كلما اندلعت الاحتجاجات في أنحاء الشرق الأوسط وتحديداً الدول العربية بدءاً من عام 2011، تسعى قطر ؛ لجعل نفسها واحدة من أكبر اللاعبين، باستخدام ثروتها الهائلة لتمويل المنشقين والحكومات الجديدة، اعتقاداً منها بأنها تساعد في إعادة تشكيل النظام السياسي برمته في المنطقة. لكن مليارات الدولارات التي تمول الحركات الاحتجاجية في ليبياوسوريا ومصر، باتت سيفاً قطرياً وعاملاً حاسماً وحاكماً في سياساتها الخارجية، فمثلاً عند انتخاب الرئيس محمد مرسي المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين في أول انتخابات رئاسية في مصر، وفرت قطر 8 مليار دولار أمريكي مساعدات للحكومة المصرية، بالإضافة إلى دعم الجيش السوري الحر بالمال اللامحدود من قطر وتركيا على حد سواء، كونها الدول التي تقود جهوداً للإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد ونظامه.. لكن الإطاحة بمرسي أجبرت القطريين على إعادة النظر في استثماراتهم الثورية في المنطقة، كما أن تصاعد الحركات الإسلامية وتنظيم القاعدة في سوريا، ونجاح النظام السوري في إغلاق الحدود لمنع جميع أشكال الدعم المسلح والمالي للمعارضة المسلحة، باتت واضحاً أنه في خضم المشهد السياسي العربي المتقلب من أي وقت مضى، يجب على الدولة النفطية إعادة تقييم استراتيجيتها إذا كانت تريد أن تظل وثيقة الصلة مع الشعوب والحكومات. د. عبد الله الأشعل نائب مساعد وزير الخارجية الأسبق للعلاقات الدولية قال: إن جميع التقارير والشواهد تؤكد أن قطر متورطة في الثورة الليبية، والتي استثمرت مبالغ ضخمة بالنيابة عن المتمردين هناك لتوفير التسليح، ونفس الأمر يبدو ظاهراً في المشاركة بكثافة لمساعدة المتمردين في سوريا، حيث استثمرت قطر أكثر من 3 مليارات دولار في البلدين، وهذه السياسات التي أثارت الانتقادات الداخلية من أمير قطر الجديد (تميم) داخل عائلته الموسعة، والتي لا تزال تعارض، سيره على نفس نهج والده (حمد بن خليفة) في معاونة المتمردين في سوريا وتونس ومصر، كونه يصر على منافسة نفوذ القاهرة والرياض في سياسات الشرق الأوسط، ومع ذلك لا يختلف أحد على أن قطر أصبحت بالفعل رائدة بين الدول العربية ذات التأثير في السياسة الخارجية في السنوات الأخيرة، وبشكل خاص منذ الثورات الأخيرة في العالم العربي، على سبيل المثال، تمكنت قطر من المساعدة في تسوية العلاقات بين حماس والأردن، وأيضاً تعاونت جنباً إلى جنب مع المملكة العربية السعودية لوقف التقارب المتزايد بين مصر وإيران خلال فترة حكم الإخوان المسلمين، مؤكداً أن تميم مثل والده، ويعتبر من المؤيدين المتحمسين لجماعة الإخوان المسلمين والحركات الإسلامية في العالم العربي، وهو الموقف الذي أدى إلى خلق نزاع بين الإمارة والإدارة الأمريكية، رغم أن الدوحة تستضيف أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط، إلا أن واشنطن غير قادرة على إملاء شروطها على الدولة الصغيرة، وأيضاً القاهرة لم تعد قادرة على تسخير الإمارة قليلاً وفق إرادتها، لكن في الوقت الحالي هناك بوادر حلول حقيقية وتقارب بين قطر والدول العربية من أجل وضع حد لتدخلها غير المحدود في السياسيات الداخلية للعواصم العربية وخاصةً في القاهرةودمشق، ودعمها المالي غير المتناهي للحركات الإسلامية في البلدين. وأوضح د. جمال عبد الجواد أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية، أن قطر تستثمر في كل شيء من الفنادق والأفلام الغربية والمسرح والأدب، وحقول النفط والشركات الضخمة متعددة الجنسيات، ولذلك من الواضح أن السياسة الخارجية لهذه الدولة النفطية لن تتغير لوجود مصالح جمة مشتركة مع العالم الغربي والأوروبي، كما أنها ليست بعيدة عن المفاجآت مثل إطاحة حمد آل ثاني لوالده في هدوء مثير للصدمة داخل القصر عام 1995، بجانب تطور المعلومات في الشرق الأوسط التي نجمت عن إنشاء قناة الجزيرة عام 1996، ولذلك فإن رحيل السلطة من الأب إلى الابن ثم إلى ولي العهد بنفس الطريقة يعد نموذجاً مبتكراً وغريباً للسلوك السياسي المعاصر، وفيما يخص الشأن السوري أكد أن تجميد قطر المؤقت لمساعدتها المالية والعسكرية للجيش السوري الحر بالمال والسلاح كان عاملاً رئيسياً في تراجع نفوذ الجيش السوري الحر وفقدانه للكثير من مواقعه السابقة، وبالطبع تعاظم الأداء العسكري لقوات الرئيس بشار الأسد، كما أن قطر قررت تجميد الدعم لحين صدور قرارات جنيف 2 ومدى ضمان المجتمع الدولي بوضع حل سياسي يلتزم به كافة أطراف النزاع، لا سيما وأنه قد يكون أفضل خيار ليس فقط للسوريين ولكن أيضاً للمنطقة، موضحاً أن قطر كانت على علاقات ممتازة مع بشار الأسد، وفي بداية الأزمة حاول الأمير السابق (حمد) المساعدة في إيجاد حل سريع في البداية، حتى قناة الجزيرة لم تبدأ تغطيتها ضد الأسد، إلا بعد أن فشل مسئولو الدولة النفطية في تحقيق أي تقدم ملموس أو استجابة لمطالب المتظاهرين، خاصةً وأن الأزمة السورية في بدايتها كانت شعبية ولم ترتقِ إلى العمل المسلح، ووقتها وعد الأسد الأمير القطري بأنه سيسمع ما يرضيه أثناء خطابه في البرلمان، ووفقاً للتقارير فإن الأمير السابق أقنع الأسد بأن يكون الخطاب ذو لهجة تصالحية، ويحمل إصلاحات حقيقية والحوار مع المعارضة، لكن قبل ساعتين من موعد الخطاب هناك شيء تغير، حيث تم تأجيل الخطاب لبضع ساعات وبعدها سمع المسئولون في قطر شيئاً مختلفاً، وكان من الواضح أنه لا توجد نوايا للتغيير؛ وأعطيت أوامر لقناة الجزيرة بالوقوف ضد نظام الأسد، والتركيز على الشعب السوري في الشوارع، ومن هنا حدث الشقاق والتباعد بلا عودة. وفي رأي د. جمال سلامة رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة قناة السويس، أنه بعد سقوط جماعة الإخوان المسلمين في مصر، تغيرت أشياء كثيرة في المنطقة، بل هناك شيء غير واضح وقرار خفي لجعل حلفاء الجماعة في المنطقة يدفعون الثمن على رأسهم قطر وتركيا، بعد أن أوصلت القاهرة رسالة للأتراك والقطريين واضحة بأن ما هو آت أسوأ من ذلك، حيث طردت القاهرة السفير التركي وانخفض مستوى التعامل على كافة الأصعدة (دبلوماسي وسياسي وتجاري)، وهناك تهديدات وتحذيرات مصرية للجانب القطري، للعدول عن مواقفها قبل أن تواجه هي الأخرى نفس المصير المتوقع، موضحاً أنه عندما تنحى الأمير السابق لقطر لولي العهد، كانت هناك توقعات بمراجعة السياسات الخارجية للدولة الخليجية الصغيرة، كونها بلداً صغيراً مع الكثير من الإمكانات، ومع ذلك لم تترك قطر خياراً أمام القوى الإقليمية الرئيسية في المنطقة حتى يساعدوها، وبالتالي ليس هناك أفق حقيقي في سوريا، حيث تم اتخاذ قرار بأنها تقف إلى جانب الشعب السوري وسوف تستمر في مساعدتهم، ولكن هل هذه المساعدة كفيلة في تسهيل وضع نهاية سلمية للصراع؟، الجواب بالقطع لا، لأنه طالما تمسكت قطر بعنادها في دعم الحركات الإسلامية فلن يكون هناك مخرج للأزمة، إلا في حال تم الضغط عليها من قبل قوى دولية لوقف إمدادها بالمال والسلاح، وفي حال عدم التزامها يقع عليها عقوبات، لكن قبل ذلك على العالم أن يكون مستعداً للغضب القطري، كونها أحد أهم الدول المنتجة للبترول، وثالث احتياطي عالمي من الغاز. وكشف د. محمد السعيد إدريس رئيس وحدة دراسات الخليج بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أن مسؤولا قطرياً زار لبنان قبل أسابيع، والتقى الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، حيث كان اللقاء الأول من نوعه منذ عامين تقريباً، لكن التقارير تؤكد أن قطر لم تعد ترحب بالحل العسكري في سوريا، ومع ذلك فإنها تظل في موضع الاتهام دوماً كونها ضربت ثورات الربيع العربي بالقوى المتمردة والمتطرفين، حيث أنها بشرت منذ عام 2011 بالحكومات الإسلامية في مصر وتونس وليبيا، وأموالها هي التي ساعدت ومكنت حديثي النعمة السياسية من القوى الإسلامية في جميع أنحاء المنطقة من الصعود إلى السلطة، لافتاً إلى أن المنطقة بأسرها تحمل شعوراً بالغضب تجاه قطر بسبب سياساتها الخارجية، وعليها إعادة النظر في هذه السياسة ومعالجة الأمر على محمل الجد، ومع ذلك فإن قطر أصبحت على الخريطة الاقليمية منذ 1995، عندما استطاعت النفاذ إلى مجموعة من الجهات الفاعلة في المنطقة، فمثلاً استضافت حركة المقاومة الفلسطينية (حماس)، الدبلوماسيين الإيرانيين، كما فتحت أبوابها أمام جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وقادة حركة طالبان، وهو ما كان نوعاً بعيد المدى في الدبلوماسية التي كانت تريدها، لكنها أغضبت كثيراً جيرانها وتحديداً في منطقة الخليج، ومؤخراً استقبلت الثوار أو المتمردين في دول الربيع العربي، وتواصل العمل بشكل وثيق مع واشنطن لاستمرار دعم متمردي سوريا، مؤكداً أن قطر دولة تعرف جيداً فن اصطياد الفرص في منطقة مليئة بالفرص، ففي الوقت الذي تدير مليارات الدولارات من المشاريع الخيرية والتنموية في الداخل والخارج، لم تمهل الجانب السياسي حتى وضعت أوراق اعتمادها كلاعب رئيسي في المنطقة، كما يريد مسؤولوها أن تكون دولتهم ذات كلمة ونفوذ مؤثر في المنطقة ويؤخذ رأيها على محمل الجد. وفي السياق ذاته يرى د. طارق فهمي أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاهرة، أن قطر أيدت الحركات الإسلامية في مصر وتونس وليبيا، لأنها كانت تظن أن لديهم فرصة أفضل لإدارة البلاد، لكنها راهنت على الأشخاص غير المناسبين، ومع ذلك لم تتراجع بل استمرت في عنادها مع شعوب المنطقة، وواصلت دعمها المطلق للحركات الإسلامية والتيارات المناهضة للحكومات، والمتمردين في سوريا، ومليشيات ليبيا، مؤكداً أنه في السياسة الخارجية، إذا كان لديك الكثير من المال، فإنه يعتبر أمراً حيوياً للتأثير على الأحداث الإقليمية، ومع ذلك، فقد كانت استراتيجية قطر حول استخدام الأموال رهان خاسر، كونها خسرت مليارات في شراء أسلحة لجماعات المتمردين الإسلاميين المتشددين في سوريا، وللميلشيات في ليبيا، ومؤخراً اعترضت واشنطن على تواصل الدعم القطري للمعارضة المسلحة في دمشق، كون هذه الأسلحة تقع في نهاية المطاف في أيدي جبهة النصرة الموالية لتنظيم القاعدة، ومع ذلك مازالت قطر تلعب دوراً هاماً من وراء الكواليس داخل سوريا، وتمتلك وحدها حق الفيتو النقدي للتأثير على القرارات، كونها تعتقد أن دعم المتمردين في سوريا واحدة من أكبر الرهانات لتصعيد نظام سياسي موالٍ للدوحة.