وقفت زينب تنظر إلى جسدها في مرآة الحمام. المرآة الطويلة والعريضة، عكست صورتها فبدت أكبر حجماً. في المرآة يبدو وجهها شاحباً جداً، ليس هناك حضور لأي لون سوى لون عينيها الأسود، وسط مساحة وجهها الصغير والحنطي. هناك هدوء في ملامحها، هدوء تراه مزعجاً، كما لو أنه الصمت التام. في مرآة الحمام نظرت إلى جسدها العاري والنحيف، صدرها البارز لا ينسجم مع ملامحها الغلامية. كان شعرها الكثيف والمتدرج قد طال حتى غطى نصف ظهرها في وحشية لامبالية. أحست برغبة كبيرة في قصه، ليصير قصيراً جداً، هي تربطه دائماً إلى الخلف تحت حجابها الأبيض، وقلما تركته منساباً. شعرها هو الشيء الوحيد فيها الذي يحظى بثناء أمها لغزارته ونعومة ملمسه. وسط هذا الشعر الأسود كان هناك شعرات بيضاء متوارية، لا يعرف بوجودها إلا صاحبتها. بسهولة، بدأت زينب قص خصلات شعرها، حتى تجمعت قرب الحوض كومة من الشعر الأسود المقصوص من جذوره. قصت شعرها إلى الحد الذي لم يعد من الممكن الإمساك به، لم تكن تقص خصلاته وفق خطة معينة، بل بشكل عشوائي أخرق. رأسها صار خفيفاً جداً، وحين وقفت تغتسل تحت رشاش الماء أحست أن رغوة الشامبو تخترق جلدة رأسها، ودت لو أن بإمكانها نزع جلدة رأسها ورؤية ما يقبع تحتها. كانت زينب دائماً كلما رأت جمجمة،تتخيل أنها في وقت ما ستتشابه معها، وأن رأسها هذا سيكون عارياً من كل شيء، من الحجاب الأبيض الذي يغطي شعرها، ومن شعرها الذي تخفيه، ومن عينيها، ومن اللحم الذي يكسو وجهها ليكون وجهاً. لكن زينب كانت تتساءل عن مكان ذهاب أفكارها بعد سيلان اللزوجة وتخثر الدم الذي يختبئ داخل الجمجمة. تذكرت جارتهم خديجة التي أجرت عملية لنزع ورم في دماغها، وكيف كانت تحكي للجارات - كما لو أن هناك زجاجاً عازلاً يفصلها عن الحدث- مشبهة حجم الورم في رأسها بحبة الخوخ. صارت زينب تتذكر ورم رأس خديجة كلما شاهدت حبة خوخ، وربما منذ ذلك الحين امتنعت عن تناول الخوخ لأنها تخيلت أن كل خوخة ستتحول عصارتها إلى ورم صغير يتجمع في رأسها. الآن تخلصت من شعرها الأسود، ومن الشعيرات البيضاء التي توارت في وسط رأسها، الآن صارت متحررة من ثقل تحمله، لكنها أحست برغبة قوية في نزع الحجاب وارتداء قرط كبير دائري والسير في الشارع. ستؤرخ لهذه الحرب بقص شعرها الطويل، وبنزع حجابها الأبيض، وحين تعود للحي الذي تسكن به في "بير العبد" بعد انتهاء الحرب، لن يعرفها أحد من الجيران، وربما يقولون: "مسكينة.. شو عملت فيها الحرب!". ربما يحصل هذا، وربما لن ينتبه إليها أحد، وربما يتعاملون معها بتجاهل، ببرود كما ستفعل أمها حين ترى شعرها مقصوصاً، ستبدي دهشة للحظات قليلة، ثم تعود لطبيعتها، لكنها حتماً ستطرح عليها السؤال: "لِمَ قصصتِ شعركِ إن كنتِ تريدين نزع الحجاب؟". لكن زينب لن ترد عليها، بل ستحدق في عينيها مباشرة بلا خوف، لأنها تمتلك الآن رأساً جديداً ابتدعته الحرب. * * * استيقظت مارغريت من رقادها فزعة، كان الوقت قبل الفجر بقليل، نظرت إلى الغرفة من حولها، أحست أن الأصوات التي تسمعها غير بعيدة على الإطلاق، منذ عادت من المستشفى ليلة أمس، وهي تحس أن يان أندريا عبث بالبيت في غيابها، واستقبل أصدقاءه الذين ما زالوا يقيمون في إحدى الغرف، لكن الإنهاك الذي تحس به يجعلها عاجزة عن التحرك والتفتيش. كان يان يغفو على الكرسي الهزاز بجوار سريرها، نادت عليه مرتين أو أكثر، وحين اقترب منها ليعدل من جلستها في السرير كما أشارت له، سألته بوضوح عن الأشخاص الذين يقيمون معهم في البيت، من هم؟ ومن أين أتوا؟ ولماذا؟ وكيف يسمح لهم بالإقامة في بيتها خلال غيابها؟ أكد لها يان أن البيت خال إلا منهما، لكن مارغريت أصرت على المشي خارج السرير والنزول إلى الطابق السفلي، طلبت منه أن يفتح الأبواب كلها، كي ترى من في الداخل، كانت تسمع ضحكات وقهقهات لأشخاص يتسامرون، ويرقصون على صوت موسيقى صاخبة. لم تهدأ مارغريت، ولم تقتنع بذلك إلا عندما طاف معها يان في أرجاء البيت حجرة حجرة، حتى إنه اصطحبها إلى الحديقة ليفتشا معاً عن مصدر الصوت، كانت تشد على يده بقوة، كما لو أنها تريد إثبات كذبه وخيانته. في الصالون جلست مارغريت على الأريكة المشجرة، شاحبة، متعبة، أصابعها متيبسة وهي تود الكتابة، طلبت من يان أن يناولها ورقة وقلماً، خطت بعض السطور لكنها لم تَقْوَ طويلا على الجلوس، صداع يطحن رأسها، وداهمتها رغبة بقيء مفاجئ، أسندت يدها العجوز إلى المقعد وسارت بصعوبة نحو الحمام، فيما كان يان أندريا يجهز لها طعام الفطور. * * * يان.. صباح يوم جديد. إنها السادسة. أشباح المدينة ما زالوا تحت الركام. ألمحهم يتململون منذ الفجر، لكني لا أقوى على مساعدتهم. الحر قاتل. أفتح النافذة وأشتاق للبرد. البرد يدفعني إلى صدرك. أشتاقك كثيراً لكنك تمضي، تمضي بعيداً. صوت فيروز يعلو من جهاز راديو صغير، عبر إذاعة محلية: "أديش كان في ناس.. عالمفرق تنطر ناس.. وتشتي الدني... ويحملوا شمسية.. وأنا بأيام الصحو ما حدا نطرني".. انتظرتك، لكن خراب المدينة أفزعك. ، فلم تأت. يان.. هل جربت أن تترك بيتك فجأة بلا تخمين أنك لن تعود إليه مرة أخرى، ولن تجد أشياءك؟ لم يبق شئ من صور طفولتي، ولا صور إخوتي وأصدقائي حين كانوا صغاراً. لم تبق أية ورقة من رسائل الأحبة التي وصلتني أيام المراهقة، والتي كنت أخفيها في صندوق خشبي أحتفظ فيه بأشيائي القديمة. تكسرت زجاجات النبيذ الفارغة التي كانت ساندرا تنقش اسمي عليها في كل ذكرى ميلاد لي، كل أشيائي صارت تحت الركام. -------- فصل من رواية" أغنية لمارغريت"، ستصدر قريبا عن الدار العربية للعلوم - بيروت