قبل البدء: ليس على النقد أن يدعي إمكان اختلاس النظر التحليلي إلى النص الأدبي، دون أن يكون الوقوع في أسر الغواية أمراً وارداً. فالكتابة النقدية محكومةٌ بدورها هي الأخرى منذ لحظة التصفُّح الأوّلي بممارسة المتعة بكامل إرادة القارئ النّاقد، و موكولةٌ منذ استكشاف الجملة الافتتاحية إلى الانتشاء بمكامن الجدة و الاختراق. لكن لحظة الانبهار أو الاندهاش لا تمتلك باسم النقد الاكتفاءَ الذاتي الكفيل بإنتاج القراءة النقدية الرصينة. مرايا القراءة العاشقة: لاشك أن الشغف العميق الذي يواكب درب ارتياد القراءة يظل حافزَ كل قارئ في حرصه الكبير على مصاحبة الأدب و متابعة جديد الإبداع. و يظل الشغف السبيلَ الأوحد لمواصلة الاقتيات على النصوص الإبداعية و المؤلّفات الأدبية بنهم و سلام متدفِّقَيْن. و لذلك ليس بإمكان قارئ الأدب ادعاء إلغاء كل نزوع ذاتي عفوي لصالح موضوعيةٍ تميِّز العلوم، لأن الأدب لا ينشغل بالمادة أو بالموضوع إلا في سياق انشغاله بالذات، بل إن الاحتفاء بالعمق الإنساني كان دوما (و سيبقى) الموضوع الأثير للأدب. لكن لا يمكن للقارئ الناقد أن ينغلق على المتن الإبداعي باسم المتعة الفريدة التي يتيحُها الحيّز النصي المكتوب، كي يقتَرِحَ كتابة النص الأدبي من جديد بلغةٍ تفارق الإغراق في النسْغَ الإبداعي، لتحيط بابتكارات النص أو لتضبطَ على سلّم التردّادات ذاتها إيقاع اختلافه و تميّزه. فالنقد لا يمكنه أن يعيد كتابة النص الأدبي بلغة إبداعية ثانية، حتى و إن تخفَّفتْ من كثافة الإبداع لترصُد مواطِنه في النص المقروء. إن القراءة العاشقة وصلةٌ أولى تعانِق النص بلهفة و إعجاب بحكم استسلامها الكلِّي لسطوتي الشغف و الانبهار، مما يدفعُها في غالب الأحيان إلى إنتاج خطاب تقريظي لا يتجشَّم من أعباء النقد الموضوعي حرفاً واحداً، و لا يكلِّف نفسه عناء الانضباط للغة النقدية بمقولاتها الواصفة أو بمفاهيمها التقييمية. لكن النقد و هو يقرأ الأدب، يتجاوز الوصلة الأولى العاشقة ليحاول أن يرى النص الأدبي من منظور آخر مختَلف، يفارق فيه الرّائي ركن المتذِّوق الغافل عن وصفاتِ الكتابة و محتَرَفاتِ الإبداع، و ينحو إلى روائز الكشف الحصيف و الفحص الدقيق، تلك الروائز التي تستقوي بالرؤية الفكرية و الخبرة بالأدوات النقدية. لأجل ذلك كله الناقد ليس قارئاً عاشقاً للنص، و ليس مقبولاً ممن يسم ذاته بوسم “الناقد” أن ينتِج قراءة نقدية عاشقة للنص المقروء، تسْبح في ملكوت الإبداع و تحلِّق مع أطياف الشعر و تتغنّى بسحر المجاز. في معتَرَك النقد: يورد المعجم الوسيط في معنى”نَقَدَ”: نَقَدَ الشيءَ نَقْداً: نقره ليختبره، أو ليميّز جيِّده من رديئه… يقال: نقَد النثْرَ و نقد الشِّعْر: أظهر ما فيهما من عيْب أو حُسْن… و نقَد الشيءَ و إليه ببصره نُقُوداً: اختلس النَّظَر نحوه حتى لا يُفْطَنَ له… و نقَد فلاناً الثمنَ، و نقَد له الثمن: أعطاه إيّاه نَقْداً مُعَجَّلاً. و (نَقِدَ) الشيءُ نَقَداً: وقع فيه الفساد. يقال: نَقِدَ الضِّرْسُ أو القَرْنُ: تأكَّل و تكسَّر… و يقال: انتقد الشِّعْر على قائله: أظهر عَيْبَه. قد تكون العودة إلى المداخل المعجمية غير ذات تأثير، في زمن اختط فيه النقد لمفاهيمه أكثر من تمثيل، و شيَّد لمقولاته أكثر من نسق. فالنقد سعى في عصور عديدة و عبر مدارس و مشارب و منظورات متعددة إلى الانفتاح على قابلية التغُّير و إمكان إعادة التشييد و احتمال القطيعة و حرية الارتحال. لكن اللغة بأصل وجودها قد حدَّدت الكلمات و وسَمتْ الأشياء. و اختارت للصور الذهنية، مواضعَةً مثلما رأى ابن جني أو توقيفاً مثلما رأى أبو الحسين أحمد بن فارس، الصورَ اللفظية التي ستغتني بالتصويت عن المرجع، و تقرِن بالتسمية بين المصطلح و المفهوم. و هكذا فإن النقد الأدبي، في ضوء المداخل المعجمية المعروضة آنفاً، يسعى إلى تمييز جيّد العمل الأدبي من رديئه و اختبار صحيحه من زائفه. و النَاقد ينظر إلى العمل الأدبي ليختبر حسنه و عيبه. و تلك معانٍ لها مستوياتُ تحقُّق تحليلي تقتضي المعرفة و الخبرة و الاختصاص. و تستلزم مِراساً يفوق ما قد يخولُّه فعلُ الكتابة الإبداعية للذاتِ المُبدِعة الكاتبةِ من معرفة بأسئلة الكتابة الحميمة. و لا يُعتد هنا بالتمييز بين الرُّتب أو بالتفضيل بين المَراتب. فالإبداع سابق بالقوة و الوجود على النقد، بيد أن النقد كاشف لخواص الإبداع و ظواهره و بواطنه. و مثلما يحفِّز النص الأدبي النقدَ على تجديد أدواته و أنساقه استيعاباً لتحرُّر الإبداع في تحقيقه للحياة و للاستمرارية و للخلود من كل ضوابط قبْلية أو رواسم جاهزة. فإن قدرة النقد على الكشف و الروز و الحفر و الاستجلاء، تمكِّنه من استشراف الكون الإبداعي و استكناه أبعاده الخفية، و تمكِّنه من استدعاء فعل الكتابة الإبداعية إلى أمداء لم تكن قادرة، دون هداية النقد، إلى إدراكها أو تحقيقها. مُختبَر الرواية: لتخصيص الحديث بشكل أكثر دقة و تمحيصاً يمكن القول؛ إن ما يعترض محتَرف الكتابة الروائية بحكم الخبرة الإبداعية من انشغالات تخص محاور الامتلاء و الاختمار و الإنجاز و التَّتميم، لا تضع الكتابة في معتَرَك النقد فعلاً، و لا تتيح لها الوعي بالبُنى المفاهيمية التي تخوض فيها الكتابة إجرائياً بشكل عفوي. فلحظة الخَلْق تتملَّك الذات الكاتبة دون ما سواها، و تدفعها إلى النهل من فيض تلك اللحظة دون إدراك معرفي قد يسمِّي المفاهيم و يحدِّد التمثُّلات و يرصد الأنساق و يميِّز الأُطر. قد يختبر الكاتب الروائي، و هو يمارس داخل محتَرَفه الخاص الإنتاجَ الروائي، تحويلَ الامتلاء إلى فكرة هي زاد الكتابة و شرارتها القادِحة. و يسعى عبر الإحاطة بالمجال الحاضن للفكرة إلى تعميق أمداء اختمارها و نضوجها. و قد يترك للإنجاز بعد ذلك أن ينقاد لخيوط السرد و هي تلحم سدى الحكاية. و يمضي لاحقاً بعد اكتمال الإنجاز إلي تتميم التسريد الروائي بمراجعات الصيغة و الشكل و النمط و اللغة. لكن الذات الكاتبة لا تتحول لأجل هذه الملكات الإبداعية و المهارات الكتابية و الكفايات الإنتاجية، من صفة الكتابة إلى وَسْم النقد. و لا تتيح دربة الكتابة و مصاحبة السياقات الإبداعية إلى ترقية الكاتب من مرتبة الخالِق المبدع إلى مرتبة الناقد الحصيف. و كون الكاتب ليس ناقداً حصيفا يمتلك الدربة النقدية و يتمثّل النظرية و يعي فكّ مغاليق النص، لا يعني بالضرورة أنه لا يمكنه أن يكون ناقداً متذوقاً للنص يكتبه أو للنص يقرؤه. غير أن الذات الكاتبة و هي تحكِم على اللغة الإبداعية عوالِم التسريد لا تراهن في منتهى مطمح الكتابة على إدراك ما تشيِّده نقدياً. بل إنها قد لا تهتم بالأسئلة النقدية أثناء تخَلُّق الكتابة. لأن من شان ذلك الاهتمام أن يحتجز أفق الإبداع و يضيِّق على حرية الخَلْق. إن لحظات الكتابة المبدِعة آسِرةٌ مثلما هي لحظات القراءة العاشقة. الذات الكاتبة تنقاد إبداعياً إلى متعة الخَلْق و شغف الكتابة و غواية اللَّعب. و تمارس عن وعي مشاكِس ذلك الانقياد لإتمام الفعلِ الإبداعي. و الذات القارئة تنقاد إبداعياً إلى متعة التذوق و شغف القراءة و غواية الانبهار. و بين الذات الكاتبة و الذات القارئة يفتقد النصُّ، المُلهَم أو المُلهِم، إلى العين الحصيفة التي لها الأهلية لإضاءته بفضل ما تتزوَّد به من رزانة علمية و خبرة موضوعية و رؤية تأويلية. إن النص الأدبي لا يعدو أن يكون في واقع الأمر مثلما يصفه أمبرطو إيكو “آلة كسول” تحتاج إلى فعل القراءة قصد تنشيطها. لكن يفترض في هذه القراءة التي ستمنح النص فعاليته النشطة أن لا تكتفي بالتصريح بعشقه أو بالتغني بجماله و سحره. إن القراءة التي ستفعِّلُ إمكانات النص هي مهمَّة الناقد الذي سيستجلي بلغة النقد الرصينة و مفاهيمها الواصفة “الاستراتيجيات النصية” المبثوثة في الحيز النصي قصد إدراك ما يدعوه إيكو قصدية النص. “فما بين قصدية الكاتب صعبة الإدراك و بين قصدية القارئ المنجَزة عند القراءة، هناك القصدية الشفافة للنص التي تدحض كل تأويل هش”. لا يمتلك الناقد في ضوء كل ذلك القدرة على إنتاج النص النقدي الكاشف للنص الإبداعي و المضيء لما يسنُّه ذلك النص من خطوات للكتابة المبدعة فحسب، بل يحوز بمفرده إمكانية استدعاء الفعل الإبداعي إلى الوعي بمختبرات الكتابة الروائية و إلى خوض تحديات و رهانات جديدة بحرية الخَلْق و نشوة الابتكار. قبل البدء: ليس على النقد أن يدعي إمكان اختلاس النظر التحليلي إلى النص الأدبي، دون أن يكون الوقوع في أسر الغواية أمراً وارداً. فالكتابة النقدية محكومةٌ بدورها هي الأخرى منذ لحظة التصفُّح الأوّلي بممارسة المتعة بكامل إرادة القارئ النّاقد، و موكولةٌ منذ استكشاف الجملة الافتتاحية إلى الانتشاء بمكامن الجدة و الاختراق. لكن لحظة الانبهار أو الاندهاش لا تمتلك باسم النقد الاكتفاءَ الذاتي الكفيل بإنتاج القراءة النقدية الرصينة. مرايا القراءة العاشقة: لاشك أن الشغف العميق الذي يواكب درب ارتياد القراءة يظل حافزَ كل قارئ في حرصه الكبير على مصاحبة الأدب و متابعة جديد الإبداع. و يظل الشغف السبيلَ الأوحد لمواصلة الاقتيات على النصوص الإبداعية و المؤلّفات الأدبية بنهم و سلام متدفِّقَيْن. و لذلك ليس بإمكان قارئ الأدب ادعاء إلغاء كل نزوع ذاتي عفوي لصالح موضوعيةٍ تميِّز العلوم، لأن الأدب لا ينشغل بالمادة أو بالموضوع إلا في سياق انشغاله بالذات، بل إن الاحتفاء بالعمق الإنساني كان دوما (و سيبقى) الموضوع الأثير للأدب. لكن لا يمكن للقارئ الناقد أن ينغلق على المتن الإبداعي باسم المتعة الفريدة التي يتيحُها الحيّز النصي المكتوب، كي يقتَرِحَ كتابة النص الأدبي من جديد بلغةٍ تفارق الإغراق في النسْغَ الإبداعي، لتحيط بابتكارات النص أو لتضبطَ على سلّم التردّادات ذاتها إيقاع اختلافه و تميّزه. فالنقد لا يمكنه أن يعيد كتابة النص الأدبي بلغة إبداعية ثانية، حتى و إن تخفَّفتْ من كثافة الإبداع لترصُد مواطِنه في النص المقروء. إن القراءة العاشقة وصلةٌ أولى تعانِق النص بلهفة و إعجاب بحكم استسلامها الكلِّي لسطوتي الشغف و الانبهار، مما يدفعُها في غالب الأحيان إلى إنتاج خطاب تقريظي لا يتجشَّم من أعباء النقد الموضوعي حرفاً واحداً، و لا يكلِّف نفسه عناء الانضباط للغة النقدية بمقولاتها الواصفة أو بمفاهيمها التقييمية. لكن النقد و هو يقرأ الأدب، يتجاوز الوصلة الأولى العاشقة ليحاول أن يرى النص الأدبي من منظور آخر مختَلف، يفارق فيه الرّائي ركن المتذِّوق الغافل عن وصفاتِ الكتابة و محتَرَفاتِ الإبداع، و ينحو إلى روائز الكشف الحصيف و الفحص الدقيق، تلك الروائز التي تستقوي بالرؤية الفكرية و الخبرة بالأدوات النقدية. لأجل ذلك كله الناقد ليس قارئاً عاشقاً للنص، و ليس مقبولاً ممن يسم ذاته بوسم “الناقد” أن ينتِج قراءة نقدية عاشقة للنص المقروء، تسْبح في ملكوت الإبداع و تحلِّق مع أطياف الشعر و تتغنّى بسحر المجاز. في معتَرَك النقد: يورد المعجم الوسيط في معنى”نَقَدَ”: نَقَدَ الشيءَ نَقْداً: نقره ليختبره، أو ليميّز جيِّده من رديئه… يقال: نقَد النثْرَ و نقد الشِّعْر: أظهر ما فيهما من عيْب أو حُسْن… و نقَد الشيءَ و إليه ببصره نُقُوداً: اختلس النَّظَر نحوه حتى لا يُفْطَنَ له… و نقَد فلاناً الثمنَ، و نقَد له الثمن: أعطاه إيّاه نَقْداً مُعَجَّلاً. و (نَقِدَ) الشيءُ نَقَداً: وقع فيه الفساد. يقال: نَقِدَ الضِّرْسُ أو القَرْنُ: تأكَّل و تكسَّر… و يقال: انتقد الشِّعْر على قائله: أظهر عَيْبَه. قد تكون العودة إلى المداخل المعجمية غير ذات تأثير، في زمن اختط فيه النقد لمفاهيمه أكثر من تمثيل، و شيَّد لمقولاته أكثر من نسق. فالنقد سعى في عصور عديدة و عبر مدارس و مشارب و منظورات متعددة إلى الانفتاح على قابلية التغُّير و إمكان إعادة التشييد و احتمال القطيعة و حرية الارتحال. لكن اللغة بأصل وجودها قد حدَّدت الكلمات و وسَمتْ الأشياء. و اختارت للصور الذهنية، مواضعَةً مثلما رأى ابن جني أو توقيفاً مثلما رأى أبو الحسين أحمد بن فارس، الصورَ اللفظية التي ستغتني بالتصويت عن المرجع، و تقرِن بالتسمية بين المصطلح و المفهوم. و هكذا فإن النقد الأدبي، في ضوء المداخل المعجمية المعروضة آنفاً، يسعى إلى تمييز جيّد العمل الأدبي من رديئه و اختبار صحيحه من زائفه. و النَاقد ينظر إلى العمل الأدبي ليختبر حسنه و عيبه. و تلك معانٍ لها مستوياتُ تحقُّق تحليلي تقتضي المعرفة و الخبرة و الاختصاص. و تستلزم مِراساً يفوق ما قد يخولُّه فعلُ الكتابة الإبداعية للذاتِ المُبدِعة الكاتبةِ من معرفة بأسئلة الكتابة الحميمة. و لا يُعتد هنا بالتمييز بين الرُّتب أو بالتفضيل بين المَراتب. فالإبداع سابق بالقوة و الوجود على النقد، بيد أن النقد كاشف لخواص الإبداع و ظواهره و بواطنه. و مثلما يحفِّز النص الأدبي النقدَ على تجديد أدواته و أنساقه استيعاباً لتحرُّر الإبداع في تحقيقه للحياة و للاستمرارية و للخلود من كل ضوابط قبْلية أو رواسم جاهزة. فإن قدرة النقد على الكشف و الروز و الحفر و الاستجلاء، تمكِّنه من استشراف الكون الإبداعي و استكناه أبعاده الخفية، و تمكِّنه من استدعاء فعل الكتابة الإبداعية إلى أمداء لم تكن قادرة، دون هداية النقد، إلى إدراكها أو تحقيقها. مُختبَر الرواية: لتخصيص الحديث بشكل أكثر دقة و تمحيصاً يمكن القول؛ إن ما يعترض محتَرف الكتابة الروائية بحكم الخبرة الإبداعية من انشغالات تخص محاور الامتلاء و الاختمار و الإنجاز و التَّتميم، لا تضع الكتابة في معتَرَك النقد فعلاً، و لا تتيح لها الوعي بالبُنى المفاهيمية التي تخوض فيها الكتابة إجرائياً بشكل عفوي. فلحظة الخَلْق تتملَّك الذات الكاتبة دون ما سواها، و تدفعها إلى النهل من فيض تلك اللحظة دون إدراك معرفي قد يسمِّي المفاهيم و يحدِّد التمثُّلات و يرصد الأنساق و يميِّز الأُطر. قد يختبر الكاتب الروائي، و هو يمارس داخل محتَرَفه الخاص الإنتاجَ الروائي، تحويلَ الامتلاء إلى فكرة هي زاد الكتابة و شرارتها القادِحة. و يسعى عبر الإحاطة بالمجال الحاضن للفكرة إلى تعميق أمداء اختمارها و نضوجها. و قد يترك للإنجاز بعد ذلك أن ينقاد لخيوط السرد و هي تلحم سدى الحكاية. و يمضي لاحقاً بعد اكتمال الإنجاز إلي تتميم التسريد الروائي بمراجعات الصيغة و الشكل و النمط و اللغة. لكن الذات الكاتبة لا تتحول لأجل هذه الملكات الإبداعية و المهارات الكتابية و الكفايات الإنتاجية، من صفة الكتابة إلى وَسْم النقد. و لا تتيح دربة الكتابة و مصاحبة السياقات الإبداعية إلى ترقية الكاتب من مرتبة الخالِق المبدع إلى مرتبة الناقد الحصيف. و كون الكاتب ليس ناقداً حصيفا يمتلك الدربة النقدية و يتمثّل النظرية و يعي فكّ مغاليق النص، لا يعني بالضرورة أنه لا يمكنه أن يكون ناقداً متذوقاً للنص يكتبه أو للنص يقرؤه. غير أن الذات الكاتبة و هي تحكِم على اللغة الإبداعية عوالِم التسريد لا تراهن في منتهى مطمح الكتابة على إدراك ما تشيِّده نقدياً. بل إنها قد لا تهتم بالأسئلة النقدية أثناء تخَلُّق الكتابة. لأن من شان ذلك الاهتمام أن يحتجز أفق الإبداع و يضيِّق على حرية الخَلْق. إن لحظات الكتابة المبدِعة آسِرةٌ مثلما هي لحظات القراءة العاشقة. الذات الكاتبة تنقاد إبداعياً إلى متعة الخَلْق و شغف الكتابة و غواية اللَّعب. و تمارس عن وعي مشاكِس ذلك الانقياد لإتمام الفعلِ الإبداعي. و الذات القارئة تنقاد إبداعياً إلى متعة التذوق و شغف القراءة و غواية الانبهار. و بين الذات الكاتبة و الذات القارئة يفتقد النصُّ، المُلهَم أو المُلهِم، إلى العين الحصيفة التي لها الأهلية لإضاءته بفضل ما تتزوَّد به من رزانة علمية و خبرة موضوعية و رؤية تأويلية. إن النص الأدبي لا يعدو أن يكون في واقع الأمر مثلما يصفه أمبرطو إيكو “آلة كسول” تحتاج إلى فعل القراءة قصد تنشيطها. لكن يفترض في هذه القراءة التي ستمنح النص فعاليته النشطة أن لا تكتفي بالتصريح بعشقه أو بالتغني بجماله و سحره. إن القراءة التي ستفعِّلُ إمكانات النص هي مهمَّة الناقد الذي سيستجلي بلغة النقد الرصينة و مفاهيمها الواصفة “الاستراتيجيات النصية” المبثوثة في الحيز النصي قصد إدراك ما يدعوه إيكو قصدية النص. “فما بين قصدية الكاتب صعبة الإدراك و بين قصدية القارئ المنجَزة عند القراءة، هناك القصدية الشفافة للنص التي تدحض كل تأويل هش”. لا يمتلك الناقد في ضوء كل ذلك القدرة على إنتاج النص النقدي الكاشف للنص الإبداعي و المضيء لما يسنُّه ذلك النص من خطوات للكتابة المبدعة فحسب، بل يحوز بمفرده إمكانية استدعاء الفعل الإبداعي إلى الوعي بمختبرات الكتابة الروائية و إلى خوض تحديات و رهانات جديدة بحرية الخَلْق و نشوة الابتكار.