جودة عبد الخالق: سكة صندوق النقد طريق سد.. والتباطؤ سيخفف الضغط لكنه لن يفيد    الجيش الإسرائيلي يعترض طائرتين مسيريتين في منطقة إيلات    «أحمق حقيقي».. سجال لفظي بين ترامب وأوباما بسبب دعم كامالا هاريس    استشهاد وإصابة عشرات الفلسطينيين في أكثر من 20 غارة إسرائيلية على شمال غزة    نجم الأهلي السابق يختار الحارس الأفضل لمواجهة الزمالك    لليوم الثاني، الأرصاد الجوية تحذر من طقس اليوم وتؤكد: استمرار الرياح وعودة الأمطار    هاني شاكر يخطف قلوب جمهور الموسيقى العربية بأغاني الزمن الجميل    للمرة الثالثة، مناظرة مرتقبة تجمع باسم يوسف وبيرس مورجان اليوم    سلامة: المجلس الوطني للتعليم يضم بعض الوزراء والخبراء ورجال الأعمال    اليوم، استلام الشحنة الثانية من "البيض" المستورد لطرحه بالمجمعات الاستهلاكية    أحمد عادل: لا يجوز مقارنة كولر مع جوزيه.. وطرق اللعب كانت تمنح اللاعبين حرية كبيرة    متوفرة في كل منزل.. فواكه تخلصك من رائحة الفم الكريهة    سعر الجنيه أمام عملات دول البريكس اليوم الأربعاء 23 أكتوبر 2024 بعد انضمام مصر    وزير الخارجية الأردني: إسرائيل تدفع المنطقة نحو حرب إقليمية شاملة    وزير التعليم: لا يوجد نظام في العالم لا يعمل بدون تقييمات أسبوعية    عبد الرحيم حسن: فارس بلا جواد ربطني باقي العمر بمحمد صبحي.. وكان نقلة في مشواري    أصولي صعيدية.. نهى عابدين تكشف أسرارًا من حياتها الأسرية |فيديو    إبراهيم عيسى: اختلاف الرأي ثقافة لا تسود في مجتمعنا.. نعيش قمة الفاشية    حالة وفاة وعشرات المصابين في أمريكا تناولوا وجبات ماكدونالدز، والكارثة في البصل    ضبط المتهمين بسرقة مخزن شركة بالتجمع الأول    لمدة 4 أيام.. تفاصيل جدول امتحان شهر أكتوبر للصف الرابع الابتدائي    ثروت سويلم: ما حدث عقب مباراة الزمالك وبيراميدز إساءة والدولة مش هتعديه دون محاسبة    تصعيد إسرائيلي في «غزة» يسفر عن شهداء ومصابين وتدمير واسع    منصور المحمدي يُعلن ترشحه لمنصب نائب رئيس اتحاد الطائرة بقائمة مخلوف    الكومي: فرد الأمن المعتدى عليه بالإمارات «زملكاوي».. والأبيض سيتأثر أمام الأهلي    أنتوني بلينكن: مقتل "السنوار" يوفر فرصة لإنهاء الحرب في غزة    خبير يكشف موقف توربينات سد النهضة من التشغيل    يسرا تدير الجلسة الحوارية لإسعاد يونس في مهرجان الجونة    قبل أيام من الكلاسيكو.. رودريجو يوجه رسالة لجماهير ريال مدريد بعد إصابته    رياح وأمطار بهذه المناطق.. الأرصاد تعلن حالة الطقس اليوم ودرجات الحرارة    أمن كفر الشيخ يكشف لغز العثور على جثة شاب ملقاه بترعة في بيلا    مصرع طفل أُغلق على جسده باب مصعد كهربائي بكفر الشيخ    القبض على المتهمين بقتل طفلة فى المقطم    دوللي شاهين تطرح برومو أغنية «أنا الحاجة الحلوة».. فيديو    إذا كان دخول الجنة برحمة الله فلماذا العمل والعبادة؟ أمين الفتوى يجيب    بركات يوم الجمعة وكيفية استغلالها بالدعاء والعبادات    بدلا من الذهب.. نقابة المصوغات والمجوهرات تنصح المواطنين بالاستثمار في الفضة    «اللي حصل جريمة وكارثة».. تعليق ناري من نجم الزمالك السابق على عقوبات الأهلي ضد كهربا    بينها عادات سيئة .. هؤلاء الأشخاص أكثر عُرضة لالتهاب الجيوب الأنفية    أدباء وحقوقيون ينتقدون اعتقال الخبير الاقتصادي عبدالخالق فاروق    البطريرك يلتقي عددًا من الآباء الكهنة والراهبات في روما    سعر الذهب اليوم الأربعاء بيع وشراء.. أرقام قياسية ل عيار 21 والجنيه    أرباح لوكهيد مارتن خلال الربع الثالث تتجاوز التقديرات    الفنانة عبير منير تكشف كواليس تعارفها بالكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة: "عشنا مع بعض 4 سنين"    وزير المالية: 3 أولويات لتعزيز البنية المالية الإفريقية في مواجهة التحديات العالمية    أوكرانيا تبحث مع استونيا تعزيز القدرات الدفاعية للبلاد    تشريح جثة طفل عثر عليها ملقاة بالشارع في حلوان    إنفوجراف| أبرز تصريحات الرئيس السيسي خلال لقائه مع نظيره الروسي    نائب الرئاسي الليبي يبحث مع مسؤولة أممية التطورات السياسية في ليبيا    حلوى الدببة الجيلاتينية التى تباع في آلات البيع الألمانية تحتوى على سم الفطر    القاهرة الإخبارية: 4 غارات إسرائيلية على مناطق برج البراجنة وحارة حريك والليلكي في الضاحية جنوب لبنان    أرسنال يعود لسكة الانتصارات بفوز صعب على شاختار دونيتسك    رئيس جامعة الأزهر يتابع أعمال التطوير المستمر في المدن الجامعية    هل الإيمان بالغيب فطرة إنسانية؟.. أسامة الحديدي يجيب    نشرة المرأة والمنوعات: الوقوف لساعات طويلة يصيبك بمرض خطير.. أبرز أسباب مرض داليا مصطفى.. سعر غير متوقع ل فستان ريهام حجاج    أمين الفتوى: تربية الأبناء تحتاج إلى صبر واهتمام.. وعليك بهذا الأمر    قومي المرأة يهنئ المستشار سناء خليل لتكريمه في احتفالية "الأب القدوة"    هل قول "صدق الله العظيم" بدعة؟.. أمين الفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إدوارد سعيد: المثقف اليهودي الأخير
نشر في صوت البلد يوم 19 - 06 - 2016

في حوار مع صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية أجراه معه آري شافيط ( 18 آب/اغسطس 2000)، قال إدوارد سعيد عبارته المدوّية: «أنا هو المثقف اليهودي الأخير، مثقفوكم اليهود هم مجرد «وجهاء ضواحي» من عاموس عوز إلى جميع هؤلاء الذين يقيمون في أمريكا، أنا هو المريد الحقيقي الوحيد لأدورنو»…
الحوار مع ادوارد سعيد الذي انطلق من واقعة رميه حجراً على إسرائيل من بوابة فاطمة بُعيد تحرير الجنوب اللبناني عام 2000، حمل الكثير من الأسئلة العميقة حول معنى الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي بصفته صراعاً أخلاقياً في الدرجة الأولى. «فكرة فلسطين» مثلما بلورها سعيد هي فكرة كونية، تختزن آلام الانسان في صراعه من أجل حريته وكرامته وحقه في الحياة، وهي بهذا المعنى حلبة مقاومة المشاريع الكولونيالية بما تحمله من ممارسات عنصرية واستعلائية. فلسطين هي صوت الضحية التي تقاوم تاريخاً يكتبه المنتصرون بدماء ضحاياهم. بهذا المعنى كان سعيد محقاً في إعلانه بأنه وريث الثقافة النقدية التي صنعها أدورنو وحنة آرندت ومدرسة فرانكفورت.
كلام سعيد لم يجد صداه عند محاوره آري شافيط الذي قام عام 1993 بنشر كتابه «أرضي الموعودة»، My Promised Land الذي يبرر فيه مذبحة اللد الرهيبة عام 1948، باعتبارها شراً لا بد منه من أجل تأسيس الدولة العبرية! سعيد في مقابلته هذه أشار إلى مذبحة اللد وطرد سكانها، غير أن الفكر الصهيوني لا يريد أن يفهم أن خطيئة إسرائيل الكبرى لا يمكن تغطيتها بحكايات اليهود الهاربين من الهولوكست، فالضحية حين تتبنى لغة الجلاد وممارساته تفقد لغتها وأخلاقها وتتحول إلى مطية كولونيالية. ما لم يفهمه شافيط فهمه مؤرخ إسرائيلي هو إيلان بابه الذي نشر كتابه « التطهير العرقي في فلسطين»، (صدرت ترجمته العربية عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت) وفيه يعيد بابه إلى الكتابة التاريخية معناها، ويحررها من عنصرية الكثير من المؤرخين الإسرائيليين، ويحلل بالوثائق التاريخية الدامغة المشروع الكولونيالي الصهيوني، كما فهمه مؤرخ إسرائيلي آخر هو امنون راز كاركوسكين الذي قدم اقتراحه المثير بأن المفهوم اليهودي عن المنفى لم تعد قراءته ممكنة اليوم من دون الاهتداء بكتابات إدوارد سعيد ومحمود درويش.
في حواره مع «هآرتس» قدم سعيد مرافعة مدهشة عن الحق الفلسطيني وكرر اقتراحه بأن أفق الحل الوحيد هو في دولة ثنائية القومية، يتمتع فيها الجميع بحقوق متساوية، وتنطلق من الاعتراف الإسرائيلي بالخطيئة الصهيونية وبتأكيد حق العودة للفلسطينيين.
هذا الكلام «السعيدي» يجب أن نتأمله اليوم في لحظة السقوط المروّعة للحركة الوطنية الفلسطينية، وفي زمن الانهيار العربي الراهن، حيث تحولت أرض العرب إلى ساحة مباحة للقتل والتهجير والعنف الوحشي، في ظل شعارات كاذبة ومنحطة يحملها «مثقفون» يقومون بهركلة الثقافة وتحويلها إلى منصة للحاقدين من تلامذة الفاشية القومية والدينية بأشكالها المختلفة.
نتأمل هذا الكلام كي نتمسك بالمبنى الأخلاقي الذي يجعل من قضية فلسطين قضيتنا السياسية والفكرية والثقافية والأخلاقية، رغم كل ما يجري من حولنا، وهذا يعني أن الحق الفلسطيني هو جزء لا يتجزأ من النضال ضد الاستبداد والديكتاتورية وأنظمة فقهاء الكاز والغاز. فالمعركة تدور اليوم بين ممارسة فاشية عنصرية دينية- قومية متطرفة في دولة الاحتلال التي تتحول إلى دولة «أبرتهايد» معلنة، وبين فكر ديمقراطي إنساني يرى في النضال ضد الفاشية مدخلاً إلى ترسيخ فكرة التحرر والعدالة. أما مقاومة الفاشية بفاشية مضادة، فهو في أفضل الحالات، هذا إذا افترضنا وجود نيات حسنة بات البحث عنها صعباً، سقوط مخيف في لغة العدو واستسلام سهل للهزيمة التي تتغطى بلغة انتصارية مليئة بالطنين.
نعود إلى ادوارد سعيد كي نُذكّر بأن المعركة ليست مع اليهود بل مع إسرائيل، وليست ضد مثقفين يهود يدفعون اليوم الثمن غالياً لأنهم يقفون مع الحق الفلسطيني، هؤلاء أصدقاء الشعب الفلسطيني بغض النظر عن كونهم إسرائيليين أو من جنسيات أخرى، وليست مع مثقف كإدوارد سعيد أجرى مقابلة مع صحيفة «هآرتس» وليست مع محمود درويش الذي تُرجمت أشعاره ونُشرت بالعبرية، وليست مع «باب الشمس» التي تحولت من رواية إلى أول قرية فلسطينية محررة، بل هي أولاً معركة مع الدولة العنصرية الصهيونية التي تريد محو فلسطين ومشاركة القوى الكولونيالية في الهيمنة على المشرق العربي، وهي ثانياً معركة مع أنظمة الاستبداد العربية، ومع استبداد نظام الأسد الذي قتل الشعب السوري وحوله إلى شعب من اللاجئين (10 ملايين لاجئ سوري خارج سوريا وداخلها)، والتي تتغطى بقضية فلسطين معتقدة أن الكلام القومجي الممانع يحجب الدم السوري الذي يغطي السماء، ويحجب أيضاً دماء تل الزعتر وشاتيلا، الذي ذبحه الحصار بعد المذبحة التي ارتكبها الإسرائيليون وعملاؤهم، ونهر البارد وحصار مخيم اليرموك وتجويعه وتهجير سكانه، أو يمحو دماء مهدي عامل وحسين مروة وجورج حاوي وسمير قصير.
الذين استفزتهم مقابلة أمين معلوف البائسة مع قناة «إسرائيل 24»، التلفزيونية الإسرائيلية، مشغولون بالدفاع عن أبدية الاسد وقراره بإحراق سوريا وتدميرها، ولا همّ لهم سوى تغطية غزو مقاتلين لبنانيين لسوريا من أجل إخضاع شعبها وتشريده. يغضون الطرف عن حليفهم الروسي الذي لا يخفي صداقته لإسرائيل، ويريدون تحويل خطأ أمين معلوف إلى منصة يمطتيها قضاة في محاكم تفتيش جديدة.
حركة مقاطعة إسرائيل B.D.S. هي حركة نبيلة تعمّ العالم بأسره، وهي حركة هدفها عزل إسرائيل بصفتها دولة عنصرية، وليس تحويل فلسطين وشعبها إلى غطاء للمستبدين من عرب وعجم. ولا ضرورة لإقحام تشوهات قومجية وعنصرية فيها، أو إحداث إضافات عليها مثلما فعل جماعة «مسرح المدينة» ولفيفهم في بيروت، اذ لا معنى لكلام يدعونا إلى مقاطعة مثقفين يهود إسرائيليين يناضلون ضد الهمجية الصهيونية، أو مقاطعة وسائل اعلام إسرائيلية شرط أن نستطيع التعبير فيها عن مواقفنا من دون تقديم أي تنازلات وأن تكون إحدى وسائلنا لنزع الشرعية عن دولة الاحتلال، ولا معنى لعدم ترجمة الكتب العربية إلى العبرية، إلا إذا كان الهدف من وراء كل ذلك تحويل المثقفين الفلسطينيين والعرب إلى «وجهاء ضواحي» في مملكة الاستبداد، تماماً كما وصف ادوارد سعيد المثقفين اليهود في حواره مع «هآرتس».
ما نخشاه هو أن لا يكون ادوارد سعيد المثقف اليهودي الأخير فقط، بل أن يبتلعنا الانحطاط ليصير سعيد المثقف العربي الأخير أيضاً، وعندها فعلينا وعلى فلسطين السلام.
في حوار مع صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية أجراه معه آري شافيط ( 18 آب/اغسطس 2000)، قال إدوارد سعيد عبارته المدوّية: «أنا هو المثقف اليهودي الأخير، مثقفوكم اليهود هم مجرد «وجهاء ضواحي» من عاموس عوز إلى جميع هؤلاء الذين يقيمون في أمريكا، أنا هو المريد الحقيقي الوحيد لأدورنو»…
الحوار مع ادوارد سعيد الذي انطلق من واقعة رميه حجراً على إسرائيل من بوابة فاطمة بُعيد تحرير الجنوب اللبناني عام 2000، حمل الكثير من الأسئلة العميقة حول معنى الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي بصفته صراعاً أخلاقياً في الدرجة الأولى. «فكرة فلسطين» مثلما بلورها سعيد هي فكرة كونية، تختزن آلام الانسان في صراعه من أجل حريته وكرامته وحقه في الحياة، وهي بهذا المعنى حلبة مقاومة المشاريع الكولونيالية بما تحمله من ممارسات عنصرية واستعلائية. فلسطين هي صوت الضحية التي تقاوم تاريخاً يكتبه المنتصرون بدماء ضحاياهم. بهذا المعنى كان سعيد محقاً في إعلانه بأنه وريث الثقافة النقدية التي صنعها أدورنو وحنة آرندت ومدرسة فرانكفورت.
كلام سعيد لم يجد صداه عند محاوره آري شافيط الذي قام عام 1993 بنشر كتابه «أرضي الموعودة»، My Promised Land الذي يبرر فيه مذبحة اللد الرهيبة عام 1948، باعتبارها شراً لا بد منه من أجل تأسيس الدولة العبرية! سعيد في مقابلته هذه أشار إلى مذبحة اللد وطرد سكانها، غير أن الفكر الصهيوني لا يريد أن يفهم أن خطيئة إسرائيل الكبرى لا يمكن تغطيتها بحكايات اليهود الهاربين من الهولوكست، فالضحية حين تتبنى لغة الجلاد وممارساته تفقد لغتها وأخلاقها وتتحول إلى مطية كولونيالية. ما لم يفهمه شافيط فهمه مؤرخ إسرائيلي هو إيلان بابه الذي نشر كتابه « التطهير العرقي في فلسطين»، (صدرت ترجمته العربية عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت) وفيه يعيد بابه إلى الكتابة التاريخية معناها، ويحررها من عنصرية الكثير من المؤرخين الإسرائيليين، ويحلل بالوثائق التاريخية الدامغة المشروع الكولونيالي الصهيوني، كما فهمه مؤرخ إسرائيلي آخر هو امنون راز كاركوسكين الذي قدم اقتراحه المثير بأن المفهوم اليهودي عن المنفى لم تعد قراءته ممكنة اليوم من دون الاهتداء بكتابات إدوارد سعيد ومحمود درويش.
في حواره مع «هآرتس» قدم سعيد مرافعة مدهشة عن الحق الفلسطيني وكرر اقتراحه بأن أفق الحل الوحيد هو في دولة ثنائية القومية، يتمتع فيها الجميع بحقوق متساوية، وتنطلق من الاعتراف الإسرائيلي بالخطيئة الصهيونية وبتأكيد حق العودة للفلسطينيين.
هذا الكلام «السعيدي» يجب أن نتأمله اليوم في لحظة السقوط المروّعة للحركة الوطنية الفلسطينية، وفي زمن الانهيار العربي الراهن، حيث تحولت أرض العرب إلى ساحة مباحة للقتل والتهجير والعنف الوحشي، في ظل شعارات كاذبة ومنحطة يحملها «مثقفون» يقومون بهركلة الثقافة وتحويلها إلى منصة للحاقدين من تلامذة الفاشية القومية والدينية بأشكالها المختلفة.
نتأمل هذا الكلام كي نتمسك بالمبنى الأخلاقي الذي يجعل من قضية فلسطين قضيتنا السياسية والفكرية والثقافية والأخلاقية، رغم كل ما يجري من حولنا، وهذا يعني أن الحق الفلسطيني هو جزء لا يتجزأ من النضال ضد الاستبداد والديكتاتورية وأنظمة فقهاء الكاز والغاز. فالمعركة تدور اليوم بين ممارسة فاشية عنصرية دينية- قومية متطرفة في دولة الاحتلال التي تتحول إلى دولة «أبرتهايد» معلنة، وبين فكر ديمقراطي إنساني يرى في النضال ضد الفاشية مدخلاً إلى ترسيخ فكرة التحرر والعدالة. أما مقاومة الفاشية بفاشية مضادة، فهو في أفضل الحالات، هذا إذا افترضنا وجود نيات حسنة بات البحث عنها صعباً، سقوط مخيف في لغة العدو واستسلام سهل للهزيمة التي تتغطى بلغة انتصارية مليئة بالطنين.
نعود إلى ادوارد سعيد كي نُذكّر بأن المعركة ليست مع اليهود بل مع إسرائيل، وليست ضد مثقفين يهود يدفعون اليوم الثمن غالياً لأنهم يقفون مع الحق الفلسطيني، هؤلاء أصدقاء الشعب الفلسطيني بغض النظر عن كونهم إسرائيليين أو من جنسيات أخرى، وليست مع مثقف كإدوارد سعيد أجرى مقابلة مع صحيفة «هآرتس» وليست مع محمود درويش الذي تُرجمت أشعاره ونُشرت بالعبرية، وليست مع «باب الشمس» التي تحولت من رواية إلى أول قرية فلسطينية محررة، بل هي أولاً معركة مع الدولة العنصرية الصهيونية التي تريد محو فلسطين ومشاركة القوى الكولونيالية في الهيمنة على المشرق العربي، وهي ثانياً معركة مع أنظمة الاستبداد العربية، ومع استبداد نظام الأسد الذي قتل الشعب السوري وحوله إلى شعب من اللاجئين (10 ملايين لاجئ سوري خارج سوريا وداخلها)، والتي تتغطى بقضية فلسطين معتقدة أن الكلام القومجي الممانع يحجب الدم السوري الذي يغطي السماء، ويحجب أيضاً دماء تل الزعتر وشاتيلا، الذي ذبحه الحصار بعد المذبحة التي ارتكبها الإسرائيليون وعملاؤهم، ونهر البارد وحصار مخيم اليرموك وتجويعه وتهجير سكانه، أو يمحو دماء مهدي عامل وحسين مروة وجورج حاوي وسمير قصير.
الذين استفزتهم مقابلة أمين معلوف البائسة مع قناة «إسرائيل 24»، التلفزيونية الإسرائيلية، مشغولون بالدفاع عن أبدية الاسد وقراره بإحراق سوريا وتدميرها، ولا همّ لهم سوى تغطية غزو مقاتلين لبنانيين لسوريا من أجل إخضاع شعبها وتشريده. يغضون الطرف عن حليفهم الروسي الذي لا يخفي صداقته لإسرائيل، ويريدون تحويل خطأ أمين معلوف إلى منصة يمطتيها قضاة في محاكم تفتيش جديدة.
حركة مقاطعة إسرائيل B.D.S. هي حركة نبيلة تعمّ العالم بأسره، وهي حركة هدفها عزل إسرائيل بصفتها دولة عنصرية، وليس تحويل فلسطين وشعبها إلى غطاء للمستبدين من عرب وعجم. ولا ضرورة لإقحام تشوهات قومجية وعنصرية فيها، أو إحداث إضافات عليها مثلما فعل جماعة «مسرح المدينة» ولفيفهم في بيروت، اذ لا معنى لكلام يدعونا إلى مقاطعة مثقفين يهود إسرائيليين يناضلون ضد الهمجية الصهيونية، أو مقاطعة وسائل اعلام إسرائيلية شرط أن نستطيع التعبير فيها عن مواقفنا من دون تقديم أي تنازلات وأن تكون إحدى وسائلنا لنزع الشرعية عن دولة الاحتلال، ولا معنى لعدم ترجمة الكتب العربية إلى العبرية، إلا إذا كان الهدف من وراء كل ذلك تحويل المثقفين الفلسطينيين والعرب إلى «وجهاء ضواحي» في مملكة الاستبداد، تماماً كما وصف ادوارد سعيد المثقفين اليهود في حواره مع «هآرتس».
ما نخشاه هو أن لا يكون ادوارد سعيد المثقف اليهودي الأخير فقط، بل أن يبتلعنا الانحطاط ليصير سعيد المثقف العربي الأخير أيضاً، وعندها فعلينا وعلى فلسطين السلام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.