5 صور ترصد زحام طلاب الثانوية العامة داخل قاعات مكتبة الإسكندرية    جداول تنسيق القبول بمدارس الثانوى الفنى الصناعى والتجارى والفندقى بالجيزة .. تعرف عليه    قرار جديد من الداخلية بشأن التسجيل بدفعة معاوني الأمن الجديدة للذكور    البيت الأبيض: سوليفان أكد لجالانت دعم واشنطن الثابت لأمن إسرائيل    جولر يقود تشكيل تركيا ضد التشيك فى يورو 2024    الرئيس الإيراني الأسبق روحاني يدعم مرشحًا معتدلًا قبل الانتخابات    مباشر يورو 2024 - تركيا (0)-(0) التشيك.. انطلاق المباراة    تفاصيل عرض برشلونة لخطف جوهرة الدوري الإسباني    بالأسماء.. مصرع 6 أشخاص وإصابة 3 في حادث تصادم ب"زراعي البحيرة"    مصرع طالبة سقطت من الطابق الرابع بالعجوزة    التعليم تعلن نتيجة امتحانات الدور الأول للطلاب المصريين بالخارج    قبل انطلاقها.. مسرحية "ملك والشاطر" ترفع شعار "كامل العدد"    على أنغام أغنية "ستو أنا".. أحمد سعد يحتفل مع نيكول سابا بعيد ميلادها رفقة زوجها    "يا دمعي"، أغنية جديدة ل رامي جمال بتصميم كليب مختلف (فيديو)    هل يجوز الاستدانة من أجل الترف؟.. أمين الفتوى يجيب    أحمد المسلمانى: أمريكا تقدم نفسها راعية للقانون وتعاقب الجنائية الدولية بسبب إسرائيل    حكم استرداد تكاليف الخطوبة عند فسخها.. أمين الفتوى يوضح بالفيديو    سماجة وثقل دم.. خالد الجندي يعلق على برامج المقالب - فيديو    بالفيديو.. أمين الفتوى: العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة عليها أجر وثواب    في اليوم العالمي لمكافحة المخدرات- هل الأدوية النفسية تسبب الإدمان؟    القوات المسلحة تنظم مؤتمراً طبياً بعنوان "اليوم العلمى للجينوم "    "شباب النواب" توصى بصيانة ملاعب النجيل الصناعي في مختلف محافظات الجمهورية    بشرى لطلاب الثانوية العامة.. مكتبة مصر العامة ببنها تفتح أبوابها خلال انقطاع الكهرباء (تفاصيل)    «قطاع الآثار»: فيديو قصر البارون عار تمامًا من الصحة    أزمة جديدة تواجه شيرين عبد الوهاب بعد تسريب 'كل الحاجات'    وزير الرى يدشن فى جنوب السودان مشروع أعمال التطهيرات بمجرى بحر الغزال    فاشل وكاذب .. الموقف المصري : عطش مطروح يكشف تدليس السيسي عن تحلية المياه    لماذا يقلق الغرب من شراكة روسيا مع كوريا الشمالية؟ أستاذ أمن قومي يوضح    صندوق النقد الدولي يقر بتمويل 12.8 مليون دولار للرأس الأخضر    الرئيس السيسي يوقع قوانين بربط الحساب الختامي لموازنة عدد من الهيئات والصناديق    مساعد وزير البيئة: حجم المخلفات المنزلية يبلغ نحو 25 مليون طن سنويا    كيف يؤثر ارتفاع درجات الحرارة على الرحلات الجوية؟.. عطَّل آلاف الطائرات    بتكلفة 250 مليون جنيه.. رئيس جامعة القاهرة يفتتح تطوير مستشفي أبو الريش المنيرة ضمن مشروع تطوير قصر العيني    «مياه كفر الشيخ» تعلن فتح باب التدريب الصيفي لطلاب الجامعات والمعاهد    اخوات للأبد.. المصري والإسماعيلي يرفعان شعار الروح الرياضية قبل ديربي القناة    المشدد 15 سنة لصاحب مستودع لاتهامه بقتل شخص بسبب مشادة كلامية فى سوهاج    كيف يؤدي المريض الصلاة؟    منتخب اليد يتوجه إلى كرواتيا 4 يوليو استعدادا لأولمبياد باريس    خبير شئون دولية: فرنسا الابن البكر للكنيسة الكاثوليكية    مهرجان فرق الأقاليم المسرحية.. عرض «أحداث لا تمت للواقع بصلة» و«الحضيض» الليلة    «التمريض»: «محمود» تترأس اجتماع لجنة التدريب بالبورد العربي (تفاصيل)    الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي: صرف معاشات شهر يوليو اعتبارا من الخميس المقبل    نجم ميلان الإيطالي يرفض عرض الهلال السعودي ويتمسك بالبقاء في أوروبا    وزيرة البيئة تتابع حادث شحوط مركب سفاري بمرسى علم    الصحة: استجابة 700 مدمن للعلاج باستخدام برنامج العلاج ببدائل الأفيونات    الإعدام لثلاثة متهمين بقتل شخص لسرقته بالإكراه في سوهاج    شديد الحرارة رطب نهارًا.. الأرصاد تكشف عن حالة الطقس غدا الخميس    لجنة القيد بالبورصة توافق على الشطب الإجبارى لشركة جينيال تورز    مختار مختار: عدم إقامة مباراة القمة خسارة كبيرة للكرة المصرية    ختام دورة "فلتتأصل فينا" للآباء الكهنة بمعهد الرعاية    تعيين 4 أعضاء جدد في غرفة السلع والعاديات السياحية    المنظمات الأهلية الفلسطينية: الاحتلال يمارس جرائم حرب ضد الإنسانية في قطاع غزة    فحص 764 مواطنا فى قافلة طبية مجانية بقرى بنجر السكر غرب الإسكندرية    هل يجوز الرجوع بعد الطلاق الثالث دون محلل؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    الأكاديمية الطبية تفتح باب التسجيل في برامج الماجستير والدكتوراة بالمعاهد العسكرية    أحمد فتحي: انسحاب الزمالك أمام الأهلي لا يحقق العدالة لبيراميدز    «حلو بس فيه تريكات».. ردود فعل طلاب الثانوية الأزهرية بقنا عقب امتحان النحو    الجريدة الكويتية: هجمات من شتى الاتجاهات على إسرائيل إذا شنت حربا شاملة على حزب الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تشكّلات الموت في الرواية
نشر في صوت البلد يوم 10 - 12 - 2016

الرواية إعادة تشكيل للعالم باللغة، أي أن الكاتب يسعى من خلال هذا العمل الأدبي والفني إلى خلق عالم خاص به بواسطة التراكيب والجمل والكلمات، يسمى عالم الرواية أو العالم الروائي، فهو عالم تختلف قدرات الكتاب في تشكيله وهندسة تمظهره. وقد تطور الأدب باختلاف نظرياته ابتداءً من إفلاطون الذي يرى أن الأدب محاكاة للواقع المحسوس، مرورا بالرمزية والتجريدية والواقعية وحتى النظريات الحداثية ومابعدها وبعد مابعدها. بيد أن الثابت في هذه النظريات كلِّها أنها جزء أساسي من حركة الحياة التي يعيشها الإنسان‘ تمتح منها أدواتها وتبني أشكالها من موادها الأولية. ولعلَّ الموت جزء أساسي من الحياة، وإن بدا في هذه الصورة المباشرة نقيضا لها. الموت هو الوجه الآخر للحياة، ذلك حين نسلِّم أمرنا إلى فكرة الثنائيات المتقابلة التي تمنحنا قيمة الأشياء، فقيمة الحياة هي أنها ضد الموت. فالراوية إذا هي تشكيل للحياة أو جزء منها، على أن الموت حاضر في هذا التشكيل، ويختلف في تمظهره من نص روائي إلى آخر.
كيف يصنع الكاتب هذه الحياة الموازية في الرواية؟
إن براعة الكاتب تكمن في قدرته على تشكيل هذه الحياة، من حيث المكان والزمان، واستكشاف الأحداث، وتركيب الشخصيات وحركاتها، وبث الحياة في تفاصيلها، وتركيب المنظور الذي يتخللها ويهندس مشاهدها. يصنع الكاتب كل ذلك ثم يضع لها حياتها وموتها، بيد أن القارئ يكون مشدودا في كل التفاصيل بعرى الحياة، ويكون الموت استثناء من ذلك. ولكن يمكن للقارئ المتأني أن يجد أن الموت قد يحضر هو الآخر عنصرا بارزا في تشكيل الحياة، بل قد يكون شخصية من شخصيات هذا العالم الروائي أو حاملا مركزيا لعدد من الدوال التي تستكمل فيها صورة الحياة ومن منظورات مختلفة.
هل يشكل الكاتب الموت بوعي داخل الرواية أم أنه حاضر بفعل الحياة ذاتها؟ الحقيقة أن قارئ الرواية يجد أن هناك الكثير من الكتابات الروائية تستحضر الموت بوصفه هنا جزءا فاعلا في العالم الروائي، فيغدو في كثير من الأحيان الثيمة الرئيسة والمسيطرة كما هو مثلا في رواية نزلاء العتم لزياد محافظة، التي خصصت لها قراءة سابقة، وجدت في الختام أن ثيمة الموت تصل بها إلى فضاء الحياة ذاتها. وكذلك رواية مياه متصحرة للروائي العراقي حازم كمال الدين، التي يؤسطر فيها الواقع بأدوات الموات. ومن هنا فإن الكثير من الروايات تستدعي الموت وبتشكلات مختلفة، إما بامتداده في مختلف أجزاء المتن، أو بتشكله بصورة مباشرة شخصية وزمانا ومكانا وأحداثا ورترميزا.
لقد قرأت روايتي الصورة الثالثة للروائي العراقي علي لفتة سعيد، والقمحية للروائية الأردنية: نوال القصار، ومنذ المفتتح وما قبله يلمح ثيمة الموت، لنجدها تتشعب على أكثر من اتجاه في بواطن النص حضورا مباشرا، وغير مباشر، فهو يحرك الأحداث حينا، ويسكتها حينا، ويحول أحداثا أخرى، ويخرج شخصيات ويدخل أخرى، وهو ماحرك سؤالا مركزيا عن الموت وتشكلاته، ووظائفه داخل النص الروائي.الموت داخل الرواية هل هو ضرورة روائية؟ أم هو امتداد للحياة الروائية التي يصنعها الكاتب؟ وهل يكون المكون شخصية ضمن الشخصيات الفاعلة في النص؟ وهل هو فاعل أم وظيفة؟ كل هذه التساؤلات ستحاول المقالة الموجزة أن تجد لها إجابات من خلال تحليل الروايتن المذكورتين، التي ربما تستطيع أن تقدم إجابات شافية لهذا المكون الروائي، واستكشاف الأهمية الفنية التي يمثلها داخل النص.
لأغراض منهجية يمكن تقسيم المقال إلى جزئين رئيسين يبحث الأول في وظائف الموت الفنية داخل الرواية، ويبحث القسم الثاني في تشكلاته، على أنه خلال القسيمن ستعمد المقالة إلى الوصول إلى إجابات تبحث في التساؤلات السابقة.
وظائف الموت
للموت أكثر من وظيفة داخل الرواية بيد إنا هنا سنركز على أهم الوظائف التي تم ملاحظتها داخل الروايتين قيد القراءة، وهي ثلاث وظائف مركزية: وظيفة الاستهلال، ووظيفة التحويل، والوظيفة الرمزية.
وظيفة الاستهلال الروائي: وضع فيلاديمير بروب وظيفة الاستهلال واحدة من وظائف القصة، بيد أنه في هذه الجزئية نجد الموت بوصفه فاعلا يقوم بوظيفة الاستهلال القصصي أو بالأصح الاستهلال الروائي. وهو قلب فكري يحدث صدمة لدى الملتلقي يدعوه للبحث عن الحياة. فإذا بدأنا برواية الصورة الثالثة نجد أن الموت يتشكل في الاستهلال عبر ثلاث نقاط مركزية، الأولى في الإهداء والثانية في التصدير والثالثة في الموقف البدئي للنص. فقد قال في الإهداء: ” إلى والدي الذي علمني أن الوطن أن تعيش ثم مات” ص: 5. وتبعه في الصفحة التالية بالتصدير الذي عنونه ب: كلمات أولى: بمقطوعة من ملحمة كلكامش : ” عندما كوَّن الآلهة البشر خصُّوا البشرية بالموت وحفظوا الحياة بين أيديهم” ص: 7 ثم تبعها في وصف الموقف البدئي الذي افتتحه بمشهد تساقط الوقت من الساعة بما يجسد حالة من تساقط الزمن باتجاه الموت. ثلاثة مواطن مركزية تجسد الموت وتجعل القارئ متجها بحاسة القراءة باتجاهه، جعلت قارئ الصورة الثالثة في هذه العتبات والمداخل الثلاث المتوالية مشدودا ليدخل لأحداث حياة الرواية من بوابة الموت. أما في رواية القمحية فلم تتضمن إهداءً ولا تصديرا، وكان الاستهلال الروائي عبر الموقف البدئي للرواية بالوصف المباشر للموت: ” كان صوت النحيب هزيلا رغم هول الحدث. وفي بلدة القمحية هذه يعتبر الموت فاجعة في حاراتها المتجاورة الممتدة بغض النظر عن سن المتوفي.” ص:5. هكذا تدخل الكاتبة الأحداث من هذا المشهد المليء بصوت النحيب، تاركة القارئ متسائلا عن هذه الحياة الروائية التي تتفتح بالموت. لعل في الأمر ما يشبه الاستباق في سياق المفارقات الزمنية في البناء الروائي، بيد أن الاستباق هنا جاء من نقطة الموت تحديدا حيث إن الأمر مختص باختيار نقطة الموت لتكون استهلالا جيدا يراى الكاتب أنه الأنسب لجذب القارئ إلى حياة الرواية.
وظيفة التحويل للأحداث: بمعنى أن الموت يحضر هنا بوصفه حيلة فنية يستعملها الكاتب ليساعده على إحداث تحولات في سير أحداث الرواية أو في حصول أحداث عميقة في الذات أو في الشخصيات. تغيرات داخلية قد تنعكس بعد ذلك على مستوى السلوك. في رواية القمحية وبعد المشهد الافتتاحي مباشرة تقول: “نظرت عليا إلى جسده المسجى أمامها وتنفست الصعداء، “أخيرا” همست لنفسها “ظننت أنه لن يموت أبدا” ص:5 في الحقيقة لقد مثل هذا الموت – بالنسبة للزوجة- تحولا كبير في حياتها وفي حياة الشخصيات كلها، فموت الزوج هو الحدث المركزي الذي انبنت عليه تحولات الرواية كلها وتعقيداتها وأفكارها، فلو لم يكن هذا الموت لكانت الرواية بكلها في حكم المعدومة، إذ نرى أن الرواية تتصاعد على جانبين الجانب الأول ما قبل موت سلمان، والآخر ما بعده، ولكل وجه صورته المغايرة تماما، ولكل وجه تجلياته المختلفة. في رواية الصورة الثالثة يسأل البطل: “متى ستكتب روايتك؟” فيجيب: “عندما يموت أبطال روايتي، فأنا أراقب الطريقة التي تنتهي بها الحياة” ص: 25. فالموت هنا فنيا هو الفاصل لتحويل الموت إلى حياة، حين يأتي الموت سيكون بداية لحياة أخرى هي الحياة الروائية، على أن الروية في كل مفاصلها لا تخلو من هذا التجسيد لوظيفة التحويل، فقد يكون تحويلا إيجابيا وقد يكون سلبيا، على مستوى الشخصيات أيضا. فالحرب مثلا وهي التي تمثل الموت على امتداد الرواية؛ كانت السبب الرئيس في الكثير من التحولات السلبية التي مست حياة الشخصيات الروائية لا سيما سلوى بطلة الرواية وزوجها والبطل الراوي أيضا.
الوظيفة الرمزية: لا يمكن لقارئ الرواية أن يرى الموت دون أن يحمله مسؤولية رمزية لا سيما حين يكون الموت ثيمة مركزية وحين يكون مسيطرا على أجزاء الرواية ومتحكما في مفاصلها، فرواية الصورة الثالثة على سبيل المثال لا يمكن أن نزيح الحرب عن فكرة الموت، فالحرب تجسديا للموت والموت معادلا موضوعيا للحرب، أما في رواية القمحية فالموت هو المعادل الموضوعي لانحراف التقاليد الاجتماعية البالية التي تؤدي إلى الظلم والاضطهاد ومن ثم إلى الموت، فالموت في هذه الحالة يشير صراحة إلى موت الضمير والقيم الجميلة والحرية والعدالة والمساواة وغيرها. وقد تحضر مثلا أن ترتبط فكرة الموت بأقدس الكلمات اللاجتماعية الشرف على سبيل المثال الذي سيطر على حيز كبير داخل الرواية تقول في أحدى مقاطعها: “عادت فكرة الشرف تؤرق مضجعها وهي تتذكر سمية التي تزوجت حبيبها رغما عن كل الظروف، وأكملت تعليمها الجامعي ودخلت سوق العمل، وهي زوجة وربة بيت وأم ونجحت وحققت ذاتها، غير أن فكرة الشرف السائدة في مجتمعها ومحيط أسرتها حرمت أولادها من أمهم” ص: 71 لقد تم الربط رمزيا هنا بين الشرف وبين الموت، فالموت هو المعادل الموضوعي لفكرة الشرف، بالمفهوم الذي يحرم الأطفال من أمهم، ومن ثم أن استمرار فكرة الشرف بهذا المعنى يعادل الموت والانعدام والاندثار لكل ماحولها من القيم التي رصدها، الاستقلال العمل الحرية الطموح وغيرها. أما رواية الصورة الثالثة فقد كثفت أحيانا، ووسعت أحيانا أخرى من مشاهد الموت، وهي في إطار تصوير الحرب، ليس بوصف الموت رمزا للحرب بل بوصفه امتدادا له، فالموت هو نتيجة حتمية لهذه الحرب. ففي مشهد يجمع الكاتب نتيجة الحرب وهو عائد من المعركة، ومشهد أقدامه المتقرحة، بعد وصف طويل لماحدث من أهوال؛ يصل ليجمع كل ذلك مع موت أمه وموت أبيه في موضع واحد: “تحولت الأشياء إلى صمغ أيبوكسي، وحين لامس هواء نبضات القروح، سقطت متأوها وعينا أبي الحمراوين تزيداني صبرا،كان فرحا أشبعني قبلات تعادل كل سنوات عمري.أتذكر أن قبلاته تشبه يوم كنت صغيرا. ووحيده ، مثلما هو وحيدي.. تركتني أمي وذهبت إلى ربها راضية بعذاب مرضها قبل ثلاثين عاما.. لم أكن أنتبه إلى أبي لم أنتبه إلى الوجود ، كان انتباهي مشدودا إلى حبل الوجع. لكنه كان يكابد ألما في معدته وأسفل بطنه، بدأ لتوه، عرفنا فيما بعد أسبابه التي أدت به إلى الموت” ص: 51 فأي رمزية لهذا الربط بين الحرب وهذا الفقد للأم والأب في مشهد واحد؟ لقد استعرض الكاتب مآسي الحرب تباعا ثم كان له أن يختمه بهذا المشهد القريب إلى حالة الفراغ الكامل، فيرتبط للقارئ هذه المشاهد المأساوية مع مشاهد الحرب، ليكون الحرب والموت شيء واحد.
تشكيل الموت
هل يكون الموت ذلك المتمثل بانتهاء الحياة فحسب، أم أن للموت تشكلات أخرى؟ في هذه الجزئية نجد أن النصين يجسدان الموت في تشكلات مختلفة. فمثلا في رواية الصورة الثالثة كثيرا ما أشارت الرواية إلى فعل القراءة بوصفها مواجهة للموت، بمعنى أن الجهل وما ينسحب على عدم القراءة هو الموت، الكتابة أيضا بوصفها مواجهة للموت، إن الاستسلام للصمت أو للجهل هو استسلام للموت، فهكذا يتشكل الموت في صور أخرى منها الصمت ومنها الخضوع ومنها الجهل وغيره. يقول في الرواية: “نقرأ كتابا أو نراجع أوراقنا، فهذه الذكرى موجعة. أبي الذي أعشقه حد الموت، مات…” ص: 66. ونجده في مواطن أخرى يحرض على القراءة لمواجهة الموت. ليتبين أن الموت له أوجه أخرى داخل الرواية وتشكلات مختلفة غير وجهه المتمثل في استلاب الحياة، فقد يكون استسلاب العلم واستلاب الذكرى واستلاب الحرية أيضا. وفي رواية القمحية ما يجسد هذا التشكيل للقراءة بوصفها مقاومة للموت في هذا التشكل الجديد: “أصبحت الكتب أكثر وفرة، وأعتقدت أن بإمكانها أن تصل بهذه القراءات إلى منفذ يناسبها. كانت تريد أن تصل إلى منفذ يناسب حياتها ليس أكثر وربما أن موت سلمان الآن سيشكل لها طريقا للخروج من محنتها هذه” ص: 18 إنها بهذه القراءة تقاوم فعل التجهيل الذي كانت تعيشه مرافقا لفعل استلاب الإرادة الذي كان مفروض عليها من قبل.كما أن الشكل الآخر هو الموت بوصفه فكرة وجودية غامضة تمنح بهذا الغموض القدرة على صنع تخيلات حكائية لا تنبش في حياة ما بعد الموت فحسب، بل يكون لها القدرة على الانعكاس في الحياة الروائية ذاتها، فالموت فكرة وجودية تكون في الأساس مفتاحا لحياة أخرى أبدية. في رواية الصورة الأولى يأتي موت البطلة بصورة غير مباشرة أو غير واضحة حيث يخاطب البطلة: “سلوى أرجوك افتحي عينيك لتكملي الحكاية، كل شيء معلق لا أريد للمعاني أن تندس بين الأقدام، وتنسل إلى الشوارع” ص: 202. فتشكل الموت هنا نهاية للمعاني أو شتاتا لها غير أن الحكي يستمر، وإنما يشير بذلك إلى هذا الموت الخاص بسلوى، أما ما عداه من الموت المنتشر في جوانب النص فإنه يخلق الحكي وتستمر الحياة الروائية. وفي رواية القمحية التي انحصرت فيها البطلة بين موتين، موت الزوج الذي حول طاقتها باتجاه الفعل الإيجابي المواجه لكل ماهو سلبي في المجتمع، وبين موت ولدها عادل الذي جعلها تقف عن كل أحلامها في المواجهة للحظات بيد أنها ما تنتبه إلى فكرة الموت وتقاومها، حيث تقول في النص إنها لاتعلم سبب هذه المقاومة هل هي “إرادتها للحياة، من أجل ولدها فاروق، أم هي النزعة الإنسانية إلى العيش ورفض الموت وفكرته برمتها هي التي أعادتها إلى وعيها فاستجمعت مالديها من قوى ونهضت..” ص: 162. إن فكرة الموت هنا بقدر ما جعلتها تنصدم وتحولها للحظات باتجاه الفعل السلبي الانهزامي، فإنها قد تغذي رغبتها باتجاه الحياة ومواصلة حلمها الذي صادره الموت المتمثل في سطورة العاداة والتقاليد البالية التي صادرت منها أسس الحياة فكانت هي الموت الحقيقي والفعلي.وهكذا تبين في هذه القراءة المركزة كيف يتشكل الموت رمزيا ووظيفيا، من خلال أدوات الفن داخل الرواية، فكما يكون للحياة أدواتها يكون للموت أدواته الفاعلة التي لايمكن اكتمال العمل الأدبي بغيره.
الرواية إعادة تشكيل للعالم باللغة، أي أن الكاتب يسعى من خلال هذا العمل الأدبي والفني إلى خلق عالم خاص به بواسطة التراكيب والجمل والكلمات، يسمى عالم الرواية أو العالم الروائي، فهو عالم تختلف قدرات الكتاب في تشكيله وهندسة تمظهره. وقد تطور الأدب باختلاف نظرياته ابتداءً من إفلاطون الذي يرى أن الأدب محاكاة للواقع المحسوس، مرورا بالرمزية والتجريدية والواقعية وحتى النظريات الحداثية ومابعدها وبعد مابعدها. بيد أن الثابت في هذه النظريات كلِّها أنها جزء أساسي من حركة الحياة التي يعيشها الإنسان‘ تمتح منها أدواتها وتبني أشكالها من موادها الأولية. ولعلَّ الموت جزء أساسي من الحياة، وإن بدا في هذه الصورة المباشرة نقيضا لها. الموت هو الوجه الآخر للحياة، ذلك حين نسلِّم أمرنا إلى فكرة الثنائيات المتقابلة التي تمنحنا قيمة الأشياء، فقيمة الحياة هي أنها ضد الموت. فالراوية إذا هي تشكيل للحياة أو جزء منها، على أن الموت حاضر في هذا التشكيل، ويختلف في تمظهره من نص روائي إلى آخر.
كيف يصنع الكاتب هذه الحياة الموازية في الرواية؟
إن براعة الكاتب تكمن في قدرته على تشكيل هذه الحياة، من حيث المكان والزمان، واستكشاف الأحداث، وتركيب الشخصيات وحركاتها، وبث الحياة في تفاصيلها، وتركيب المنظور الذي يتخللها ويهندس مشاهدها. يصنع الكاتب كل ذلك ثم يضع لها حياتها وموتها، بيد أن القارئ يكون مشدودا في كل التفاصيل بعرى الحياة، ويكون الموت استثناء من ذلك. ولكن يمكن للقارئ المتأني أن يجد أن الموت قد يحضر هو الآخر عنصرا بارزا في تشكيل الحياة، بل قد يكون شخصية من شخصيات هذا العالم الروائي أو حاملا مركزيا لعدد من الدوال التي تستكمل فيها صورة الحياة ومن منظورات مختلفة.
هل يشكل الكاتب الموت بوعي داخل الرواية أم أنه حاضر بفعل الحياة ذاتها؟ الحقيقة أن قارئ الرواية يجد أن هناك الكثير من الكتابات الروائية تستحضر الموت بوصفه هنا جزءا فاعلا في العالم الروائي، فيغدو في كثير من الأحيان الثيمة الرئيسة والمسيطرة كما هو مثلا في رواية نزلاء العتم لزياد محافظة، التي خصصت لها قراءة سابقة، وجدت في الختام أن ثيمة الموت تصل بها إلى فضاء الحياة ذاتها. وكذلك رواية مياه متصحرة للروائي العراقي حازم كمال الدين، التي يؤسطر فيها الواقع بأدوات الموات. ومن هنا فإن الكثير من الروايات تستدعي الموت وبتشكلات مختلفة، إما بامتداده في مختلف أجزاء المتن، أو بتشكله بصورة مباشرة شخصية وزمانا ومكانا وأحداثا ورترميزا.
لقد قرأت روايتي الصورة الثالثة للروائي العراقي علي لفتة سعيد، والقمحية للروائية الأردنية: نوال القصار، ومنذ المفتتح وما قبله يلمح ثيمة الموت، لنجدها تتشعب على أكثر من اتجاه في بواطن النص حضورا مباشرا، وغير مباشر، فهو يحرك الأحداث حينا، ويسكتها حينا، ويحول أحداثا أخرى، ويخرج شخصيات ويدخل أخرى، وهو ماحرك سؤالا مركزيا عن الموت وتشكلاته، ووظائفه داخل النص الروائي.الموت داخل الرواية هل هو ضرورة روائية؟ أم هو امتداد للحياة الروائية التي يصنعها الكاتب؟ وهل يكون المكون شخصية ضمن الشخصيات الفاعلة في النص؟ وهل هو فاعل أم وظيفة؟ كل هذه التساؤلات ستحاول المقالة الموجزة أن تجد لها إجابات من خلال تحليل الروايتن المذكورتين، التي ربما تستطيع أن تقدم إجابات شافية لهذا المكون الروائي، واستكشاف الأهمية الفنية التي يمثلها داخل النص.
لأغراض منهجية يمكن تقسيم المقال إلى جزئين رئيسين يبحث الأول في وظائف الموت الفنية داخل الرواية، ويبحث القسم الثاني في تشكلاته، على أنه خلال القسيمن ستعمد المقالة إلى الوصول إلى إجابات تبحث في التساؤلات السابقة.
وظائف الموت
للموت أكثر من وظيفة داخل الرواية بيد إنا هنا سنركز على أهم الوظائف التي تم ملاحظتها داخل الروايتين قيد القراءة، وهي ثلاث وظائف مركزية: وظيفة الاستهلال، ووظيفة التحويل، والوظيفة الرمزية.
وظيفة الاستهلال الروائي: وضع فيلاديمير بروب وظيفة الاستهلال واحدة من وظائف القصة، بيد أنه في هذه الجزئية نجد الموت بوصفه فاعلا يقوم بوظيفة الاستهلال القصصي أو بالأصح الاستهلال الروائي. وهو قلب فكري يحدث صدمة لدى الملتلقي يدعوه للبحث عن الحياة. فإذا بدأنا برواية الصورة الثالثة نجد أن الموت يتشكل في الاستهلال عبر ثلاث نقاط مركزية، الأولى في الإهداء والثانية في التصدير والثالثة في الموقف البدئي للنص. فقد قال في الإهداء: ” إلى والدي الذي علمني أن الوطن أن تعيش ثم مات” ص: 5. وتبعه في الصفحة التالية بالتصدير الذي عنونه ب: كلمات أولى: بمقطوعة من ملحمة كلكامش : ” عندما كوَّن الآلهة البشر خصُّوا البشرية بالموت وحفظوا الحياة بين أيديهم” ص: 7 ثم تبعها في وصف الموقف البدئي الذي افتتحه بمشهد تساقط الوقت من الساعة بما يجسد حالة من تساقط الزمن باتجاه الموت. ثلاثة مواطن مركزية تجسد الموت وتجعل القارئ متجها بحاسة القراءة باتجاهه، جعلت قارئ الصورة الثالثة في هذه العتبات والمداخل الثلاث المتوالية مشدودا ليدخل لأحداث حياة الرواية من بوابة الموت. أما في رواية القمحية فلم تتضمن إهداءً ولا تصديرا، وكان الاستهلال الروائي عبر الموقف البدئي للرواية بالوصف المباشر للموت: ” كان صوت النحيب هزيلا رغم هول الحدث. وفي بلدة القمحية هذه يعتبر الموت فاجعة في حاراتها المتجاورة الممتدة بغض النظر عن سن المتوفي.” ص:5. هكذا تدخل الكاتبة الأحداث من هذا المشهد المليء بصوت النحيب، تاركة القارئ متسائلا عن هذه الحياة الروائية التي تتفتح بالموت. لعل في الأمر ما يشبه الاستباق في سياق المفارقات الزمنية في البناء الروائي، بيد أن الاستباق هنا جاء من نقطة الموت تحديدا حيث إن الأمر مختص باختيار نقطة الموت لتكون استهلالا جيدا يراى الكاتب أنه الأنسب لجذب القارئ إلى حياة الرواية.
وظيفة التحويل للأحداث: بمعنى أن الموت يحضر هنا بوصفه حيلة فنية يستعملها الكاتب ليساعده على إحداث تحولات في سير أحداث الرواية أو في حصول أحداث عميقة في الذات أو في الشخصيات. تغيرات داخلية قد تنعكس بعد ذلك على مستوى السلوك. في رواية القمحية وبعد المشهد الافتتاحي مباشرة تقول: “نظرت عليا إلى جسده المسجى أمامها وتنفست الصعداء، “أخيرا” همست لنفسها “ظننت أنه لن يموت أبدا” ص:5 في الحقيقة لقد مثل هذا الموت – بالنسبة للزوجة- تحولا كبير في حياتها وفي حياة الشخصيات كلها، فموت الزوج هو الحدث المركزي الذي انبنت عليه تحولات الرواية كلها وتعقيداتها وأفكارها، فلو لم يكن هذا الموت لكانت الرواية بكلها في حكم المعدومة، إذ نرى أن الرواية تتصاعد على جانبين الجانب الأول ما قبل موت سلمان، والآخر ما بعده، ولكل وجه صورته المغايرة تماما، ولكل وجه تجلياته المختلفة. في رواية الصورة الثالثة يسأل البطل: “متى ستكتب روايتك؟” فيجيب: “عندما يموت أبطال روايتي، فأنا أراقب الطريقة التي تنتهي بها الحياة” ص: 25. فالموت هنا فنيا هو الفاصل لتحويل الموت إلى حياة، حين يأتي الموت سيكون بداية لحياة أخرى هي الحياة الروائية، على أن الروية في كل مفاصلها لا تخلو من هذا التجسيد لوظيفة التحويل، فقد يكون تحويلا إيجابيا وقد يكون سلبيا، على مستوى الشخصيات أيضا. فالحرب مثلا وهي التي تمثل الموت على امتداد الرواية؛ كانت السبب الرئيس في الكثير من التحولات السلبية التي مست حياة الشخصيات الروائية لا سيما سلوى بطلة الرواية وزوجها والبطل الراوي أيضا.
الوظيفة الرمزية: لا يمكن لقارئ الرواية أن يرى الموت دون أن يحمله مسؤولية رمزية لا سيما حين يكون الموت ثيمة مركزية وحين يكون مسيطرا على أجزاء الرواية ومتحكما في مفاصلها، فرواية الصورة الثالثة على سبيل المثال لا يمكن أن نزيح الحرب عن فكرة الموت، فالحرب تجسديا للموت والموت معادلا موضوعيا للحرب، أما في رواية القمحية فالموت هو المعادل الموضوعي لانحراف التقاليد الاجتماعية البالية التي تؤدي إلى الظلم والاضطهاد ومن ثم إلى الموت، فالموت في هذه الحالة يشير صراحة إلى موت الضمير والقيم الجميلة والحرية والعدالة والمساواة وغيرها. وقد تحضر مثلا أن ترتبط فكرة الموت بأقدس الكلمات اللاجتماعية الشرف على سبيل المثال الذي سيطر على حيز كبير داخل الرواية تقول في أحدى مقاطعها: “عادت فكرة الشرف تؤرق مضجعها وهي تتذكر سمية التي تزوجت حبيبها رغما عن كل الظروف، وأكملت تعليمها الجامعي ودخلت سوق العمل، وهي زوجة وربة بيت وأم ونجحت وحققت ذاتها، غير أن فكرة الشرف السائدة في مجتمعها ومحيط أسرتها حرمت أولادها من أمهم” ص: 71 لقد تم الربط رمزيا هنا بين الشرف وبين الموت، فالموت هو المعادل الموضوعي لفكرة الشرف، بالمفهوم الذي يحرم الأطفال من أمهم، ومن ثم أن استمرار فكرة الشرف بهذا المعنى يعادل الموت والانعدام والاندثار لكل ماحولها من القيم التي رصدها، الاستقلال العمل الحرية الطموح وغيرها. أما رواية الصورة الثالثة فقد كثفت أحيانا، ووسعت أحيانا أخرى من مشاهد الموت، وهي في إطار تصوير الحرب، ليس بوصف الموت رمزا للحرب بل بوصفه امتدادا له، فالموت هو نتيجة حتمية لهذه الحرب. ففي مشهد يجمع الكاتب نتيجة الحرب وهو عائد من المعركة، ومشهد أقدامه المتقرحة، بعد وصف طويل لماحدث من أهوال؛ يصل ليجمع كل ذلك مع موت أمه وموت أبيه في موضع واحد: “تحولت الأشياء إلى صمغ أيبوكسي، وحين لامس هواء نبضات القروح، سقطت متأوها وعينا أبي الحمراوين تزيداني صبرا،كان فرحا أشبعني قبلات تعادل كل سنوات عمري.أتذكر أن قبلاته تشبه يوم كنت صغيرا. ووحيده ، مثلما هو وحيدي.. تركتني أمي وذهبت إلى ربها راضية بعذاب مرضها قبل ثلاثين عاما.. لم أكن أنتبه إلى أبي لم أنتبه إلى الوجود ، كان انتباهي مشدودا إلى حبل الوجع. لكنه كان يكابد ألما في معدته وأسفل بطنه، بدأ لتوه، عرفنا فيما بعد أسبابه التي أدت به إلى الموت” ص: 51 فأي رمزية لهذا الربط بين الحرب وهذا الفقد للأم والأب في مشهد واحد؟ لقد استعرض الكاتب مآسي الحرب تباعا ثم كان له أن يختمه بهذا المشهد القريب إلى حالة الفراغ الكامل، فيرتبط للقارئ هذه المشاهد المأساوية مع مشاهد الحرب، ليكون الحرب والموت شيء واحد.
تشكيل الموت
هل يكون الموت ذلك المتمثل بانتهاء الحياة فحسب، أم أن للموت تشكلات أخرى؟ في هذه الجزئية نجد أن النصين يجسدان الموت في تشكلات مختلفة. فمثلا في رواية الصورة الثالثة كثيرا ما أشارت الرواية إلى فعل القراءة بوصفها مواجهة للموت، بمعنى أن الجهل وما ينسحب على عدم القراءة هو الموت، الكتابة أيضا بوصفها مواجهة للموت، إن الاستسلام للصمت أو للجهل هو استسلام للموت، فهكذا يتشكل الموت في صور أخرى منها الصمت ومنها الخضوع ومنها الجهل وغيره. يقول في الرواية: “نقرأ كتابا أو نراجع أوراقنا، فهذه الذكرى موجعة. أبي الذي أعشقه حد الموت، مات…” ص: 66. ونجده في مواطن أخرى يحرض على القراءة لمواجهة الموت. ليتبين أن الموت له أوجه أخرى داخل الرواية وتشكلات مختلفة غير وجهه المتمثل في استلاب الحياة، فقد يكون استسلاب العلم واستلاب الذكرى واستلاب الحرية أيضا. وفي رواية القمحية ما يجسد هذا التشكيل للقراءة بوصفها مقاومة للموت في هذا التشكل الجديد: “أصبحت الكتب أكثر وفرة، وأعتقدت أن بإمكانها أن تصل بهذه القراءات إلى منفذ يناسبها. كانت تريد أن تصل إلى منفذ يناسب حياتها ليس أكثر وربما أن موت سلمان الآن سيشكل لها طريقا للخروج من محنتها هذه” ص: 18 إنها بهذه القراءة تقاوم فعل التجهيل الذي كانت تعيشه مرافقا لفعل استلاب الإرادة الذي كان مفروض عليها من قبل.كما أن الشكل الآخر هو الموت بوصفه فكرة وجودية غامضة تمنح بهذا الغموض القدرة على صنع تخيلات حكائية لا تنبش في حياة ما بعد الموت فحسب، بل يكون لها القدرة على الانعكاس في الحياة الروائية ذاتها، فالموت فكرة وجودية تكون في الأساس مفتاحا لحياة أخرى أبدية. في رواية الصورة الأولى يأتي موت البطلة بصورة غير مباشرة أو غير واضحة حيث يخاطب البطلة: “سلوى أرجوك افتحي عينيك لتكملي الحكاية، كل شيء معلق لا أريد للمعاني أن تندس بين الأقدام، وتنسل إلى الشوارع” ص: 202. فتشكل الموت هنا نهاية للمعاني أو شتاتا لها غير أن الحكي يستمر، وإنما يشير بذلك إلى هذا الموت الخاص بسلوى، أما ما عداه من الموت المنتشر في جوانب النص فإنه يخلق الحكي وتستمر الحياة الروائية. وفي رواية القمحية التي انحصرت فيها البطلة بين موتين، موت الزوج الذي حول طاقتها باتجاه الفعل الإيجابي المواجه لكل ماهو سلبي في المجتمع، وبين موت ولدها عادل الذي جعلها تقف عن كل أحلامها في المواجهة للحظات بيد أنها ما تنتبه إلى فكرة الموت وتقاومها، حيث تقول في النص إنها لاتعلم سبب هذه المقاومة هل هي “إرادتها للحياة، من أجل ولدها فاروق، أم هي النزعة الإنسانية إلى العيش ورفض الموت وفكرته برمتها هي التي أعادتها إلى وعيها فاستجمعت مالديها من قوى ونهضت..” ص: 162. إن فكرة الموت هنا بقدر ما جعلتها تنصدم وتحولها للحظات باتجاه الفعل السلبي الانهزامي، فإنها قد تغذي رغبتها باتجاه الحياة ومواصلة حلمها الذي صادره الموت المتمثل في سطورة العاداة والتقاليد البالية التي صادرت منها أسس الحياة فكانت هي الموت الحقيقي والفعلي.وهكذا تبين في هذه القراءة المركزة كيف يتشكل الموت رمزيا ووظيفيا، من خلال أدوات الفن داخل الرواية، فكما يكون للحياة أدواتها يكون للموت أدواته الفاعلة التي لايمكن اكتمال العمل الأدبي بغيره.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.