1 - الأحرف الممصوصة..!! شمس أغسطس الحارقة جعلتنى أتصبب عرقاً، حتى أصبحت كالخرقة المبتلة.. مدخل الشارع كئيب للغاية.. خطواتى راحت تتثاقل شيئاً فشيئاً، أسير خطوة، كمن يتعلم السير لأول مرة، وأقف خطوات، ريقى قد جف تماماً، أريد من يبلله بكوب كبير من عصير القصب الذى نهانى عنه طبيبى، ورغم أنى تلميذ مطيع - كما يقول الطبيب - فإننى أعارضه وبشدة فى هذا الأمر تحديداً لضعفى الشديد أمام حلاوته، ولكن أين هو الآن..؟! راحت عيناى تتحركان يمنة ويسرة باحثتين فى شوق عن محل عصير قصب يكون مفتوحاً، فكثير من المحلات تم إغلاقها بعد أن فرضت وزارة المالية على أصحابها ضرائب باهظة، لا يقدرون على دفعها، وأكثر من هذا أصدرت الوزارة أوامرها - القاطعة الفاصلة التى لا تقبل المناقشة أو التراجع عنها - بعدم زراعة القصب فى غير أراضى الدولة التى خصصتها لهذا الأمر، ومن يخالف هذه الأوامر تتم معاقبته وإغلاق دكانه لمدة لا تقل عن سنة كاملة.. أًصدم وأنا أقرأ ما كتب فوق الأبواب (الصاج) لكثير من المحلات.. (مغلق لمخالفة الأوامر) ما هذا..؟! عقدت الدهشة لسانى، انتابتنى رغبة عارمة من الفرح الشديد، تلك الفرحة التى جعلتنى أهرول مشدوداً بخيط من التشويق، حتى كنت فى جوف المحل وسط الزحام الشديد الذى راح يتزايد من محبى عصير القصب. تدافع الناس بشدة إلى المحل، جعل معالمه تتلاشى تماماً، ولم يعد يتبقى من معالمه غير عنوانه البارز بقوة.. (الوزيرى لعصير القصب) الماركة فى يدى منتظراً أخذ دورى، وعيناى على العصير وهو يصب فى الأكواب فى سرعة متناهية، حتى وجدت ريقى يتحرك.. الزحام الشديد وتدافع الناس، جعلانى أجد نفسى أمام العصارة وذاك العصار الذى راح يعمل فى آلية منتظمة يضع أكثر من عود قصب فى فم الماكينة التى راحت تروسها تلتهمها فى سرعة فائقة لم أرها من قبل.. عاد الزحام يشتد أكثر فأكثر حتى وجدتنى أقف خلف الماكينة حيث خروج أعواد القصب الممصوصة.. وقفت مذهولاً غير مصدق ما أراه، اتسعت عيناى استنكاراً ودهشة، أعواد القصب الخارجة بعد مصها كتبت عليها كلمات.. تلك الكلمات التى تقطعت إلى أحرف متباعدة وراء بعضها البعض بفعل العصر، رحت أقرأ الأحرف الممصوصة، صدمتنى المفاجأة غير المتوقعة، كذّبت نفسى فى أول الأمر، ورحت أعيد قراءتها المرة تلو الأخرى، وفى كل مرة يزداد يقينى، حتى وجدتنى أردد تلك الأحرف على مرآى ومسمع من الحضور.. المواطن المصرى 2- ( التورتة)..!! أسرعوا تباعاً أفراداً وجماعات، جاءوا كما اعتادوا دوماً ملبين دعوة كبيرهم، تلك الدعوة التى لا تأتيهم إلا مرة واحدة تحديداً فى ذلك اليوم.. اليوم الذى ينتظرونه دوماً يودعون فيه عاماً ويستقبلون آخر جديداً. المكان يزداد ضيقاً رويداً رويداً لكثيرة المدعوين، ظلوا يتبادلون الضحكات، والنكات وأطراف الحديث، وتبادل المصالح والمشارب. ورغم ارتفاع أصوات المصالح فإن العيون.. كل العيون ظلت تحدق فيها.. فيها وحدها، وهى تجلس فى شموخ وكبرياء، بعد أن تفنن فى صنعها العشرات من صانعى الحلوى، صاحبة الحفل، أو الليلة قد تغيبت أو غيبت عن قصد أو دون قصد، لا يهم.. المهم أن هذه التورتة قد صنعت على شاكلتها ألبسوها أجمل الثياب وعلى جوانبها زينوها بأجمل الرموز التى تميزها عن غيرها، لتزيدها جمالاً على جمالها، وفى المنتصف كتب اسمها، الجميع ينتظر فى لهفة وشوق اللحظة المرجوة.. فاللحظة المرجوة هذه هى غايتهم، فغيابها لا يعنيهم فى شىء فهم ليسوا بعشاقها - ولن يكونوا - حتى يستفسروا عن غيابها، إنما هم عاشقو التهامها، وتذوق حلاوة طعمها فقط. هذا الطعم الذى ما إن يتذوق حلاوته شخص ما لا يمكن نسيانه، ولذلك فهم يزدادون، وهى لا حول لها ولا قوة، ليس لها أن تعترض وكيف تعترض بعد أن سلبوا منها إرادتها..؟! فنظرية التعايش الحديثة التى تلت الحداثة تقول: من يلمع فجأة، يصبح له نصيب فيها، من يدفع أكثر من غيره للعازف هو الذى يختار اللحن، لذلك ازداد عددهم على الحد المفروض مما جعل صاحب الدعوة يقف حائراً.. عشرات الرؤوس البشرية الطامعة فى أخذ نصيب من التورتة، وبرغم أن حجم التورتة كبير.. كبير جداً، فإن حجمها صار صغيراً بالنسبة إلى عدهم. ماذا أفعل حتى أرضى الجميع..؟! قالها فى صمت صاحب الدعوة، وهو مازال يحدق فى الرؤوس المنتظرة فى لهفة وشوق، أردف من بعد سكون: ماذا أفعل..؟! العدد كبير جداً، وحجم التورتة لم يعد يكفى هذا العدد. راح يردد فى صمت، وهو يجول بنظراته فى الرؤوس المنتظرة فى لهفة وشوق: ماذا أفعل..؟! ماذا أفعل..؟! ظل يفرك مقدمة رأسه فى عصبية شديدة. فكر ثم قرر ثم قال والسعادة تملأ عينيه: فكرة جديدة وجميلة، لن أجد أفضل منها. نزل إليهم، تسبقه ابتسامته، التفوا من حوله، قال لهم فى ثقة وتخابث: دقائق وسوف نودع عاماً، ونستقبل آخر كله بهجة وسرور، وبهذه المناسبة أحدثكم عن فكرة جديدة وجميلة تدخل علينا البهجة والسرور سوف أطفىء المصباح فى تمام الثانية عشرة وما عليكم فعله فور إغلاقه، إلا أن تسرعوا نحو التورتة. وقفوا جميعاً على أهبة الاستعداد العيون.. كل العيون اتجهت إليها، منتظرين اللحظة الحاسمة. خمسة.. أربعة.. ثلاثة.. اثنتان.. واحد أطفىء المصباح.. تعالت أصوات الأنا.. أضىء المصباح.. السعادة كل السعادة بادية على الوجوه، لقد أتوا على التورتة كلها، ولم يتبق منها غير اسمها الذى سقط على الأرض، والذى كتبت أحرفه الثلاثة باللون الأحمر والأبيض والأسود.