حول فتوى الشيخ يوسف الأحمد، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام سابقاً، تدور كلماتي التالية؛ لكنه تعرض جديد من نوعه يشمل طرحاً موضوعياً؛ بعيداً عن انتقادي لكثير من آرائه، وبعيداً عن عدم ميولي لشخصه أو غير ذلك أقول: الطرح الذي فرضه "الأحمد" يتناول شقان؛ الأول وهو ما دار حوله الجدل (قضية هدم المسجد الحرام وإعادة بنائه)؛ وأعتقد أن الشيخ لم يشر إطلاقاً لهدم الكعبة، كما تناولت ذلك وسائل الإعلام ما بين حسن النية وسيئها؛ لإثارة ضجة إعلامية؛ لقد قدم فقط اقتراحاً يراه مناسباً في هدم جزء من المسجد (وهو المحيط حول الكعبة) لا الكعبة نفسها؛ على غرار ما يحدث كثيراً في أعمال التوسعة التي يشهدها الحرم منذ سنين، ثم إعادة البناء على نحو جديد يأخذ في اعتباره حل المشكلة من وجهة نظره. ولا أعتقد أن اقتراحه مناسب لعدة أسباب نذكرها الآن؛ لكنه أياً كان لا يعدو أن يكون اقتراحاً لحل مشكلة ما، وعلى المعارضين وجود البديل لهذا الاقتراح. وترجع سلبية الاقتراح أولاً للجرأة على هدم -ولو جزء من الحرم- لغرض ما، لم يعجز الفكر حتى الآن عن إيجاد سبيل له، بالإضافة لما أثاره الأحمد نفسه من بلبلة غير محسوبة لشخص في مثل مكانته الأكاديمية على أقل تقدير؛ خاصة والإسلام مستهدف من كل صوب، وخاصة أن له آراء سابقة استفزت الجمهور الإسلامي وتركت أثراً سيئاً عنه من جانب وعن الإسلام من جانب آخر. أما بخصوص الشق الثاني وهو لب القضية، وأعني به (الاختلاط في الحرم) -ولن نتطرق إلى الاختلاط على عمومه هنا. فقد اشترط علماؤنا الكرام في أصول الفقه في الفقيه المجتهد عدة شروط، كان من بينها العلم بأحوال ومصالح القُطر إذا كانت الفتوى غير عامة بل خاصة لأهل القُطر. وهذا ما قام به الشيخ الأحمد في الوقت الحالي. إن من له علاقة بالشعب السعودي؛ سيعرف أنه حتى فترة قريبة كان يعيش فترة من التشدد والانفصال ما بين النساء والرجال في الحياة العامة؛ في المدارس منذ المرحلة الابتدائية وحتى الجامعية ثم العمل، حتى بدأ التيار الوسطي في الظهور مؤخراً؛ لكن ترسبات العهد الأول لاتزال باقية. هل تتصور معي كيف لشاب أو لرجل لم يعتَدْ أن يرى امرأة في طريقه، أن يراها بعد ذلك ملاصقة له في مكان مغلق؛ بل إن هذا الحال قد يطول في الطواف. والعنصر السعودي هو الغالب على فئة الطائفين بحكم وجوده وإقامته. وعلى الرغم من أن للمكان قدسيته التي تجعل كل مسلم في حاله مع الله؛ إلا أن هناك من الكثير من النفوس الضعيفة والمريضة. ويعجّ الحرم بهؤلاء الذين يلقي شرطة الحرم القبض عليهم في وضع تحرش بامرأة أثناء الطواف. وقد ظهرت بعض تبعات هذا الاختلاط في الطواف لدى الفقهاء قديماً؛ ففي باب الطهارة تكلّم الفقهاء الأربعة على اختلافهم في وجوب الوضوء عند مس المرأة الأجنبية؛ وحيث إن الطواف كالصلاة؛ فإنه يقتضي شرط الوضوء، ولذلك فقد استثنى بعض الفقهاء -ولعلهما أبو حنيفة وأحمد بن حنبل على حسب ما أذكر- نقض الوضوء في الطائف إذا لامس أثناء طوافه امرأة. لكن الأمر الآن قد زاد عدداً ونفوساً ضعيفة وأخرى مريضة؛ ولذلك فالبحث عن حل لمشكلة كهذه ليس بدعاً من القول؛ بل هو من الوجاهة بمكان. وفوق كل ذلك.. فإن من رزقه الله بزيارة بيته الكريم؛ فإنه سيعلم أنه في أوقات الذروة يكون الزحام على أشده؛ فلا يجد المرء نفسه إلا مدفوعاً بدفوع الطائفين، لا يستطيع الوقوف أو الخروج متى أراد؛ بل عليه أن يتبع منهجاً وهو أن يطوف بشكل دائري مائل حتى يخرج تدريجياً، وقد يأخذ الأمر شوطاً أو اثنين ليس له فيهما غاية إلا الخروج من بين الطائفين، وهي فترة ليست قليلة بالنسبة لوضع تحرّش. وهذا وإن كان موجوداً في بقية المناسك؛ فإنه واضح جداً في الطواف لمحدودية المكان والدوران أثناء الطواف وعدم انتظام الطائفين في البدء والانتهاء... إلخ. ولا أعلم لِمَ يستنكر البعض فكرة الفصل أو منع الاختلاط في الطواف؛ في الوقت الذي نفعل فيه ذلك في عربات مترو الأنفاق وطوابير للفتيات والشباب في الجامعات أمام منافذ شئون الطلبة، وغير ذلك في المصالح الحكومية التي تشهد زحاماً يومياً؟ بل إن هذا النظام في الفصل متّبع في الحرم النبوي نفسه (مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم) في منطقة الروضة الشريفة (الروضة النبوية)؛ حيث يقسّم الوقت بين الرجال والنساء ساعة وساعة أو ما شابه؛ لتجنب الزحام الذي يتم في هذه المنطقة؛ فماذا لو اتبع هذا النظام في الحرم المكي؟ أعود لأقول إن أساس الفكرة ودوافعها ليس جرماً ارتكبه الرجل، ثم إن من حقه أن يقدّم اقتراحاً كغيره؛ لكن ما يؤخذ عليه هو عدم مراعاته لمكانته من الإعلام والمسلمين؛ فكل كلمة محسوبة عليه، وقد يأخذها البعض من الحاقدين والناقمين على الإسلام تشهيراً، أو البعض من الجهلة فتوى. وتلك آفة ابتلي بها الكثير من أعلامنا؛ ولعل أشهرهم الدكتور مصطفى محمود الذي كانت كتاباته عصفاً ذهنياً شخصياً، لا يعني بها مهاجمة أو استنكاراً أو منهجاً؛ لكنه كان يهاجم بها في كل مرة. وما يؤخذ أيضاً هنا هو وضع المتلقي؛ إعلاماً كان أو علماء في تضخيم الأحداث والتشويش الإعلامي، والرد على الشيخ والأخذ على يده، وعدم الوقوف على حقيقة الموقف، وترك رأس الأمر والإمساك بذنبه. وأعتقد أننا نحتاج تصفية ذهنية جديدة للتعامل مع المستجدات ومعطيات الآخر الصالح منها والطالح والمختلط.