مد فترة تسجيل الطلاب الوافدين بجامعة الأزهر حتى مساء الأربعاء    محافظ الإسماعيلية يوافق على تشغيل خدمة إصدار شهادات القيد الإلكتروني    حماس ترفض زيارة الصليب الأحمر للأسرى في غزة    وسائل إعلام أمريكية تكشف تفاصيل الاتفاق بين واشنطن وتل أبيب على اجتياح لبنان    ناصر منسي: هدفي في السوبر الإفريقي أفضل من قاضية أفشة مع الأهلي    ضبط نسناس الشيخ زايد وتسليمه لحديقة الحيوان    انخفاض الحرارة واضطراب الملاحة.. الأرصاد تعلن تفاصيل طقس الثلاثاء    أحمد عزمي يكشف السر وراء مناشدته الشركة المتحدة    صحة دمياط: بدء تشغيل جهاز رسم القلب بالمجهود بالمستشفى العام    للمرة الأولى.. مجلس عائلات عاصمة محافظة كفر الشيخ يجتمع مع المحافظ    "مستقبل وطن" يستعرض ملامح مشروع قانون الإجراءات الجنائية    فعاليات الاحتفال بمرور عشر سنوات على تأسيس أندية السكان بالعريش    بيسكوف: قوات كييف تستهدف المراسلين الحربيين الروس    بعد 19 عامًا من عرض «عيال حبيبة».. غادة عادل تعود مع حمادة هلال في «المداح 5» (خاص)    «إيران رفعت الغطاء».. أستاذ دراسات سياسية يكشف سر توقيت اغتيال حسن نصر الله    كيفية التحقق من صحة القلب    موعد مباراة الهلال والشرطة العراقي والقنوات الناقلة في دوري أبطال آسيا للنخبة    الأربعاء.. مجلس الشيوخ يفتتح دور انعقاده الخامس من الفصل التشريعي الأول    للمرة الخامسة.. جامعة سوهاج تستعد للمشاركة في تصنيف «جرين ميتركس» الدولي    ضبط نصف طن سكر ناقص الوزن ومياه غازية منتهية الصلاحية بالإسماعيلية    مؤمن زكريا يتهم أصحاب واقعة السحر المفبرك بالتشهير ونشر أخبار كاذبة لابتزازه    تفاصيل اتهام شاب ل أحمد فتحي وزوجته بالتعدي عليه.. شاهد    الرئيس السيسي: دراسة علوم الحاسبات والتكنولوجيا توفر وظائف أكثر ربحا للشباب    الأمن القومي ركيزة الحوار الوطني في مواجهة التحديات الإقليمية    القاهرة الإخبارية: 4 شهداء في قصف للاحتلال على شقة سكنية شرق غزة    أمين الفتوى يوضح حكم التجسس على الزوج الخائن    قبول طلاب الثانوية الأزهرية في جامعة العريش    كيف استعدت سيدات الزمالك لمواجهة الأهلي في الدوري؟ (صور وفيديو)    محافظ المنوفية: تنظيم قافلة طبية مجانية بقرية كفر الحلواصى فى أشمون    مؤشرات انفراجة جديدة في أزمة الأدوية في السوق المحلي .. «هيئة الدواء» توضح    حدث في 8ساعات| الرئيس السيسى يلتقى طلاب الأكاديمية العسكرية.. وحقيقة إجراء تعديلات جديدة في هيكلة الثانوية    "طعنونا بالسنج وموتوا بنتي".. أسرة الطفلة "هنا" تكشف مقتلها في بولاق الدكرور (فيديو وصور)    رمضان عبدالمعز ينتقد شراء محمول جديد كل سنة: دى مش أخلاق أمة محمد    التحقيق مع خفير تحرش بطالبة جامعية في الشروق    "رفضت تبيع أرضها".. مدمن شابو يهشم رأس والدته المسنة بفأس في قنا -القصة الكاملة    تأسيس وتجديد 160 ملعبًا بمراكز الشباب    إنريكى يوجه رسالة قاسية إلى ديمبيلى قبل قمة أرسنال ضد باريس سان جيرمان    هازارد: صلاح أفضل مني.. وشعرنا بالدهشة في تشيلسي عندما لعبنا ضده    وكيل تعليم الفيوم تستقبل رئيس الإدارة المركزية للمعلمين بالوزارة    5 نصائح بسيطة للوقاية من الشخير    هل الإسراف يضيع النعم؟.. عضو بالأزهر العالمي للفتوى تجيب (فيديو)    20 مليار جنيه دعمًا لمصانع البناء.. وتوفير المازوت الإثنين.. الوزير: لجنة لدراسة توطين صناعة خلايا الطاقة الشمسية    المتحف المصرى الكبير أيقونة السياحة المصرية للعالم    تم إدراجهم بالثالثة.. أندية بالدرجة الرابعة تقاضي اتحاد الكرة لحسم موقفهم    «حماة الوطن»: إعادة الإقرارات الضريبية تعزز الثقة بين الضرائب والممولين    طرح 1760 وحدة سكنية للمصريين العاملين بالخارج في 7 مدن    تواصل فعاليات «بداية جديدة» بقصور ثقافة العريش في شمال سيناء    اللجنة الدولية للصليب الأحمر بلبنان: نعيش أوضاعا صعبة.. والعائلات النازحة تعاني    نائب محافظ الدقهلية يبحث إنشاء قاعدة بيانات موحدة للجمعيات الأهلية    فرنسا: مارين لوبان تؤكد عدم ارتكاب أي مخالفة مع بدء محاكمتها بتهمة الاختلاس    أفلام السينما تحقق 833 ألف جنيه أخر ليلة عرض فى السينمات    5 ملفات.. تفاصيل اجتماع نائب وزير الصحة مع نقابة "العلوم الصحية"    برغم القانون 12.. ياسر يوافق على بيع ليلى لصالح أكرم مقابل المال    إنفوجراف.. آراء أئمة المذاهب فى جزاء الساحر ما بين الكفر والقتل    مدير متحف كهف روميل: المتحف يضم مقتنيات تعود للحرب العالمية الثانية    «بيت الزكاة والصدقات» يبدأ صرف إعانة شهر أكتوبر للمستحقين غدًا    التحقيق مع المتهمين باختلاق واقعة العثور على أعمال سحر خاصة ب"مؤمن زكريا"    الأهلي يُعلن إصابة محمد هاني بجزع في الرباط الصليبي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد حياوي يفتح أبواب " بيت السودان "
نشر في صوت البلد يوم 27 - 11 - 2017

يضع محمد حيّاوي في روايته الجديدة “بيت السودان”، الصادرة حديثًا عن دار الآداب في بيروت، المتلقي في أتون الحكاية، ليكون مراقبًا وفاعلًا ومعايشًا لكيمياء السرد الروائي، وإذا كانت عتبة هذا النص تثير إشكالية لدى المتلقي العربي بواسطة مفردة “السودان”، فإنّها واضحة الأبعاد والدلالات للمتلقي العراقي، بما فيها من إيحاءات إيروتيكية تشعل لهفة المتلقي وتحرضه على التفاعل مع التطور السردي للحكاية وتناميها وامتدادها على مستويات متعددة، إذ يطلق العراقيون على ذوي البشرة السوداء تسمية “السودان” تحببًا.
يجسد الكاتب في هذا النصّ السرديّ الوطن بوصفه إنسانًا يعيش بيننا وينشغل عنا بمحنه وعذاباته وانكساراته، فقد اتخذ من “بيت السودان” منطلقًا لحكاية إنسان ليجسد حكاية الوطن الإنسان، وهو الأمر الذي لم يبتعد عنه الكاتب في انشغالاته السرديّة في نصوصه السابقة مثل “خان الشّابندر” أو “تغوّر الماء” وغيرها.
ولم تكن كلمة الناشر، التي وضعت على ظهر الغلاف الأخير، إلا إشارة تحفيز للمتلقي وتثمين للجهد الفني الذي جسّده الكاتب في هذا النص المتميز، “نص مكتوب بمستويات متعدّدة، يُقرأ بانسيابية ويحمل هويّة عراقية أصيلة، وتبدو العلاقة بيت الثلاثي علاوي-ياقوت-عفاف كأنّها مثلث من نار، لا يسمح لمن هم خارجه بالدخول أو الاقتراب منه، علاقة دهشة طفولية تكتشف العالم بواسطة اكتشاف الجسد، مرتكزة على ثنائيات محيّرة، تجمع بين العاطفة والرغبة، الاحتياج والارتواء، النقص والاكتمال، حتى تأتي صدمة النهاية القاسية بمثابة صرخة مدوّية ومكتومة تضعنا أمام سؤال صادم هو الآخر، جوهره، هل من حدّ فاصل بين القسوة والجنون؟”.
إنّ مثلث النار هذا هو الذي يمسك بالمتلقي الباحث عن جمرة السرد، إذ أنه لا ينشغل أو يهتم بمستويات السرد المتعدّدة ولا تعنيه الإشارة إلى محلية النصّ، بقدر ما تعنيه إنسانية التجربة التي يريد أن يكتوي بنارها اختيارًا أو مرغمًا، بعد أن جسّد الكاتب بنية خطابه السرديّ ودلالاته الإنسانية نتيجة لدقّة اختيار الأمكنة والشخصيات التي تشدّ خيوط الحكاية بعضها إلى بعض.
لكن “لو أصغيت جيدًا، ستسمع نقر الدفوف”، ذلك هو خيط الحكاية الذي يربط العتبة بنص الناشر الذي يطلب بواسطته الأذن للدخول إلى عالم النصّ. إنّ هذه الإجرائيات الاختزالية البسيطة والممهدة للنصّ أو التي تشعل الرغبة في الدخول إلى عالمه، لا تستغرق من المتلقي وقتًا طويلًا لفتح أبواب بيت السودان لينتقل القارئ إلى المشهد الافتتاحي للنصّ الذي يكاد يكون مشهدًا بانوراميًا شاملًا محفزًا ومثيرًا ومؤكدًا لإشارات الغلاف الأخير.
“فتشربتُ الليل كلّه حتى صرت سوداء” هذه المرأة تدرك سرّ السحر في لونها وجاذبية الإثارة والتمنّع، لذا فإنها لا تبدأ في سرد الحكاية، وإنما تواصل سرديات الحكي، فهي لم تكن متوقفة عن الحكي أصلا بدليل وجود “الفاء” التي تشير إلى استمرارية فعل الكلام السرديّ، وهو ما يبحث عنه المتلقي لاحقًا بين السطور، لكن العلاقات السببية في الجمل النصيّة لا توضح الحالة العامّة، وإنّما تقف عند حدود الجملة النصيّة، كما لو كان هناك بخل في التفاصيل أو تقتير في كشف مكنون الحكاية السرديّة ضمن المشهد الخاص، على الرغم من أنّه تقتير محسوب بدقّة كما سندرك لاحقًا.
تجربة سردية
إن هذه التجربة السردية الجديدة هي امتداد وتأصيل وترسيخ لتجربة الكاتب في روايته السابقة "خان الشابندر" إذ تجمعهما مشتركات نصية كثيرة على مستوى الشخصيات والخطاب السردي وبنية الحكاية، إلا أن الاحترافية في السرد وإطلاق الخيال في مدياته الواسعة، تبدو أكثر وضوحا ونضجا في {بيت السودان}
“ها أنا أبرئ ذمّتي، حياتك البائسة ستكون هائمة حول بيت السودان أو مخاضة المتعة أو بوابة المدينة للعروج إلى سماء الذهول.. ستجده ولا تجده.. وتدخله ولا تدخله.. لكنّه في المحصلة سيحلّق في الفضاء حاملًا قاطنيه معه”، هذا المشهد الافتتاحي يضع المتلقي أمام عتبات عدة لا بد أن يمرّ بها أو يتفاعل معها ويفككها، للتواصل مع الحكاية العامّة، فقد اشتمل هذا المشهد على الآتي:
أولًا: تحفيز المخيّلة على الابتكار الصوري والتواصل الدلالي بين لون البشرة وتفاعلاته ودلالته، سواء ما يحوي أو يفصح عنه النصّ أو ما تكشف عنه مخيّلة المتلقي من دلالات كلٌّ حسب مخزونه الصوري.
ثانيًا: التعشيق السردي بين المسموع والمعاش من الوقائع والتفاصيل.
ثالثًا: تحذير المتلقي الخارجي بواسطة تحذير المتلقي الداخلي في النص.
رابعًا: التأكيد على عدم تصديق كل ما يقال أو التشكيك في كل ما يحدث في المتن الحكائي للنصّ، وهو الأمر الذي يحفز على تشكيل وبناء النصّ الخاص بالمتلقي الذي يحمل صدقيته الذاتية خارج جدلية الصدق أو التشكيك في الحكاية المسرودة.
خامسًا: التمسك بالمرأة.
سادسًا: المرأة وسيلة هداية وغواية.
لذلك يختتم مشهد الافتتاح هذا بالجملة الآتية “لا تصدق كل ما يقال وتمسك بالمرأة ولا تدعها تتوه منك، فهي هاديتك ووسيلتك للخروج سالمًا من مخاضة الحكايا”، وهذا ما نجد تجسيده السردي في لحظات اشتعال الرغبة على جمر موقد الفحم واصطفاق الكؤوس وقرع الدفوف واهتزاز الأرداف في الرقص والغناء.
إنّ هذه التجربة السرديّة الجديدة هي امتداد وتأصيل وترسيخ لتجربة الكاتب في روايته السابقة “خان الشّابندر” إذ تجمعهما مشتركات نصيّة كثيرة على مستوى الشخصيات والخطاب السرديّ وبنية الحكاية، إلّا أنّ الاحترافية في السرد وإطلاق الخيال في مدياته الواسعة، تبدو أكثر وضوحًا ونضجًا في “بيت السودان”، وهو الأمر الذي يعزّز ثقة المتلقي في الكاتب لجهة الإقبال على نتاجه الروائي، كما هو حاصل في روايته السابقة.
الانحراف السردي
يذهب الكاتب للتعبير عن تجربته السرديّة في اتّجاهات الخيال والحلم البعيد عن التشكيل الحدثي اليوميّ أو القريب من قناعات المتلقي، فالنصّ هنا لا يستقر أو يهدأ أو يتوقف عند جملة أو حاله أو شخصية أو مكان، وإنما يجسد جميع الحالات والأمكنة والشخصيات دفعة واحدة، كما أن الكاتب يدرك جيدًا الحدود الفاصلة بينه وبين الآخرين، وهذا الإدراك هو بداية معيارية الوعي الفني في الحدود الفاصلة بين هذا العمل وذاك، وهو الشحنة الصادمة ليقظة القارئ المراقب أو الراصد المتفاعل مع عملية الخلق الإبداعي، بينما يحاول الكاتب، في حمّى الخيال، فتح نافذة ليطل منها على “بيت السودان”، بما فيه من أعاجيب، مغادرًا أو متجاوزًا محطّته السابقة “خان الشّابندر”.
الخيال.. المرأة
هل يتلاعب الكاتب بمشاعر المتلقي في العزف على أوتار المرأة؟ أم إنّه يتخذها حافزًا للانطلاق إلى مشهد إنساني أشمل وأعمّ من الحدود الجسدية لهذا الكائن الرقيق الحالم، عندما يقول “وتلك المرأة التي في خيالك، مهما كان اسمها… تمسّك بأذيالها، لا تفلتها مهما حدث”، ما هي مواصفات هذه المرأة التي في الخيال يا ترى؟ إن هذه الخلطة الكيميائية العجيبة للمرأة “الرائحة والروح والجسد” كتجربة وخيال في آن واحد هي مزيج مركّب من فعل الرؤيا والحلم وتجاوز الواقع، وكل ذلك عبر انتقائية التجارب الذاتية لتشكيل صورة المثال الخيالي الذي يطمح في الوصول إليه، لكن في المحصلة فإنّ النصّ يرتكز على عدد من الثوابت الجوهرية أهمها:
يحسم الكاتب خياراته بين الأركان الثلاثة أعلاه في اختياره ما يمكن تسميته أسطرة الواقع والذهاب به إلى مناطق الخيال الخلّاق بعيدًا عن روح السكينة والمهادنة النصيّة، لأنّه ينحرف عن السياق محطمًا النسق التقليدي، وضمن المتن المفترض الذي يتلقفه القارئ الفاعل ليمتطي خيال الكاتب ويوظفه في ابتكار متخيّله السرديّ الخاص للمرأة، ليس بوصفها نبع النصّ وعطره وحسب، وإنّما بوصفها المحفز للإثارة والإدهاش، عندما تتحول باحة بيت السودان التي هي فضاء للفرح والنشوة والتحليق في الخيال الافتراضي إلى بؤرة حكاية نصيّة تكوّن في النهاية حكاية وطن.
“نعم يا عزيزي.. عقلك البشري لا يتّسع لمثل هذا الكم الهائل من الخيال.. أعرف ذلك.. لكن صدّقني ولو هذه المرة فقط.. إن لم تفعل فستبدد روحك هباء وتتعذب وتتيه في غياهب الطرق المتقاطعة ويتلاعب بك السحرة.. فالحكايا التي ستسمعها والوقائع التي ستعيشها يشيب لها شعر الرضيع”.
بين خيال السارد-المؤلف وخيال المتلقي، يتقرر تقبل أو استيعاب هذه الحكاية من عدمه، وهو أمر لا علاقة له بصدقية أو واقعية التفاصيل الحكائية في المتن السرديّ، وإنّما يتعلق بمنطق الخيال وإجرائياته الحكائية في تجسيد وتفعيل الواقع سرديًا، للخروج بالوطن من إطار الشكل إلى إطار المعنى الإنساني، ولعلّ عبارة “أعذب السرد أصدقه” لا تعني الصدقية السرديّة هنا “واقعية الحوادث”، وإنما درجة المقبولية والرضا وفق معيارية القارئ المعرفية والثقافية في قبول النسق السردي والاقتناع بسياق الحكاية السرديّة، بعيدًا عن مقياس التطابق أو الاختلاف مع الواقع، لأن النص، أيّ نص، سواء كان جيدا أو رديئا، يمتلك واقعه الخاص.
وانطلاقًا من هذه الرؤية الباحثة عن الصدق الكاذب أو المخادع في خلق مركّب الخيال الافتراضي في النص السردي تكون المتجسدات الجمالية المشعة، بدءًا من كلمة الافتتاح الأولى حتى جملة الختام النهائية التي تفتح بيت السودان على فضاء الوطن-المقبرة “وكنت كلّما التفتّ ورائي لمحت النساء السوداوات السبع يلوحنّ لي من بعيد، وفي لحظة خاطفة دهمني طيف غامض مثل طائر، هتف في أذني بنبرة حنون.. اذهب مع عفاف يا حبيبي..لا تخف.. لا تخف.. لا تخف”.
...
كاتب من العراق
يضع محمد حيّاوي في روايته الجديدة “بيت السودان”، الصادرة حديثًا عن دار الآداب في بيروت، المتلقي في أتون الحكاية، ليكون مراقبًا وفاعلًا ومعايشًا لكيمياء السرد الروائي، وإذا كانت عتبة هذا النص تثير إشكالية لدى المتلقي العربي بواسطة مفردة “السودان”، فإنّها واضحة الأبعاد والدلالات للمتلقي العراقي، بما فيها من إيحاءات إيروتيكية تشعل لهفة المتلقي وتحرضه على التفاعل مع التطور السردي للحكاية وتناميها وامتدادها على مستويات متعددة، إذ يطلق العراقيون على ذوي البشرة السوداء تسمية “السودان” تحببًا.
يجسد الكاتب في هذا النصّ السرديّ الوطن بوصفه إنسانًا يعيش بيننا وينشغل عنا بمحنه وعذاباته وانكساراته، فقد اتخذ من “بيت السودان” منطلقًا لحكاية إنسان ليجسد حكاية الوطن الإنسان، وهو الأمر الذي لم يبتعد عنه الكاتب في انشغالاته السرديّة في نصوصه السابقة مثل “خان الشّابندر” أو “تغوّر الماء” وغيرها.
ولم تكن كلمة الناشر، التي وضعت على ظهر الغلاف الأخير، إلا إشارة تحفيز للمتلقي وتثمين للجهد الفني الذي جسّده الكاتب في هذا النص المتميز، “نص مكتوب بمستويات متعدّدة، يُقرأ بانسيابية ويحمل هويّة عراقية أصيلة، وتبدو العلاقة بيت الثلاثي علاوي-ياقوت-عفاف كأنّها مثلث من نار، لا يسمح لمن هم خارجه بالدخول أو الاقتراب منه، علاقة دهشة طفولية تكتشف العالم بواسطة اكتشاف الجسد، مرتكزة على ثنائيات محيّرة، تجمع بين العاطفة والرغبة، الاحتياج والارتواء، النقص والاكتمال، حتى تأتي صدمة النهاية القاسية بمثابة صرخة مدوّية ومكتومة تضعنا أمام سؤال صادم هو الآخر، جوهره، هل من حدّ فاصل بين القسوة والجنون؟”.
إنّ مثلث النار هذا هو الذي يمسك بالمتلقي الباحث عن جمرة السرد، إذ أنه لا ينشغل أو يهتم بمستويات السرد المتعدّدة ولا تعنيه الإشارة إلى محلية النصّ، بقدر ما تعنيه إنسانية التجربة التي يريد أن يكتوي بنارها اختيارًا أو مرغمًا، بعد أن جسّد الكاتب بنية خطابه السرديّ ودلالاته الإنسانية نتيجة لدقّة اختيار الأمكنة والشخصيات التي تشدّ خيوط الحكاية بعضها إلى بعض.
لكن “لو أصغيت جيدًا، ستسمع نقر الدفوف”، ذلك هو خيط الحكاية الذي يربط العتبة بنص الناشر الذي يطلب بواسطته الأذن للدخول إلى عالم النصّ. إنّ هذه الإجرائيات الاختزالية البسيطة والممهدة للنصّ أو التي تشعل الرغبة في الدخول إلى عالمه، لا تستغرق من المتلقي وقتًا طويلًا لفتح أبواب بيت السودان لينتقل القارئ إلى المشهد الافتتاحي للنصّ الذي يكاد يكون مشهدًا بانوراميًا شاملًا محفزًا ومثيرًا ومؤكدًا لإشارات الغلاف الأخير.
“فتشربتُ الليل كلّه حتى صرت سوداء” هذه المرأة تدرك سرّ السحر في لونها وجاذبية الإثارة والتمنّع، لذا فإنها لا تبدأ في سرد الحكاية، وإنما تواصل سرديات الحكي، فهي لم تكن متوقفة عن الحكي أصلا بدليل وجود “الفاء” التي تشير إلى استمرارية فعل الكلام السرديّ، وهو ما يبحث عنه المتلقي لاحقًا بين السطور، لكن العلاقات السببية في الجمل النصيّة لا توضح الحالة العامّة، وإنّما تقف عند حدود الجملة النصيّة، كما لو كان هناك بخل في التفاصيل أو تقتير في كشف مكنون الحكاية السرديّة ضمن المشهد الخاص، على الرغم من أنّه تقتير محسوب بدقّة كما سندرك لاحقًا.
تجربة سردية
إن هذه التجربة السردية الجديدة هي امتداد وتأصيل وترسيخ لتجربة الكاتب في روايته السابقة "خان الشابندر" إذ تجمعهما مشتركات نصية كثيرة على مستوى الشخصيات والخطاب السردي وبنية الحكاية، إلا أن الاحترافية في السرد وإطلاق الخيال في مدياته الواسعة، تبدو أكثر وضوحا ونضجا في {بيت السودان}
“ها أنا أبرئ ذمّتي، حياتك البائسة ستكون هائمة حول بيت السودان أو مخاضة المتعة أو بوابة المدينة للعروج إلى سماء الذهول.. ستجده ولا تجده.. وتدخله ولا تدخله.. لكنّه في المحصلة سيحلّق في الفضاء حاملًا قاطنيه معه”، هذا المشهد الافتتاحي يضع المتلقي أمام عتبات عدة لا بد أن يمرّ بها أو يتفاعل معها ويفككها، للتواصل مع الحكاية العامّة، فقد اشتمل هذا المشهد على الآتي:
أولًا: تحفيز المخيّلة على الابتكار الصوري والتواصل الدلالي بين لون البشرة وتفاعلاته ودلالته، سواء ما يحوي أو يفصح عنه النصّ أو ما تكشف عنه مخيّلة المتلقي من دلالات كلٌّ حسب مخزونه الصوري.
ثانيًا: التعشيق السردي بين المسموع والمعاش من الوقائع والتفاصيل.
ثالثًا: تحذير المتلقي الخارجي بواسطة تحذير المتلقي الداخلي في النص.
رابعًا: التأكيد على عدم تصديق كل ما يقال أو التشكيك في كل ما يحدث في المتن الحكائي للنصّ، وهو الأمر الذي يحفز على تشكيل وبناء النصّ الخاص بالمتلقي الذي يحمل صدقيته الذاتية خارج جدلية الصدق أو التشكيك في الحكاية المسرودة.
خامسًا: التمسك بالمرأة.
سادسًا: المرأة وسيلة هداية وغواية.
لذلك يختتم مشهد الافتتاح هذا بالجملة الآتية “لا تصدق كل ما يقال وتمسك بالمرأة ولا تدعها تتوه منك، فهي هاديتك ووسيلتك للخروج سالمًا من مخاضة الحكايا”، وهذا ما نجد تجسيده السردي في لحظات اشتعال الرغبة على جمر موقد الفحم واصطفاق الكؤوس وقرع الدفوف واهتزاز الأرداف في الرقص والغناء.
إنّ هذه التجربة السرديّة الجديدة هي امتداد وتأصيل وترسيخ لتجربة الكاتب في روايته السابقة “خان الشّابندر” إذ تجمعهما مشتركات نصيّة كثيرة على مستوى الشخصيات والخطاب السرديّ وبنية الحكاية، إلّا أنّ الاحترافية في السرد وإطلاق الخيال في مدياته الواسعة، تبدو أكثر وضوحًا ونضجًا في “بيت السودان”، وهو الأمر الذي يعزّز ثقة المتلقي في الكاتب لجهة الإقبال على نتاجه الروائي، كما هو حاصل في روايته السابقة.
الانحراف السردي
يذهب الكاتب للتعبير عن تجربته السرديّة في اتّجاهات الخيال والحلم البعيد عن التشكيل الحدثي اليوميّ أو القريب من قناعات المتلقي، فالنصّ هنا لا يستقر أو يهدأ أو يتوقف عند جملة أو حاله أو شخصية أو مكان، وإنما يجسد جميع الحالات والأمكنة والشخصيات دفعة واحدة، كما أن الكاتب يدرك جيدًا الحدود الفاصلة بينه وبين الآخرين، وهذا الإدراك هو بداية معيارية الوعي الفني في الحدود الفاصلة بين هذا العمل وذاك، وهو الشحنة الصادمة ليقظة القارئ المراقب أو الراصد المتفاعل مع عملية الخلق الإبداعي، بينما يحاول الكاتب، في حمّى الخيال، فتح نافذة ليطل منها على “بيت السودان”، بما فيه من أعاجيب، مغادرًا أو متجاوزًا محطّته السابقة “خان الشّابندر”.
الخيال.. المرأة
هل يتلاعب الكاتب بمشاعر المتلقي في العزف على أوتار المرأة؟ أم إنّه يتخذها حافزًا للانطلاق إلى مشهد إنساني أشمل وأعمّ من الحدود الجسدية لهذا الكائن الرقيق الحالم، عندما يقول “وتلك المرأة التي في خيالك، مهما كان اسمها… تمسّك بأذيالها، لا تفلتها مهما حدث”، ما هي مواصفات هذه المرأة التي في الخيال يا ترى؟ إن هذه الخلطة الكيميائية العجيبة للمرأة “الرائحة والروح والجسد” كتجربة وخيال في آن واحد هي مزيج مركّب من فعل الرؤيا والحلم وتجاوز الواقع، وكل ذلك عبر انتقائية التجارب الذاتية لتشكيل صورة المثال الخيالي الذي يطمح في الوصول إليه، لكن في المحصلة فإنّ النصّ يرتكز على عدد من الثوابت الجوهرية أهمها:
يحسم الكاتب خياراته بين الأركان الثلاثة أعلاه في اختياره ما يمكن تسميته أسطرة الواقع والذهاب به إلى مناطق الخيال الخلّاق بعيدًا عن روح السكينة والمهادنة النصيّة، لأنّه ينحرف عن السياق محطمًا النسق التقليدي، وضمن المتن المفترض الذي يتلقفه القارئ الفاعل ليمتطي خيال الكاتب ويوظفه في ابتكار متخيّله السرديّ الخاص للمرأة، ليس بوصفها نبع النصّ وعطره وحسب، وإنّما بوصفها المحفز للإثارة والإدهاش، عندما تتحول باحة بيت السودان التي هي فضاء للفرح والنشوة والتحليق في الخيال الافتراضي إلى بؤرة حكاية نصيّة تكوّن في النهاية حكاية وطن.
“نعم يا عزيزي.. عقلك البشري لا يتّسع لمثل هذا الكم الهائل من الخيال.. أعرف ذلك.. لكن صدّقني ولو هذه المرة فقط.. إن لم تفعل فستبدد روحك هباء وتتعذب وتتيه في غياهب الطرق المتقاطعة ويتلاعب بك السحرة.. فالحكايا التي ستسمعها والوقائع التي ستعيشها يشيب لها شعر الرضيع”.
بين خيال السارد-المؤلف وخيال المتلقي، يتقرر تقبل أو استيعاب هذه الحكاية من عدمه، وهو أمر لا علاقة له بصدقية أو واقعية التفاصيل الحكائية في المتن السرديّ، وإنّما يتعلق بمنطق الخيال وإجرائياته الحكائية في تجسيد وتفعيل الواقع سرديًا، للخروج بالوطن من إطار الشكل إلى إطار المعنى الإنساني، ولعلّ عبارة “أعذب السرد أصدقه” لا تعني الصدقية السرديّة هنا “واقعية الحوادث”، وإنما درجة المقبولية والرضا وفق معيارية القارئ المعرفية والثقافية في قبول النسق السردي والاقتناع بسياق الحكاية السرديّة، بعيدًا عن مقياس التطابق أو الاختلاف مع الواقع، لأن النص، أيّ نص، سواء كان جيدا أو رديئا، يمتلك واقعه الخاص.
وانطلاقًا من هذه الرؤية الباحثة عن الصدق الكاذب أو المخادع في خلق مركّب الخيال الافتراضي في النص السردي تكون المتجسدات الجمالية المشعة، بدءًا من كلمة الافتتاح الأولى حتى جملة الختام النهائية التي تفتح بيت السودان على فضاء الوطن-المقبرة “وكنت كلّما التفتّ ورائي لمحت النساء السوداوات السبع يلوحنّ لي من بعيد، وفي لحظة خاطفة دهمني طيف غامض مثل طائر، هتف في أذني بنبرة حنون.. اذهب مع عفاف يا حبيبي..لا تخف.. لا تخف.. لا تخف”.
...
كاتب من العراق


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.