سعر الدولار اليوم الخميس 27 يونيو في البنوك المصرية    الجيش البولندي يعتمد قرارا يمهد "للحرب مع روسيا"    "فنزويلا في الصدارة".. ترتيب المجموعة الثانية ببطولة كوبا أمريكا    تراجع سعر الفراخ.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية اليوم الخميس 27 يونيو 2024    إبراهيم عيسى: إزاحة تنظيم جماعة الإخوان أمنيًا واجب وطني    اعتقال قائد الجيش البوليفي بعد محاولة انقلاب    انخفاض أسعار النفط بعد زيادة مفاجئة في المخزونات الأمريكية    بحار أسطوري ونجم "قراصنة الكاريبي"، سمكة قرش تقتل راكب أمواج محترفا في هوليوود (صور)    هل يجوز الاستدانة من أجل الترف؟ أمين الفتوى يجيب    حبس عامل قتل آخر في مصنع بالقطامية    ليه التزم بنظام غذائي صحي؟.. فوائد ممارسة العادات الصحية    والدة لاعب حرس الحدود تتصدر التريند.. ماذا فعلت في أرض الملعب؟    إصابة فلسطينيين اثنين برصاص قوات الاحتلال خلال اقتحام مخيم الدهيشة جنوب بيت لحم    غارة إسرائيلية تستهدف مبنى شمال مدينة النبطية في عمق الجنوب اللبناني    إعلان نتيجة الدبلومات الفنية الشهر المقبل.. الامتحانات تنتهي 28 يونيو    مسرحية «ملك والشاطر» تتصدر تريند موقع «إكس»    هانئ مباشر يكتب: تصحيح المسار    دعاء الاستيقاظ من النوم فجأة.. كنز نبوي منقول عن الرسول احرص عليه    7 معلومات عن أولى صفقات الأهلي الجديدة.. من هو يوسف أيمن؟    تسجيل 48 إصابة بحمى النيل في دولة الاحتلال الإسرائيلي خلال 12 ساعة    كندا تحارب السيارات الصينية    فولكس ڤاجن تطلق Golf GTI المحدثة    فى واقعة أغرب من الخيال .. حلم الابنة قاد رجال المباحث إلى جثة الأب المقتول    ما تأثيرات أزمة الغاز على أسهم الأسمدة والبتروكيماويات؟ خبير اقتصادي يجيب    حظك اليوم| برج الأسد 27 يونيو.. «جاذبيتك تتألق بشكل مشرق»    حظك اليوم| برج الجدي الخميس27 يونيو.. «وقت مناسب للمشاريع الطويلة»    جيهان خليل تعلن عن موعد عرض مسلسل "حرب نفسية"    حظك اليوم| برج العذراء الخميس 27 يونيو.. «يوما ممتازا للكتابة والتفاعلات الإجتماعية»    17 شرطا للحصول على شقق الإسكان التعاوني الجديدة في السويس.. اعرفها    إصابة محمد شبانة بوعكة صحية حادة على الهواء    سموحة يهنئ حرس الحدود بالصعود للدوري الممتاز    حقوقيون: حملة «حياة كريمة» لترشيد استهلاك الكهرباء تتكامل مع خطط الحكومة    مجموعة من الطُرق يمكن استخدامها ل خفض حرارة جسم المريض    إبراهيم عيسى: أزمة الكهرباء يترتب عليها إغلاق المصانع وتعطل الأعمال وتوقف التصدير    سيدة تقتحم صلاة جنازة بالفيوم وتمنع دفن الجثمان لهذا السبب (فيديو)    هل يوجد شبهة ربا فى شراء شقق الإسكان الاجتماعي؟ أمين الفتوى يجيب    محاكمة مصرفيين في موناكو بسبب التغافل عن معاملات مالية كبرى    منير فخري: البرادعي طالب بالإفراج عن الكتاتني مقابل تخفيض عدد المتظاهرين    "الوطنية للإعلام" تعلن ترشيد استهلاك الكهرباء في كافة منشآتها    العمر المناسب لتلقي تطعيم التهاب الكبدي أ    نوفو نورديسك تتحمل خسارة بقيمة 820 مليون دولار بسبب فشل دواء القلب    ميدو: الزمالك «بعبع» ويعرف يكسب ب«نص رجل»    خالد الغندور: «مانشيت» مجلة الأهلي يزيد التعصب بين جماهير الكرة    ملخص وأهداف مباراة جورجيا ضد البرتغال 2-0 فى يورو 2024    الدفاع السورية: استشهاد شخصين وإصابة آخرين جراء قصف إسرائيلى للجولان    إجراء جديد من جيش الاحتلال يزيد التوتر مع لبنان    وزراء سابقون وشخصيات عامة في عزاء رجل الأعمال عنان الجلالي - صور    انقطاع الكهرباء عرض مستمر.. ومواطنون: «الأجهزة باظت»    مدير مكتبة الإسكندرية: استقبلنا 1500 طالب بالثانوية العامة للمذاكرة بالمجان    هيئة الدواء المصرية تستقبل وفد الشعبة العامة للأدوية باتحاد الغرف التجارية    بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم.. والأرصاد الجوية تكشف موعد انتهاء الموجة الحارة    عباس شراقي: المسئولون بإثيوبيا أكدوا أن ملء سد النهضة أصبح خارج المفاوضات    رئيس قضايا الدولة يُكرم أعضاء الهيئة الذين اكتمل عطاؤهم    حدث بالفن | ورطة شيرين وأزمة "شنطة" هاجر أحمد وموقف محرج لفنانة شهيرة    يورو 2024، تركيا تفوز على التشيك 2-1 وتصعد لدور ال16    تعرف على سبب توقف عرض "الحلم حلاوة" على مسرح متروبول    حكم استرداد تكاليف الخطوبة عند فسخها.. أمين الفتوى يوضح بالفيديو    هل يجوز الرجوع بعد الطلاق الثالث دون محلل؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العناصر الدلالية والجمالية في أفلام المغربية أسماء المدير
نشر في صوت البلد يوم 30 - 01 - 2017

لا يمكننا الحديث عن التجارب السينمائية المغربية، خصوصا تلك التي أنجزت بأياد نسوية دون الحديث عن تجربة أسماء المدير، المخرجة الشابة التي ولجت السينما من بابها الكبير، عشقها للصورة دفعها للدخول بين متاهاتها والتنقل بين دروبها، وسبر أغوارها من خلال رحلة أكاديمية استكشافية بدأت من المغرب، لتشمل بعد ذلك فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية ثم روسيا، خلطة متنوعة ومختلفة من المدارس نهلت منها ثقافتها السينمائية بمختلف أجناسها لتعود بعد ذلك إلى وطنها محملة بأفكار جديدة ومفاهيم مغايرة للسائد، ظهرت جليا في أفلامها القصيرة المتعددة.
القيم الدلالية
تُشكل أفلامها القصيرة لوحة فسيفسائية متقنة الصنع، ترصد بتوازن عوالم المهمش بأبعادها الاجتماعية، لكن بمعالجة متفردة تروم استحضار قصص إنسانية معبرة بدلالات إيحائية، تحاكي قضايا مجتمعية في قالب درامي غير معقد، أفلام ببناء منطقي غير مشفر، متنها الحكائي بسيط للغاية لا يحمل بين طياته رسائل ملتبسة وغامضة، كما قد يستنتج البعض، خصوصا في فيلم ”جمعة مباركة” الذي قدم قراءة مختلفة لتركيبة المجتمع المغربي في فترة من الفترات، قراءة عالجتها بصريا بشكل إبداعي لم نألفه، رغم خيوطه ”السياسية” المتشابكة التي نسجتها الراوية/الشاهدة بعفوية، مرتكزة في ذلك على اجترار تفاصيل ذاكرتها، هذه الأخيرة التي شكلت وعاء الفيلم وشريانه، ومن خلالها وقفت المخرجة/ الراوية على فترات معينة من تاريخ عائلتها، تلك التي قد تمثل في مخيلة المُشاهد المجتمع الموسع والمتشعب بآرائه المختلفة ومواقفه المتعددة المتشنجة حد التصادم، ومع ذلك تجده يتحلق حول مائدة واحدة ويأكل من الصحن نفسه، في إشارة إلى المصير المشترك الذي يدفعه الى التعايش والتسامح. ويبقى هذا ”الخطاب السياسي” في الفيلم مجرد ضرورة استدعتها شخصياته، خصوصا الشخصية الرئيسية المحتفى بها (الخال مرزوق) ذاك الثوري الذي يمثل شباب الستينيات والسبعينيات، العائد من الاتحاد السوفييتي برؤى مختلفة وبفكر ”كُلياني” واضح، من خلال ما يردده دائما بأن ”التاريخ لا يكتبه سوى المنتصرين”. وهي قولة تمجد القائد المنتصر وترسخ عظمته وقوته، وقد كانت منتشرة إبان سيادة الإيديولوجيات الكليانية، أو ما يعرف بالإيديولوجيات الشمولية، عدم إيمانه بالوسط يدخله دائرة اليسارالمتطرف، (فمن ليس من هؤلاء أو أولئك فهو منعدم غير موجود)، فهذا توجهه وهذا اعتقاده، وعبارته ”الحياة عبارة عن فائزين وخاسرين، مستغِلين ومستغَلين” تؤكد لنا ذلك، وقد اختزلت المخرجة كل هذه الافكار بطريقة ذكية في الدمية الروسية ال»ماتريوشكا» أو «بابوشكا» الحاملة لرموز عدة من بينها ستالين، الذي يحيلنا في الفيلم الى شخصية الخال. وفي المقابل هناك شقيقه الخال حميد المتدين ”طالبان” كما وصفته الراوية في الفيلم، بالإضافة إلى أبيها الذي رُمز إليه بدمية تحمل على واجهتها صورة الملك الراحل الحسن الثاني، ربما للدلالة على انحيازه التام للنظام المغربي آنذاك. هاتان الشخصيتان الأخيرتان لم تقف عندهما المخرجة كثيرا، بل تمت الإشارة إليهما فقط حتى تظهر مدى اختلاف الميولات السياسية في عائلة تلعب فيها الأم /الحاجة (كما في باقي الأسر المغربية) دور المايسترو الذي يتوسط الأوركسترا ويوزع الأدوار بين أعضائها بديمقراطية وعدل، فلا فرق عنده بين من يعزف آلة الكمان أو آلة العود، فكل النغمات لديه متساوية، بل يكمل بعضها بعضا.
من بين الوحدات الدلالية المستعملة بذكاء أيضا في أفلام أسماء المدير، القاعة السينمائية وما تمثله من حلقة أساسية ضمن منظومة سينمائية متكاملة، وهي الحلقة المفقودة لدينا نحن في المغرب، وقد تناولتها المخرجة ضمن قصة درامية بسيطة في فيلمها الروائي القصير ”دوار السوليما”، إذ لم تعتمد التساؤلات النقدية المباشرة في تشريح هذه الظاهرة، أي ظاهرة اندثار قاعات السينما في البلاد، بل أحاطتها بحكاية ذات أبعاد حركية تعاقبية رمزية، مرتبطة بلغة بصرية ولفظية وموسيقية آثرت رصد هذه الأزمة من بعيد دون الدخول في متاهات وتفاصيل لن يتحملها الفيلم القصير، فاعتمادها مبدأ التكثيف بإتقان ساهم في بلورة مسار سردي واضح في زمن قصير(وهذا هو المطلوب)، مسار يرتكز على فكرة واحدة ووحيدة هي (النهوض بالقاعات السينمائية)، وهذا التكثيف لا يعني تخلي المخرجة عن البناء الهرمي التقليدي للحدث، بل بالعكس تم توظيفه بشكل يتناسب والاحتفاء بالمكان، حتى تجعل من الفكرة عنصرا قابلا للتداول والانتشار بين أكبر عدد ممكن من الجمهور، خصوصا أن هذا العمل يحاسب مجتمعا بأكمله ولا يخص فئة محددة أو مؤسسة بعينها، فصاحب القاعة مخطئ لأنه لم يبحث عن البديل لجذب الجمهور، بل تخلى بسهولة عن مشروعه إلى درجة أنه كتب على لوحة البيع كلمة (زريبة) وفي هذا احتقار لفضاء مقدس سينمائيا.
الجمهور المتمثل في سكان القرية مخطئ أيضا فهو لا يبادر الى استكشاف السينما فهو دائم الانتظار، والمبادرة عليها أن تأتي من الآخر، كما أن الفيلم أشار بطريقة أو بأخرى إلى غياب الدولة، حيث لم نرصد من بدايته إلى نهايته أي تدخل من قبلها لإنقاذ الصالة الوحيدة في المنطقة، ولا حتى صيانتها، هي إذن توليفة موفقة من الدلالات تصب في قالب سيميولوجي واحد يُحقق عبر هذه الثلاثية عناصر أزمة عليها أن تنتهي على أرض الواقع.
عنصر الموت
أفلام أسماء المدير لا تخلو من عنصر الموت، ليس بطبيعته المادية فحسب، بل ببعده الرمزي المعبر عن المستقبل أيضا، مستقبل مفتوح على كل الاحتمالات، كما جاء في فيلمها ”ألوان الصمت” الذي احتفت فيه بالموت بلغة بصرية شاعرية هادئة، امتزجت فيها الكثير من مفردات الطبيعة كالبحر والسماء والغروب، فرغم أن هذا المشهد، وهو مشهد النهاية يعبر عن الحزن وآلام الفراق، لكن يبقى في مضمونه عرسا احتفاليا يحتفي بموت البؤس/الأب، وانبعاث أمل جديد/ الطفلة، تلك الإنسانة الخرساء الصامتة الطيبة المستسلمة، المتمردة الثائرة العنيدة فجأة بعد حادثة وفاة والدها، وبين الأب والطفلة هناك الأم المنتظرة والمترقبة للمستقبل، سواء قبل أو بعد حدث الموت، وأقوى مشهد يعبر عن وضعيتها هذه مشهد البداية، حيث تقف فيه جامدة صامتة بملابس بيضاء – وهو لون الحداد في المغرب- في مواجهة البحر الذي ابتلع زوجها وبينها وبينه (أي البحر) شبكة صيد تمثل رمز المستقبل الجميل، الذي كان يراهن عليه زوجها قبل وفاته، وتمثل في الآن نفسه أداة هلاكه وضياعه، لينهي الفيلم مسار أحداثه الدرامية بثنائية متقابلة هي الطفلة الحاضرة/الحياة والمستقبل، والأب الغائب/ الموت والماضي.
في فيلمها «جمعة مباركة» نجد الموت أيضا، موت الخال مرزوق، الذي يمثل – كما قلت سابقا- أقصى اليسار داخل العائلة، وما يدل على ذلك في الفيلم – بالإضافة إلى أفكاره- جلوسه الدائم على يسار والدته كل يوم جمعة، بينما باقي الشخصيات تجلس على يمينها وكلهم أصحاب رؤى سياسية مغايرة له، وربما وفاته بعد صراعه مع مرض السرطان فيها إشارة الى وضعية اليسار المغربي الذي يعاني من الترهل والمرض والموت أيضا.
الموت في هذين الفيلمين قد يتجاوز المادي المحسوس إلى خطاب مجازي يؤوله ويسقطه على حالات وظواهر أخرى نعيشها مجتمعيا، لكن في فيلم «دوار السوليما» نجد الموت بمفهوم آخر يهم الفضاء والمكان، مجاز يلامس ظاهرة غياب القاعات السينمائية، فإغلاق الصالة السينمائية الوحيدة بالقرية هو موت أيضا، وبث الحياة فيها من جديد هو أمل وتفاؤل مستقبلي.
عنصر الطفل
يحتل الطفل في أفلام أسماء المدير حيزا مهما، إذ نجده في جميع أفلامها تقريبا ففي فيلم «دوار السوليما» كان بارزا بقوة، بل كان صانع الحدث فيه، وتواجده كان بمثابة النواة التي تدور في فلكها باقي الشخصيات. حضوره أيضا في فيلم ”ألوان الصمت” كان محوريا، فهو تلك الفتاة الصغيرة الصامتة التي تمثل الجسر الرابط بين كل العناصر والشخصيات الفيلمية، وصمتها يعبر عن حالة وجودية ساكنة ترصد ببراءة طفولية وأمل عفوي الحياة الصاخبة القاسية من حولها، حياة البؤس والفقر والمعاناة، وتدفعنا نحن الجمهور لاستكشاف عوالم الطفل النفسية التي تجعله صامدا داخل هذه الدائرة الموحشة، وقد وقفت المخرجة على هذه الحالة وأبرزتها بقوة وأتقنت تسريبها بين الأحداث، حتى جعلتنا نتقمص دور الفتاة في مراقبة الحياة وانتظار الأمل. في فيلم ”جمعة مباركة” كانت الراوية هي الطفلة نفسها، فرغم أنها تروي الحكاية بلسان فتاة عدَّت طفولتها بسنوات، إلا أن الذاكرة المستعادة في العمل هي ذاكرة طفلة عاشت الأحداث وكانت شاهدة عليها، ومن خلالها تعرفنا على نظرة الطفلة للكثير من التفاصيل العائلية المرتبطة أساسا بتفاصيل أخرى أوسع تهم مجتمعا بأكمله.
حضور الطفل في أفلام أسماء المدير هو حضور مرتبط بذاتية المخرجة نفسها، فتوظيفه بقوة هو بمثابة استحضار الطفولة القابعة داخلها، طفولة محملة بالهواجس النفسية والاجتماعية، بحيث لا تلبث أن تظهر من تلقاء نفسها كلما انطلقت عملية التصوير. أما علاقته ببنية الفيلم الدرامية وكذا رؤيته الفكرية، فهي علاقة بسيطة غير معقدة نسبيا، لكنها في الآن نفسه معبرة وعميقة في طرحها، حيث نجد في فيلم ”دوار السوليما” ذاك الطفل الموهوب، المبتكر، المهووس بالصورة، البعيد عن عالم الطفل والمنغمس في عالم أكبر منه، عالم السينما بهواجسه ومشاكله. وفي فيلم ”ألوان الصمت” نجده فتاة منعزلة صامتة بعيدة أيضا عن عالم الكبار لكنها شاهدة عليه، وهي نفسها الفتاة/الشاهدة في فيلم ”جمعة مباركة” لكنها ليست صامتة ولا منعزلة، بل هي حاضرة بكل ثقلها المادي والمعنوي، حيث تشاهد وتحلل وتفسر وتستنتج.
خلاصة مفتوحة
تستخدم أسماء المدير في أفلامها أسلوبا سينمائيا بسيطا للغاية بلغة سردية أنيقة مركزة، بعيدة عن الحشو والتمطيط، توجهها يعتمد بشكل أساسي على عنصري الطفل والأمكنة الخارجية المفتوحة (بخلاف ”جمعة مباركة”)، وهي عناصر تذكرنا بالمدرسة الإيرانية، خصوصا مدرسة عباس كيارستمي وجعفر بناهي وسميرة مخملباف وغيرهم، حتى أننا نجد بعض الإكسسوارات المختارة في أعمال أسماء المدير، إضافة إلى فضاءات التصوير الخارجية تتشابهه نوعا ما مع تلك المستعملة في بعض الأفلام الإيرانية، وأعطي هنا كمثال اللوح الإعلاني لملصقات الأفلام، الذي يحمله الطفل على ظهره طيلة أحداث شريط «دوار السوليما» والألواح السوداء التي يحملها شخوص فيلم «اللوح الأسود» Blackboards لمخملباف، طبعا تختلف وظيفة اللوح في كلا الفيلمين، لكن الاكسسوار نفسه والهدف منه واحد. طبعا لا يعتبر هذا انتقاصا من قيمة أفلام أسماء المدير بل بالعكس فالمُشاهد المطلع قد يلمس هذا التقارب لكنه تقارب صحي مميز ومعالج بطريقة تقنية وجمالية مختلفة تماما.
يُظهر التراكم النوعي الذي حققته أسماء المدير في مجال الفيلم الروائي القصير تميزها الملحوظ في هذا الجنس السينمائي، وتمكنها من أدواته، وإتقانها لعملية الهدم والبناء التي تعتمد عليها لغته، كما يُظهر لنا استخدامها الجيد للإيقاع المتوازن والهادئ في سيرورة الأحداث، وهو إيقاع يجعل التفاعل أكثر قربا من مخيلة المُشاهد، ويكشف لنا عن قدرتها على اقتناص اللقطة وتحويلها إلى قلق معيش. أما شخصياتها الفيلمية المختارة بعناية فهي واقعية جدا ومتماهية مع كينونة المخرجة نفسها، وتجعل الرؤية أكثر وضوحا وشفافية.
وفي الأخير، يبقى أن نشير إلى أن لأسماء المدير خمسة أفلام روائية قصيرة هي «الرصاصة الأخيرة»، و«ألوان الصمت»، و«جنة»، و«جمعة مباركة»، و«دوار السوليما».
........
٭ ناقد سينمائي مغربي مقيم في هولندا
لا يمكننا الحديث عن التجارب السينمائية المغربية، خصوصا تلك التي أنجزت بأياد نسوية دون الحديث عن تجربة أسماء المدير، المخرجة الشابة التي ولجت السينما من بابها الكبير، عشقها للصورة دفعها للدخول بين متاهاتها والتنقل بين دروبها، وسبر أغوارها من خلال رحلة أكاديمية استكشافية بدأت من المغرب، لتشمل بعد ذلك فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية ثم روسيا، خلطة متنوعة ومختلفة من المدارس نهلت منها ثقافتها السينمائية بمختلف أجناسها لتعود بعد ذلك إلى وطنها محملة بأفكار جديدة ومفاهيم مغايرة للسائد، ظهرت جليا في أفلامها القصيرة المتعددة.
القيم الدلالية
تُشكل أفلامها القصيرة لوحة فسيفسائية متقنة الصنع، ترصد بتوازن عوالم المهمش بأبعادها الاجتماعية، لكن بمعالجة متفردة تروم استحضار قصص إنسانية معبرة بدلالات إيحائية، تحاكي قضايا مجتمعية في قالب درامي غير معقد، أفلام ببناء منطقي غير مشفر، متنها الحكائي بسيط للغاية لا يحمل بين طياته رسائل ملتبسة وغامضة، كما قد يستنتج البعض، خصوصا في فيلم ”جمعة مباركة” الذي قدم قراءة مختلفة لتركيبة المجتمع المغربي في فترة من الفترات، قراءة عالجتها بصريا بشكل إبداعي لم نألفه، رغم خيوطه ”السياسية” المتشابكة التي نسجتها الراوية/الشاهدة بعفوية، مرتكزة في ذلك على اجترار تفاصيل ذاكرتها، هذه الأخيرة التي شكلت وعاء الفيلم وشريانه، ومن خلالها وقفت المخرجة/ الراوية على فترات معينة من تاريخ عائلتها، تلك التي قد تمثل في مخيلة المُشاهد المجتمع الموسع والمتشعب بآرائه المختلفة ومواقفه المتعددة المتشنجة حد التصادم، ومع ذلك تجده يتحلق حول مائدة واحدة ويأكل من الصحن نفسه، في إشارة إلى المصير المشترك الذي يدفعه الى التعايش والتسامح. ويبقى هذا ”الخطاب السياسي” في الفيلم مجرد ضرورة استدعتها شخصياته، خصوصا الشخصية الرئيسية المحتفى بها (الخال مرزوق) ذاك الثوري الذي يمثل شباب الستينيات والسبعينيات، العائد من الاتحاد السوفييتي برؤى مختلفة وبفكر ”كُلياني” واضح، من خلال ما يردده دائما بأن ”التاريخ لا يكتبه سوى المنتصرين”. وهي قولة تمجد القائد المنتصر وترسخ عظمته وقوته، وقد كانت منتشرة إبان سيادة الإيديولوجيات الكليانية، أو ما يعرف بالإيديولوجيات الشمولية، عدم إيمانه بالوسط يدخله دائرة اليسارالمتطرف، (فمن ليس من هؤلاء أو أولئك فهو منعدم غير موجود)، فهذا توجهه وهذا اعتقاده، وعبارته ”الحياة عبارة عن فائزين وخاسرين، مستغِلين ومستغَلين” تؤكد لنا ذلك، وقد اختزلت المخرجة كل هذه الافكار بطريقة ذكية في الدمية الروسية ال»ماتريوشكا» أو «بابوشكا» الحاملة لرموز عدة من بينها ستالين، الذي يحيلنا في الفيلم الى شخصية الخال. وفي المقابل هناك شقيقه الخال حميد المتدين ”طالبان” كما وصفته الراوية في الفيلم، بالإضافة إلى أبيها الذي رُمز إليه بدمية تحمل على واجهتها صورة الملك الراحل الحسن الثاني، ربما للدلالة على انحيازه التام للنظام المغربي آنذاك. هاتان الشخصيتان الأخيرتان لم تقف عندهما المخرجة كثيرا، بل تمت الإشارة إليهما فقط حتى تظهر مدى اختلاف الميولات السياسية في عائلة تلعب فيها الأم /الحاجة (كما في باقي الأسر المغربية) دور المايسترو الذي يتوسط الأوركسترا ويوزع الأدوار بين أعضائها بديمقراطية وعدل، فلا فرق عنده بين من يعزف آلة الكمان أو آلة العود، فكل النغمات لديه متساوية، بل يكمل بعضها بعضا.
من بين الوحدات الدلالية المستعملة بذكاء أيضا في أفلام أسماء المدير، القاعة السينمائية وما تمثله من حلقة أساسية ضمن منظومة سينمائية متكاملة، وهي الحلقة المفقودة لدينا نحن في المغرب، وقد تناولتها المخرجة ضمن قصة درامية بسيطة في فيلمها الروائي القصير ”دوار السوليما”، إذ لم تعتمد التساؤلات النقدية المباشرة في تشريح هذه الظاهرة، أي ظاهرة اندثار قاعات السينما في البلاد، بل أحاطتها بحكاية ذات أبعاد حركية تعاقبية رمزية، مرتبطة بلغة بصرية ولفظية وموسيقية آثرت رصد هذه الأزمة من بعيد دون الدخول في متاهات وتفاصيل لن يتحملها الفيلم القصير، فاعتمادها مبدأ التكثيف بإتقان ساهم في بلورة مسار سردي واضح في زمن قصير(وهذا هو المطلوب)، مسار يرتكز على فكرة واحدة ووحيدة هي (النهوض بالقاعات السينمائية)، وهذا التكثيف لا يعني تخلي المخرجة عن البناء الهرمي التقليدي للحدث، بل بالعكس تم توظيفه بشكل يتناسب والاحتفاء بالمكان، حتى تجعل من الفكرة عنصرا قابلا للتداول والانتشار بين أكبر عدد ممكن من الجمهور، خصوصا أن هذا العمل يحاسب مجتمعا بأكمله ولا يخص فئة محددة أو مؤسسة بعينها، فصاحب القاعة مخطئ لأنه لم يبحث عن البديل لجذب الجمهور، بل تخلى بسهولة عن مشروعه إلى درجة أنه كتب على لوحة البيع كلمة (زريبة) وفي هذا احتقار لفضاء مقدس سينمائيا.
الجمهور المتمثل في سكان القرية مخطئ أيضا فهو لا يبادر الى استكشاف السينما فهو دائم الانتظار، والمبادرة عليها أن تأتي من الآخر، كما أن الفيلم أشار بطريقة أو بأخرى إلى غياب الدولة، حيث لم نرصد من بدايته إلى نهايته أي تدخل من قبلها لإنقاذ الصالة الوحيدة في المنطقة، ولا حتى صيانتها، هي إذن توليفة موفقة من الدلالات تصب في قالب سيميولوجي واحد يُحقق عبر هذه الثلاثية عناصر أزمة عليها أن تنتهي على أرض الواقع.
عنصر الموت
أفلام أسماء المدير لا تخلو من عنصر الموت، ليس بطبيعته المادية فحسب، بل ببعده الرمزي المعبر عن المستقبل أيضا، مستقبل مفتوح على كل الاحتمالات، كما جاء في فيلمها ”ألوان الصمت” الذي احتفت فيه بالموت بلغة بصرية شاعرية هادئة، امتزجت فيها الكثير من مفردات الطبيعة كالبحر والسماء والغروب، فرغم أن هذا المشهد، وهو مشهد النهاية يعبر عن الحزن وآلام الفراق، لكن يبقى في مضمونه عرسا احتفاليا يحتفي بموت البؤس/الأب، وانبعاث أمل جديد/ الطفلة، تلك الإنسانة الخرساء الصامتة الطيبة المستسلمة، المتمردة الثائرة العنيدة فجأة بعد حادثة وفاة والدها، وبين الأب والطفلة هناك الأم المنتظرة والمترقبة للمستقبل، سواء قبل أو بعد حدث الموت، وأقوى مشهد يعبر عن وضعيتها هذه مشهد البداية، حيث تقف فيه جامدة صامتة بملابس بيضاء – وهو لون الحداد في المغرب- في مواجهة البحر الذي ابتلع زوجها وبينها وبينه (أي البحر) شبكة صيد تمثل رمز المستقبل الجميل، الذي كان يراهن عليه زوجها قبل وفاته، وتمثل في الآن نفسه أداة هلاكه وضياعه، لينهي الفيلم مسار أحداثه الدرامية بثنائية متقابلة هي الطفلة الحاضرة/الحياة والمستقبل، والأب الغائب/ الموت والماضي.
في فيلمها «جمعة مباركة» نجد الموت أيضا، موت الخال مرزوق، الذي يمثل – كما قلت سابقا- أقصى اليسار داخل العائلة، وما يدل على ذلك في الفيلم – بالإضافة إلى أفكاره- جلوسه الدائم على يسار والدته كل يوم جمعة، بينما باقي الشخصيات تجلس على يمينها وكلهم أصحاب رؤى سياسية مغايرة له، وربما وفاته بعد صراعه مع مرض السرطان فيها إشارة الى وضعية اليسار المغربي الذي يعاني من الترهل والمرض والموت أيضا.
الموت في هذين الفيلمين قد يتجاوز المادي المحسوس إلى خطاب مجازي يؤوله ويسقطه على حالات وظواهر أخرى نعيشها مجتمعيا، لكن في فيلم «دوار السوليما» نجد الموت بمفهوم آخر يهم الفضاء والمكان، مجاز يلامس ظاهرة غياب القاعات السينمائية، فإغلاق الصالة السينمائية الوحيدة بالقرية هو موت أيضا، وبث الحياة فيها من جديد هو أمل وتفاؤل مستقبلي.
عنصر الطفل
يحتل الطفل في أفلام أسماء المدير حيزا مهما، إذ نجده في جميع أفلامها تقريبا ففي فيلم «دوار السوليما» كان بارزا بقوة، بل كان صانع الحدث فيه، وتواجده كان بمثابة النواة التي تدور في فلكها باقي الشخصيات. حضوره أيضا في فيلم ”ألوان الصمت” كان محوريا، فهو تلك الفتاة الصغيرة الصامتة التي تمثل الجسر الرابط بين كل العناصر والشخصيات الفيلمية، وصمتها يعبر عن حالة وجودية ساكنة ترصد ببراءة طفولية وأمل عفوي الحياة الصاخبة القاسية من حولها، حياة البؤس والفقر والمعاناة، وتدفعنا نحن الجمهور لاستكشاف عوالم الطفل النفسية التي تجعله صامدا داخل هذه الدائرة الموحشة، وقد وقفت المخرجة على هذه الحالة وأبرزتها بقوة وأتقنت تسريبها بين الأحداث، حتى جعلتنا نتقمص دور الفتاة في مراقبة الحياة وانتظار الأمل. في فيلم ”جمعة مباركة” كانت الراوية هي الطفلة نفسها، فرغم أنها تروي الحكاية بلسان فتاة عدَّت طفولتها بسنوات، إلا أن الذاكرة المستعادة في العمل هي ذاكرة طفلة عاشت الأحداث وكانت شاهدة عليها، ومن خلالها تعرفنا على نظرة الطفلة للكثير من التفاصيل العائلية المرتبطة أساسا بتفاصيل أخرى أوسع تهم مجتمعا بأكمله.
حضور الطفل في أفلام أسماء المدير هو حضور مرتبط بذاتية المخرجة نفسها، فتوظيفه بقوة هو بمثابة استحضار الطفولة القابعة داخلها، طفولة محملة بالهواجس النفسية والاجتماعية، بحيث لا تلبث أن تظهر من تلقاء نفسها كلما انطلقت عملية التصوير. أما علاقته ببنية الفيلم الدرامية وكذا رؤيته الفكرية، فهي علاقة بسيطة غير معقدة نسبيا، لكنها في الآن نفسه معبرة وعميقة في طرحها، حيث نجد في فيلم ”دوار السوليما” ذاك الطفل الموهوب، المبتكر، المهووس بالصورة، البعيد عن عالم الطفل والمنغمس في عالم أكبر منه، عالم السينما بهواجسه ومشاكله. وفي فيلم ”ألوان الصمت” نجده فتاة منعزلة صامتة بعيدة أيضا عن عالم الكبار لكنها شاهدة عليه، وهي نفسها الفتاة/الشاهدة في فيلم ”جمعة مباركة” لكنها ليست صامتة ولا منعزلة، بل هي حاضرة بكل ثقلها المادي والمعنوي، حيث تشاهد وتحلل وتفسر وتستنتج.
خلاصة مفتوحة
تستخدم أسماء المدير في أفلامها أسلوبا سينمائيا بسيطا للغاية بلغة سردية أنيقة مركزة، بعيدة عن الحشو والتمطيط، توجهها يعتمد بشكل أساسي على عنصري الطفل والأمكنة الخارجية المفتوحة (بخلاف ”جمعة مباركة”)، وهي عناصر تذكرنا بالمدرسة الإيرانية، خصوصا مدرسة عباس كيارستمي وجعفر بناهي وسميرة مخملباف وغيرهم، حتى أننا نجد بعض الإكسسوارات المختارة في أعمال أسماء المدير، إضافة إلى فضاءات التصوير الخارجية تتشابهه نوعا ما مع تلك المستعملة في بعض الأفلام الإيرانية، وأعطي هنا كمثال اللوح الإعلاني لملصقات الأفلام، الذي يحمله الطفل على ظهره طيلة أحداث شريط «دوار السوليما» والألواح السوداء التي يحملها شخوص فيلم «اللوح الأسود» Blackboards لمخملباف، طبعا تختلف وظيفة اللوح في كلا الفيلمين، لكن الاكسسوار نفسه والهدف منه واحد. طبعا لا يعتبر هذا انتقاصا من قيمة أفلام أسماء المدير بل بالعكس فالمُشاهد المطلع قد يلمس هذا التقارب لكنه تقارب صحي مميز ومعالج بطريقة تقنية وجمالية مختلفة تماما.
يُظهر التراكم النوعي الذي حققته أسماء المدير في مجال الفيلم الروائي القصير تميزها الملحوظ في هذا الجنس السينمائي، وتمكنها من أدواته، وإتقانها لعملية الهدم والبناء التي تعتمد عليها لغته، كما يُظهر لنا استخدامها الجيد للإيقاع المتوازن والهادئ في سيرورة الأحداث، وهو إيقاع يجعل التفاعل أكثر قربا من مخيلة المُشاهد، ويكشف لنا عن قدرتها على اقتناص اللقطة وتحويلها إلى قلق معيش. أما شخصياتها الفيلمية المختارة بعناية فهي واقعية جدا ومتماهية مع كينونة المخرجة نفسها، وتجعل الرؤية أكثر وضوحا وشفافية.
وفي الأخير، يبقى أن نشير إلى أن لأسماء المدير خمسة أفلام روائية قصيرة هي «الرصاصة الأخيرة»، و«ألوان الصمت»، و«جنة»، و«جمعة مباركة»، و«دوار السوليما».
........
٭ ناقد سينمائي مغربي مقيم في هولندا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.