أثار رعب واشنطن وتل أبيب.. من هو إبراهيم عقيل الذي اغتالته إسرائيل؟    وزير الخارجية: تقسيم السودان خط أحمر، وقضية مياه النيل حياة أو موت، وخسائرنا بسبب انخفاض عائدات قناة السويس 6 مليارات دولار، لا بد لإسرائيل أن تنسحب من رفح ومحور فيلادلفيا    موعد الشباب ضد التعاون في دوري روشن السعودي والقنوات الناقلة    حدث ليلا.. تطورات جديدة بشأن حزب الله وإسرائيل والحرب على غزة (فيديو)    موعد مباراة يوفنتوس ضد نابولي في الدوري الإيطالي والقنوات الناقلة    عاجل.. فيفا يعلن منافسة الأهلي على 3 بطولات قارية في كأس إنتركونتيننتال    موعد انكسار الموجة الحارة وتوقعات حالة الطقس.. متى تسقط الأمطار؟    حبس متهم مفصول من الطريقة التيجانية بعد اتهامه بالتحرش بسيدة    رسميا.. رابط الواجبات المنزلية والتقييمات الأسبوعية ل الصف الثاني الابتدائي    مدحت العدل يوجه رسالة لجماهير الزمالك.. ماذا قال؟    فلسطين.. شهيد وعدة إصابات جراء قصف الاحتلال لمنزل في خان يونس    ضبط 12شخصا من بينهم 3 مصابين في مشاجرتين بالبلينا وجهينة بسوهاج    عمرو أديب: بعض مشايخ الصوفية غير أسوياء و ليس لهم علاقة بالدين    هل يؤثر خفض الفائدة الأمريكية على أسعار الذهب في مصر؟    فصل التيار الكهرباء عن ديرب نجم بالشرقية لأعمال الصيانة    النيابة تأمر بإخلاء سبيل خديجة خالد ووالدتها بعد حبس صلاح التيجاني    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 21-9-2024    أرباح أكثر.. أدوات جديدة من يوتيوب لصناع المحتوى    مريم متسابقة ب«كاستنج»: زوجي دعمني للسفر إلى القاهرة لتحقيق حلمي في التمثيل    هاني فرحات: جمهور البحرين ذواق للطرب الأصيل.. وأنغام في قمة العطاء الفني    وفاة والدة اللواء محمود توفيق وزير الداخلية    موعد إجازة 6 أكتوبر 2024 للموظفين والمدارس (9 أيام عطلات رسمية الشهر المقبل)    عاجل - رياح وسحب كثيفة تضرب عدة محافظات في العراق وسط تساؤلات حول تأجيل الدراسة    "حزب الله" يستهدف مرتفع أبو دجاج الإسرائيلي بقذائف المدفعية ويدمر دبابة ميركافا    وزير الخارجية: الجهد المصري مع قطر والولايات المتحدة لن يتوقف ونعمل على حقن دماء الفلسطينيين    محامي يكشف مفاجآت في قضية اتهام صلاح التيجاني بالتحرش    مواصفات فورد برونكو سبورت 2025    في احتفالية كبرى.. نادي الفيوم يكرم 150 من المتفوقين الأوائل| صور    الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية تعزى وزير الداخلية فى وفاة والدته    عبد المنعم على دكة البدلاء| نيس يحقق فوزا كاسحًا على سانت إيتيان ب8 أهداف نظيفة    مواصفات هاتف Realme P2 Pro الجديد ببطارية كبيرة 5200 مللي أمبير وسعر مميز    ملف يلا كورة.. تأهل الزمالك.. رمز فرعوني بدرع الدوري.. وإنتركونتيننتال في قطر    نائب محافظ المركزي المصري يعقد لقاءات مع أكثر من 35 مؤسسة مالية عالمية لاستعراض نجاحات السياسة النقدية.. فيديو وصور    صرف فروقات الرواتب للعسكريين 2024 بأمر ملكي احتفاءً باليوم الوطني السعودي 94    حفل للأطفال الأيتام بقرية طحانوب| الأمهات: أطفالنا ينتظرونه بفارغ الصبر.. ويؤكدون: بهجة لقلوب صغيرة    "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".. أذكار تصفي الذهن وتحسن الحالة النفسية    «الإفتاء» توضح كيفية التخلص من الوسواس أثناء أداء الصلاة    وصلت بطعنات نافذة.. إنقاذ مريضة من الموت المحقق بمستشفى جامعة القناة    بدائل متاحة «على أد الإيد»| «ساندوتش المدرسة».. بسعر أقل وفائدة أكثر    ضائقة مادية.. توقعات برج الحمل اليوم 21 سبتمبر 2024    وزير الثقافة بافتتاح ملتقى «أولادنا» لفنون ذوي القدرات الخاصة: سندعم المبدعين    أول ظهور لأحمد سعد وعلياء بسيوني معًا من حفل زفاف نجل بسمة وهبة    راجعين.. أول رد من شوبير على تعاقده مع قناة الأهلي    إسرائيل تغتال الأبرياء بسلاح التجويع.. مستقبل «مقبض» للقضية الفلسطينية    وزير الخارجية يؤكد حرص مصر على وحدة السودان وسلامته الإقليمية    بعد قرار الفيدرالي الأمريكي.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم السبت 21 سبتمبر 2024    مستشفى قنا العام تسجل "صفر" فى قوائم انتظار القسطرة القلبية لأول مرة    عمرو أديب يطالب الحكومة بالكشف عن أسباب المرض الغامض في أسوان    تعليم الفيوم ينهي استعداداته لاستقبال رياض أطفال المحافظة.. صور    أخبار × 24 ساعة.. انطلاق فعاليات ملتقى فنون ذوي القدرات الخاصة    حريق يلتهم 4 منازل بساقلتة في سوهاج    انقطاع الكهرباء عن مدينة جمصة 5 ساعات بسبب أعمال صيانه اليوم    تعليم الإسكندرية يشارك في حفل تخرج الدفعة 54 بكلية التربية    ريم البارودي تنسحب من مسلسل «جوما» بطولة ميرفت أمين (تفاصيل)    أكثر شيوعًا لدى كبار السن، أسباب وأعراض إعتام عدسة العين    أوقاف الفيوم تفتتح أربعة مساجد اليوم الجمعة بعد الإحلال والتجديد    آية الكرسي: درع الحماية اليومي وفضل قراءتها في الصباح والمساء    الإفتاء: مشاهدة مقاطع قراءة القرآن الكريم مصحوبة بالموسيقى أو الترويج لها محرم شرعا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحضارة الروسية في صورتها المعقدة
نشر في صوت البلد يوم 18 - 06 - 2017

تعني الحضارة بمفهومها الشامل كل ما يميّز أمة عن أمة أخرى، من حيث العادات والتقاليد، والقيم الدينية والأخلاقية، ونظام الحكم، والإنجازات العلمية والفنية والعمرانية.
كتاب سهيل فرح «الحضارة الروسية– المعنى والمصير» منشورات الدار العربية للعلوم- ناشرون، يحاول أن يقترب من هذا المفهوم الشامل للحضارة في تعاطيه مع الحضارة الروسية. فهو يسلّط الضوء على الإرث الثقافي والعلمي والروحي الذي تركته الشعوب الروسية عبر التاريخ في نقاط انتصاراتها وتعثّراتها، ويدخل في شرح وعي الروس المبكر لقوانين التطوّر وقوانين الطبيعة، والاجتماع، مركزاً في شكل أساسي على ثلاثية اللغة السلافية، والدين الأرثوذكسي، والمعتقد الاشتراكي. ثلاثية طبعت الحضارة الروسية بطابعها عبر التاريخ.
ينطلق فرح في الكشف عن السمات المميزة للحضارة الروسية من المدى الجغرافي الذي يسهم في تشكيل الجماعة البشرية وصهر نفسيتها، ورسم الخصائص القومية والثقافية لشخصيتها. والجغرافيا الروسية تشتمل على كل المناخات والبيئات الطبيعية للكرة الأرضية. فهناك المناخات الصقيعية والثلجية والمعتدلة، وهناك مناطق التوندرا والمساحات التي تحتلها الغابات الواسعة والسهوب الشديدة الاتساع، وهناك اليابسة المتاخمة للمحيطات والبحار والبحيرات والأنهار والينابيع.
يسكن أربعة أخماس الروس في الشطر الأوروبي، والخمس المتبقي في الشطر الأسيوي من الجغرافيا الروسية. وفي المئة سنة الأخيرة قطن ما يقارب ثلاثة أرباع السكان في المدن. في حين سكن الربع الباقي في المناطق الريفية. لذا يمكن القول إن «الشخصية المدينية» هي الغالبة على الشخصية الحضارية الروسية المعاصرة، وهي التي تشغل الحيّز الأكبر من الحياة الاقتصادية والثقافية في روسيا.
إضافة إلى الشخصية المدينية التي وسمت الحضارة الروسية بطابعها، هناك صفتان أخريان تنسبان إلى هذه الحضارة، وهي الصفة الأوروبية والصفة الأسيوية اللتان في تفاعلهما الجغرافي والسكاني أدّتا إلى تكوين روح روسية واضحة المعالم. روح قال عنها الفيلسوف الروسي بردييف إنها لا تحدّ لها حدود، ولا يمكن الإطاحة بها، ولا تعرف قوة هذه الروح إلا في أزمات التحدي الكبرى سواء الآتية من هيجان الطبيعة، أم من رغبة الغزاة الأجانب في غزو المدى الروسي.
الجغرافيا الروسية بمداها الواسع خلقت الجغرافيا الروحية، كما يقول مؤلف الكتاب، وهذه الأخيرة أثّرت في ثقافة العين والأذن وسائر الحواس، وأغنت المخيلة الفنية والجمالية والعلمية. إن اتساع الجغرافيا الطبيعية الروسية ترك تأثيره الكبير على فضاء الكلمة ونقاوتها وبريقها في الشعر والأدب (دوستويفسكي، تولستوي، تشيخوف) والرسم وحركات الجسد، وكل فنون الرقص وبخاصة فن رقص الباليه.
تقول الباحثة الروسية سيمنكوفا في تناولها لهوية الحضارة الروسية: «إن روسيا ظهرت على ملتقى الحضارة المسيحية والحضارة الإسلامية والحضارة البوذية، وقامت على مجال هائل من الاتساع، شهد تنقّلات مجموعات شعوب رحل، وشبه رحل. بهذا المعنى هي تجمع تاريخي لتكتل من الشعوب الكثيرة، ذات توجهات حضارية مختلفة، وحّدتها دولة مركزية قوية». هذا التصوّر لهوية الحضارة الروسية يوصف عند بعض الكتاب الروس بالمحافظ لأنه يعتمد على خصوصية المكان، في حين أن هناك تصوّراً آخر يطرح نفسه بديلاً حضارياً ويعيب على أصحاب التصوّر السابق بأنهم ماضويون، ولا يريدون المسار الحضاري الإنساني إلا من خلال الأرض التي يعيشون عليها، والرؤية الدينية التي يؤمنون بها. والتصوّر الأخير متنوّع المشارب الفكرية التي تنضوي كلها تحت تسمية عامة يطلق عليها النظرة المادية للوجود، وفيها اللون الليبرالي الغربي والماركسي. وهذا التصوّر يسعى بكل جهده إلى إدخال روسيا في مسيرة العولمة.
لطالما شغل وما زال يشغل المفكرين الروس في بحثهم عن هوية الحضارة الروسية موقع روسيا التاريخي والمعاصر في الغرب والشرق، فمعادلة روسيا– أوروبا– الغرب، أو روسيا– آسيا الشرق هي المعادلة الأبرز في البحث عن الهوية الحضارية الروسية. ولعل من أبرز الشخصيات الفلسفية التي بحثت في هذه المعادلة بين الشرق والغرب سولفيوف وبردييف الذي اشتغل كثيراً على ما يسمّى «الفكرة الروسية»، فهو لم ير كثافة حضورها لا في المجال الغربي البحت، ولا في المدى الشرقي. إن هذا الفيلسوف الذي مرّ بتجارب فلسفية وحياتية عديدة، وتمكّن من التعرّف العميق إلى ثقافات الشرق والغرب، قال عن الشعب الروسي هو شعب النهايات لا شعب البداية والوسط. «الروس كما يقول «عبثيون» إنهم ينشدون دائماً النهايات.
كما كان البحث عن هوية الحضارة الروسية محط نقاش عند الكتاب والمفكرين الروس قبل دخول العولمة، إذاً هذا النقاش يتجدّد من خلال أبحاث أكاديميين، من بينهم هانتنغتون الأميركي ويرسوف الروسي. أكاديميان يشكلان مرجعية ثقافية ملحوظة في بلديهما، وإن كل منهما يعبّر عن الهاجس الثقافي العام الذي يقلق حضارته، ويعكس بعض جوانب القوة والضعف عنده وعند غيره.
يشكّل الاختلاف والتنوّع، وفق رؤية هانتغتون مصدراً للنزاع، ومن هنا فإنه يعتبر أن الحضارة الغربية تختلف بصورة أساسية لا بل تتناقض مع الحضارات الكونفوشوسية واليابانية والهندوسية والبوذية والإسلامية والسلافية والأرثوذكسية، هذه الحضارات يتنبّأ لها المفكر الأميركي بمستقبل مشؤوم، ويحكم عليها بالتكسر والتمزق التدريجي، ويعتقد أن بعضها قد ينقذ نفسه من السقوط في هاوية الأفول السريع وبالتالي الانقراض، إذا ما خلع عن نفسه عباءة الخصوصية الثقافية، وتمكّن من ركوب قطار العولمة. بالمقابل يرى المفكر الروسي يرسوف أن ثمة حالة من القلق الوجودي عند الروس حيال العولمة الاقتصادية والثقافية. فبعض المستفيدين وبالذات الذي يطلق على نفسه اسم التيار الديمقراطي متماه مع العولمة، وحريص على إبراز إيجابياتها فقط، في حين لا يرى التيار المعارض لها، والذي يضمّ في صفوفه تيارات متعدّدة : القومي والأرثوذكسي واليساري في العولمة إلا مبادرة شؤم على روسيا. يرسوف الذي يجتهد لأن يحمل راية الموضوعية الأكاديمية يجد نفسه شديد الالتصاق بالتيار الثاني، فهو يعيب على مروّجي العولمة الثقافية إرادة التوسّع، والغزو والهيمنة لدى حاملي الرايات الحضارية الرائدة، وتلك الإرادة موجّهة في شكل أساسي لتكسير الجانب الأكسيولوجي والروحي لدى الحضارات الأخرى. فهو يعتبر أن في عصرنا هذا تتلقّى الضربات تلك الثقافات العريقة التي لا تتطابق روحها مع ماهية الثقافة المعاصرة، وأضحى تراث تلك الثقافات وكأنه من محفوظات المتاحف، أومن النصوص المختارة التي يحتفظ بها فقط من أجل عرضها في المناسبات.
في معرض تقويم يرسوف لآثار العولمة على حضارة بلاده، يشير الى أنها أضحت تدخل بقوة في أنماط وتفكير وسلوكيات الروس، ولا سيما الذين يعيشون في المدن، كما أن قيم الغرب البرغماتي والعقلاني بدأت تهبّ بقوة على الحضارة الروسية، فروسيا الآن هي أشبه بمزيج من روحانية الهند، والقوة العسكرية لألمانيا، وعقلها أقرب إلى فلسفة الغرب، وقلبها يرتاح إلى روحانية الشرق، وشخصيتها الثقافية تتأرجح بين هذا وذاك.
كتاب سهيل فرح يسلّط الضوء على نقاط الضعف والقوة في الجيوبولتيك الروسي، ويقدّم رؤية مستقبلية تستشرف الحضور الروسي في أوراسيا الكبرى، وكذا في العالم.
تعني الحضارة بمفهومها الشامل كل ما يميّز أمة عن أمة أخرى، من حيث العادات والتقاليد، والقيم الدينية والأخلاقية، ونظام الحكم، والإنجازات العلمية والفنية والعمرانية.
كتاب سهيل فرح «الحضارة الروسية– المعنى والمصير» منشورات الدار العربية للعلوم- ناشرون، يحاول أن يقترب من هذا المفهوم الشامل للحضارة في تعاطيه مع الحضارة الروسية. فهو يسلّط الضوء على الإرث الثقافي والعلمي والروحي الذي تركته الشعوب الروسية عبر التاريخ في نقاط انتصاراتها وتعثّراتها، ويدخل في شرح وعي الروس المبكر لقوانين التطوّر وقوانين الطبيعة، والاجتماع، مركزاً في شكل أساسي على ثلاثية اللغة السلافية، والدين الأرثوذكسي، والمعتقد الاشتراكي. ثلاثية طبعت الحضارة الروسية بطابعها عبر التاريخ.
ينطلق فرح في الكشف عن السمات المميزة للحضارة الروسية من المدى الجغرافي الذي يسهم في تشكيل الجماعة البشرية وصهر نفسيتها، ورسم الخصائص القومية والثقافية لشخصيتها. والجغرافيا الروسية تشتمل على كل المناخات والبيئات الطبيعية للكرة الأرضية. فهناك المناخات الصقيعية والثلجية والمعتدلة، وهناك مناطق التوندرا والمساحات التي تحتلها الغابات الواسعة والسهوب الشديدة الاتساع، وهناك اليابسة المتاخمة للمحيطات والبحار والبحيرات والأنهار والينابيع.
يسكن أربعة أخماس الروس في الشطر الأوروبي، والخمس المتبقي في الشطر الأسيوي من الجغرافيا الروسية. وفي المئة سنة الأخيرة قطن ما يقارب ثلاثة أرباع السكان في المدن. في حين سكن الربع الباقي في المناطق الريفية. لذا يمكن القول إن «الشخصية المدينية» هي الغالبة على الشخصية الحضارية الروسية المعاصرة، وهي التي تشغل الحيّز الأكبر من الحياة الاقتصادية والثقافية في روسيا.
إضافة إلى الشخصية المدينية التي وسمت الحضارة الروسية بطابعها، هناك صفتان أخريان تنسبان إلى هذه الحضارة، وهي الصفة الأوروبية والصفة الأسيوية اللتان في تفاعلهما الجغرافي والسكاني أدّتا إلى تكوين روح روسية واضحة المعالم. روح قال عنها الفيلسوف الروسي بردييف إنها لا تحدّ لها حدود، ولا يمكن الإطاحة بها، ولا تعرف قوة هذه الروح إلا في أزمات التحدي الكبرى سواء الآتية من هيجان الطبيعة، أم من رغبة الغزاة الأجانب في غزو المدى الروسي.
الجغرافيا الروسية بمداها الواسع خلقت الجغرافيا الروحية، كما يقول مؤلف الكتاب، وهذه الأخيرة أثّرت في ثقافة العين والأذن وسائر الحواس، وأغنت المخيلة الفنية والجمالية والعلمية. إن اتساع الجغرافيا الطبيعية الروسية ترك تأثيره الكبير على فضاء الكلمة ونقاوتها وبريقها في الشعر والأدب (دوستويفسكي، تولستوي، تشيخوف) والرسم وحركات الجسد، وكل فنون الرقص وبخاصة فن رقص الباليه.
تقول الباحثة الروسية سيمنكوفا في تناولها لهوية الحضارة الروسية: «إن روسيا ظهرت على ملتقى الحضارة المسيحية والحضارة الإسلامية والحضارة البوذية، وقامت على مجال هائل من الاتساع، شهد تنقّلات مجموعات شعوب رحل، وشبه رحل. بهذا المعنى هي تجمع تاريخي لتكتل من الشعوب الكثيرة، ذات توجهات حضارية مختلفة، وحّدتها دولة مركزية قوية». هذا التصوّر لهوية الحضارة الروسية يوصف عند بعض الكتاب الروس بالمحافظ لأنه يعتمد على خصوصية المكان، في حين أن هناك تصوّراً آخر يطرح نفسه بديلاً حضارياً ويعيب على أصحاب التصوّر السابق بأنهم ماضويون، ولا يريدون المسار الحضاري الإنساني إلا من خلال الأرض التي يعيشون عليها، والرؤية الدينية التي يؤمنون بها. والتصوّر الأخير متنوّع المشارب الفكرية التي تنضوي كلها تحت تسمية عامة يطلق عليها النظرة المادية للوجود، وفيها اللون الليبرالي الغربي والماركسي. وهذا التصوّر يسعى بكل جهده إلى إدخال روسيا في مسيرة العولمة.
لطالما شغل وما زال يشغل المفكرين الروس في بحثهم عن هوية الحضارة الروسية موقع روسيا التاريخي والمعاصر في الغرب والشرق، فمعادلة روسيا– أوروبا– الغرب، أو روسيا– آسيا الشرق هي المعادلة الأبرز في البحث عن الهوية الحضارية الروسية. ولعل من أبرز الشخصيات الفلسفية التي بحثت في هذه المعادلة بين الشرق والغرب سولفيوف وبردييف الذي اشتغل كثيراً على ما يسمّى «الفكرة الروسية»، فهو لم ير كثافة حضورها لا في المجال الغربي البحت، ولا في المدى الشرقي. إن هذا الفيلسوف الذي مرّ بتجارب فلسفية وحياتية عديدة، وتمكّن من التعرّف العميق إلى ثقافات الشرق والغرب، قال عن الشعب الروسي هو شعب النهايات لا شعب البداية والوسط. «الروس كما يقول «عبثيون» إنهم ينشدون دائماً النهايات.
كما كان البحث عن هوية الحضارة الروسية محط نقاش عند الكتاب والمفكرين الروس قبل دخول العولمة، إذاً هذا النقاش يتجدّد من خلال أبحاث أكاديميين، من بينهم هانتنغتون الأميركي ويرسوف الروسي. أكاديميان يشكلان مرجعية ثقافية ملحوظة في بلديهما، وإن كل منهما يعبّر عن الهاجس الثقافي العام الذي يقلق حضارته، ويعكس بعض جوانب القوة والضعف عنده وعند غيره.
يشكّل الاختلاف والتنوّع، وفق رؤية هانتغتون مصدراً للنزاع، ومن هنا فإنه يعتبر أن الحضارة الغربية تختلف بصورة أساسية لا بل تتناقض مع الحضارات الكونفوشوسية واليابانية والهندوسية والبوذية والإسلامية والسلافية والأرثوذكسية، هذه الحضارات يتنبّأ لها المفكر الأميركي بمستقبل مشؤوم، ويحكم عليها بالتكسر والتمزق التدريجي، ويعتقد أن بعضها قد ينقذ نفسه من السقوط في هاوية الأفول السريع وبالتالي الانقراض، إذا ما خلع عن نفسه عباءة الخصوصية الثقافية، وتمكّن من ركوب قطار العولمة. بالمقابل يرى المفكر الروسي يرسوف أن ثمة حالة من القلق الوجودي عند الروس حيال العولمة الاقتصادية والثقافية. فبعض المستفيدين وبالذات الذي يطلق على نفسه اسم التيار الديمقراطي متماه مع العولمة، وحريص على إبراز إيجابياتها فقط، في حين لا يرى التيار المعارض لها، والذي يضمّ في صفوفه تيارات متعدّدة : القومي والأرثوذكسي واليساري في العولمة إلا مبادرة شؤم على روسيا. يرسوف الذي يجتهد لأن يحمل راية الموضوعية الأكاديمية يجد نفسه شديد الالتصاق بالتيار الثاني، فهو يعيب على مروّجي العولمة الثقافية إرادة التوسّع، والغزو والهيمنة لدى حاملي الرايات الحضارية الرائدة، وتلك الإرادة موجّهة في شكل أساسي لتكسير الجانب الأكسيولوجي والروحي لدى الحضارات الأخرى. فهو يعتبر أن في عصرنا هذا تتلقّى الضربات تلك الثقافات العريقة التي لا تتطابق روحها مع ماهية الثقافة المعاصرة، وأضحى تراث تلك الثقافات وكأنه من محفوظات المتاحف، أومن النصوص المختارة التي يحتفظ بها فقط من أجل عرضها في المناسبات.
في معرض تقويم يرسوف لآثار العولمة على حضارة بلاده، يشير الى أنها أضحت تدخل بقوة في أنماط وتفكير وسلوكيات الروس، ولا سيما الذين يعيشون في المدن، كما أن قيم الغرب البرغماتي والعقلاني بدأت تهبّ بقوة على الحضارة الروسية، فروسيا الآن هي أشبه بمزيج من روحانية الهند، والقوة العسكرية لألمانيا، وعقلها أقرب إلى فلسفة الغرب، وقلبها يرتاح إلى روحانية الشرق، وشخصيتها الثقافية تتأرجح بين هذا وذاك.
كتاب سهيل فرح يسلّط الضوء على نقاط الضعف والقوة في الجيوبولتيك الروسي، ويقدّم رؤية مستقبلية تستشرف الحضور الروسي في أوراسيا الكبرى، وكذا في العالم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.