً بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة في الدين والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ولا مانع من أن يتّخذ هذا الحزب خطاً معارضاً لسياسة الحكومة مادام يعتمد على الطرق السلمية. وهو ما سمح به سيدنا عليّ بن أبي طالب للخوارج؛ شريطة عدم حمل السلاح في وجوه المسلمين. لكن إذا كان هذا هو طريق المقاومة السلمية..
فهل يمكن أيضاً الخروج على الحاكم باستخدام القوة المسلحة؟ هذا هو موضوع المقال القادم.. واقرأ أيضاً هل تجاهد المرأة مثل الرجل؟ (8) مع القرضاوي: انتشار الإسلام بالسيف.. قول مردود عليه (7) مع القرضاوي: هل لازم نجاهد في فلسطين؟ (6) مع القرضاوي: هل يجب الجهاد مرة كل سنة؟ (5) مع القرضاوي: الجهاد بالنفس من أجل أرض فلسطين (4) مع القرضاوي: رسالة للفنانات المحجبات.. الاعتزال ليس الحل (3) مع القرضاوي.. الجهاد ولا التربية.. ربّي نفسك أولاً (2) في معنى الجهاد.. جاهد نفسك قبل مجاهدة عدوك