لم أتوقع وأنا في هذا المكان الرائق المفروش بالأسفلت، النافورات، محال الورد، و(السواريه)، أن أرى جوالا- يبدو أن لونه كان أبيض قبل اصابته بندبات متفرقة في جسده- خُيل لي أنه يسعى.. يمشي أمامي، إلى أن وصل إلى منطقة بها شبه رصيف عليه صندوق قمامة صدئ، ظهرت من خلفه- الجوال- فتاة صغيرة تشبه مصباح "علاء الدين" في الضوء الخفي المنبعث منها، والطاقة الجبارة التي تدفعها للقفز داخل صندوق القمامة بشعرها البني المهمل، لتعود بكميات من الورق الأبيض فتدسها داخل الجوال. ثم تعود ببعض علب العصير الفارغة، وتضعها بحذر في جانب من الجوال الذي اعتقدت أنه مقسما من الداخل إلى أقسام، قسم لعلب الحلوى، قسم لعلب العصير، وقسم لبقايا اللعب القديمة، وهكذا.. قسمته بدقة، استثنت من بين اللعب.. لعبة واحدة، (دمية).. احتضنت جسدها بشوق طفولي -على الرغم من رأسها المنزوع، وساقها الناقصة – ذكرتني بدميتي الصغيرة "السليمة" التي كنت افككها بسادية لأعرف لماذا يلف رأسها في دورة كاملة.. فلو أرادت رؤية ما يحدث من وراء قفاها لن تلتفت كلية مثلما أفعل، ستكتفي بلف رأسها- بمعجزة- للخلف.. افتقدت هذه المشاعر المُدهشة وأنا أتابع هذه الطفلة التي ربما تعيش الآن دور الأم، ستأخذ الدمية في حضنها ليلاً، ستحكي لها (حدوتة) تارة، وستنهرها ممارسة عليها السلطة تارة أخرى"ماتلعبيش في الطين والزبالة.. بتقولي إيه؟.. لا أنا مابلعبش، أنا كبيرة..أكبر منك و بشتغل". لكنها- متخطية خيالاتي- وضعت دميتها سريعا في علبة (بسكويت) فارغة، ثم أشارت إليها بسبابتها كأنها تقول لها "مش عايزة صوت... نامي"! كنت قد وقفت على مقربة من الطفلة بحجة أني أبحث عن شئ ما، أو أتأمل فستانا قد أعجبني. لم أكن بريئة للحق، فقد وقفت وفي نيتي أن هذه الطفلة ستأتي كعادة الأطفال الذين يعملون بهذه المهنة الشاقة، وتطلب مني بعض النقود لتشتري حلوى. وقفت وأنا أتخيل شكل الحوار معها عندما تأتي لتطلب (ربع جنيه) على أقصى تقدير.. لكنها لم تأت، وبالتالي ذهبت إليها لأكلمها.. لم أجد مدخلا مناسبا سوى أن أسألها عن مكان أريد الذهاب إليه.. ناديت عليها وهي في الصندوق، فخرجت منه والتفتت لي.."ماشاء الله كل هذا الجمال وكل هذه البراءة!".. عينان ذكيتان بلون (الكريم كراميل)، وجه كقرص حلوى "المولد" الأبيض، الذي سكبت عليه بالخطأ بعض (الشيكولاتة) ذات اللون البني.. رغم يقيني التام بأنها لم تترك للتو قالب (الشيكولاتة) في صندوق القمامة لترد عليّ، ورغم أن الذي يزخرف وجهها باللون البني والرمادي الباهت هو ركام من الأنيميا، وبعض الجراثيم الصديقة! سألتها وأنا على علم بالمكان "لو سمحتي يا سكر.. تعرفي فين طريق جامع الفتح؟" انتظرت ردها.. لم ترد عليّ، بل وقفت تقفز حتى خيل لي أنها ترقص رقصة مرحة تشبه (السامبا)؛ لأن أحداً اعتبرها دليلا مهما في شوارع (الزقازيق)! نظرت إليها عاتبة.."فين؟"، وجدتها تقفز، وتشير بيدها إلى أول الشارع اتجاه اليمين، بينما تخرج من فمها أحرف متقطعة "وا..وا..وا" ذهلت للحظة، فلا أعتقد أن أغنية (الواوا) الشهيرة مناسبة لموقفي هذا! حاولت التواصل معها قائلة "تقصدي ورا..؟" هزت رأسها بالإيجاب ثم ابتسمت، وهدأت حركتها كأنما أُزيح عن كاهلها عبء إرشاد تائهة مثلي... نسيت أنها تسمع بشكل جيد، وأنها فقط تنطق بالكاد.. حاولت شكرها بلغة "الإشارة"، لم تكن مفردات اللغة حاضرة لديّ.. ألقيت لها قُبلة في الهواء وأشرت بإبهامي كعلامة تقدير وشكر.. كان رد فعلها كرد فعل "أولاد البلد"عندما تشكرهم على موقف شهم. ربتت على صدرها بيدها الدقيقة وأحنت رأسها قليلا.. وبدوري فعلت مثلها. فوجئت بأناملها الدقيقة على ذراعي تربت عليه.. ربما كانت تواسيني لأنها تراني تائهة، وحيدة مثلها -ربما كنت كذلك وقتها- لم أهتم بنفض التراب "الملوث" عن "الجاكت القطيفة" الذي كنت أرتديه- فقط ابتسمت ممتنة لهذا الحنان الذي أغرقني.. أزحت خصلة من شعرها عن عينيها.. ومضيت. مروة محمد جمعة التعليق: مروة كاتبة ممتازة تمتلك قدرة على الوصف والسرد والتصوير. التوحد بين الراوية والفتاة جعل القصة قصة قصيرة بالفعل. ومع ذلك فإنني أتوقع لمروة أن تكون كاتبة رواية. هناك ثلاثة أخطاء لغوية، تصحيحها (منقسم، تصوري بدلاً من نيتي، حروفاً بدلاً من أحرف). د. سيد البحراوي أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة