فى البدء كان الفقر يعم الجميع شرق الاحمر وغربه، لكن المصريين كان لديهم نهر يفيض ويطمى ضفافا ممتده على جانبيه، ثم ينحسر الفيضان ويبدأ موسم إزدهار مؤقت، حيث تنشط أعمال الزرع والحصاد، بينما ترفع صلوات الاستمطار فى كل أرجاء شبه الجزيرة لينمو بعض الكلأ، التى لم يكن يغنى ولايسمن، إلى أن بدأت بشائره فى الظهور منتصف القرن الماضى ، فكان (الزيت) الذى (خيم) على سطح المنطقة، وتغيرت تضاريس كثيرة وتحولت قبائل (قحطان) من حال إلى حال، من الفقر المدقع الى الثراء الفاحش، ولم تكن هناك مرحلة انتقالية لتهيئة البشر للولوج لمرحلة انفجار الثروة، تلك الحالة الجديدة والغريبة على ثقافتهم وبيئتهم، وعندما نقول جديدة وغريبة فنحن نعنى أناسا يقول التاريخ أن ثقافة الوفرة لم تدخل بيئتهم على الاطلاق، فتلك بوادى جدباء ومناخ وعر وبشر ذوى خصائص تتناسب مع بيئتهم، عاشوا قرونا من الصراعات بين القبائل المتناحرة على الأرض والماء والكلأ ، ولم ترشح أبدا تلك البوادى لأى نهضة، فلم يكن هناك مقومات ولا ظواهر من أى نوع لا على الارض ولا تحت الارض، فلا زرع ولاضرع ولاثروات ولا بشر مؤهلين، لكن اندفاع نوافير النفط فجأه قلب الموازين قلبها راسا على عقب فى السياسة والاقتصاد والاجتماع وحتى فى الدين، وتحولت تلك البؤر المهملة إلى محط أنظار الجميع ودخلت قسرا ضمن خرائط تحالفات كونية بعد أن كانت بقع مهملة لاشأن للعالم بها ولاشأن لها بالعالم ، وزاد الامر احتقانا مع أوائل الخمسينات بعد إنقلاب الضباط فى مصر على الملك فاروق ، وبدء ظهور ملامح التوجهات الليبرالية للضباط الشباب، وتحولهم من (حركة مباركة) إلى (ثورة) وتواكبت فى نفس الوقت مع دعوات عفلق ورفاقه فى الشام، وهم طليعة البعثيين الذين أظهروا العداء مبكرا لتلك الإمارات الدينية التى يتناقض نظامها مع دعواتهم لنظم علمانيه صريحة و(بعث ) جديد للقومية العربية مما أقلق آل سعود وظنوا أنها تعنى مشاركتهم فى الثروة الصاعدة من تحت الارض، وخشى الملك العجوز من تكرار سيناريو الباشا الكبير محمد على، الذى غزاهم وترك لديهم نبتة عداء مستتر تحت السطح منذ قرنين تنمو كلما سقيت بين الحين والحين، وخشى الرجل أيضا على توقف شلال الدولار التى انهمر على خزائنه، كما أقلقت هذه الدعوات مستغلى الآبار البكر التى باتت شريان الحياه للآلة الجباره التى دارت هادرة فى الغرب كله، ولم يعد فى مقدور أحد إيقافها، واتحدت رغبة المنتجين والمستهلكين فى التحالف على المصريين بغرض كسر شوكتهم مبكرا قبل تفاقم الأمور وخروجها عن السيطرة، وعلى الأخص مع تنامى سطوع نجم عبد الناصر. وفى اول اعراض الكبرياء والانفة بعد تبدل الاحوال تم ايقاف طلعات المحمل التى كانت تخرج بكسوة الكعبة الشريفة، ومعها تموين التكايا التى أنشأها محمد على لإعالة فقراء الجوار النبوى وحجاجه وبدأت فصول من التحولات فى العلاقة بين جمهورية (الفول) الفقيرة ومملكة (الزيت) الغنية،وظهرت أول بوادرها عندما ذهب المصريون للعمل لدى (أبناء عمومتهم)، وظنوا أنه يشفع لهم تمسكهم بتاريخ أنسابهم وأسماء قبائلهم العربية وحتى أسماء محلاتهم الجغرافية القديمة فى وديان نجد والحجاز لتأكيد انتمائهم إلى شبه الجزيرة، لكن ما حدث صدمهم عندما سلموهم للكافلين الذين ساموهم انواع العبودية وفضلوا عليهم البشتون والبنغال، ومع تضخم الثروات وتمددها تضخم معها وتمدد شعور تمايز واستعلاء على( آكلى الفول ) قابله المصريون بشعور ازدراء ونظرة فوقية ( للبدو ) استنادا على رصيد حضارى عادوا للتمسح فيه بعد فشل مناورة الانتساب الى (قحطان أو عدنان ) لأسباب اقتصادية بحته ، وبدأت مراحل من العداء المستتر تعلو تارة وتنخفض أخرى،وتتراوح بين معيرة المصريين بأكلتهم الشعبية مرورا بملاهى شارع الهرم حتى انتسابهم لعبدة الاصنام الفراعنة، والأخيرة توغر صدر العرب المصريين أكثر لمضمونها المستتر حيث تعنى تقريرانفصام عرى أى رابطة عرقية قد يلمح إليها مستقبلا،ولا أعرف لماذا يعير المصريين من (أشقائهم) بفقرهم وتبرز هذه المعيرة بصورة حادة فى الازمات، وأذكر أننا كنا فى طبرق الليبية إبان حرب أكتوبر وعندما نشب الخلاف بين السادات والقذافى كان الصغار يهتفون خلف الحافلة التى تحمل أرقام مصرية بما معناه أننا باعة الفول وزراعه وآكليه، وأنا أحب الفول ككثير من المصريين وكنت أشعر بالغضب حيث لا أجد مبررا لتعيير شعب بأكلته المفضلة، واستغرب وأنا فى طريق العودة للقاعدة التى كنا نعسكر فيها حيث قرى من الصفيح الصدئ لأناس صدورهم مهترئة من الدرن فى أكبر وأغنى جمهوريات (الزيت) ، ولا أحد يدرى أين ذهبت مليارات المليارات مدخول الزيت والغاز فى كل ممالك الزيت واماراته وجمهورياته منذ أكثر من نصف قرن ،لكن ربما يمكن الاستدلال على طرق انفاقها من أمثلة عديدة، كشراء جبال الجليد من ايسلندا أو استيراد التربة من هولندا لزراعة القمح فى الربع الخراب والتباهى بتصديره وهويتكلف عشرة أضعاف استيراده علاوة على استنزاف مخزون المياه الشحيح أو تمويل الجيش الجمهورى الايرلندى أو تعويضات لوكيربى، علاوة على مغامرات صدام حسين الحربية ومغامرات القذافى الافريقية بالإضافة بالطبع للبند السرى المقدس الذى لايجرؤ أحد على الإعتراض عليه أو طلب استبيان تفاصيله، وهو ما أنفق (فى سبيل الله) وخصوصا ما تم ضخه فى مصر والسودان والصومال ، وقد بدأت الأخيرة فى جنى ثمار هذا التمويل السخى وتحولت الى مرتع لعصابات ارهابية ولولا قلوب رحيمة تغيث أطفال جوعى عرايا لتحولت الصومال الى أكبر مقبرة مفتوحة فى العالم والثانية انشطر منها جنوبها كدفعة أولى وجارى لاحقا عمليات انشطار أخرى والأولى جادة فى الطريق باصرار وخصوصا بعد استيلاء الملتحين وأنصاف الملتحين على مصير الدولة المصرية وغيرهم كثير الآن فى سوريا ومالى ونيجيريا و و و،هذا هو حال الامم التى تنفجر فيها الثروات بلا عمل كورثة سفهاء، وعدا إمارتان أو ثلاث إستشرفت المستقبل بعد نضوب الخزين، يعيش الباقون ثقافة استهلاك ساذجة يستغلها المنتجون الاذكياء فى الغرب لإمتصاص الفوائض أولا بأول، تارة فى سلاح تأكله رمال الصحراء وأخرى فى أوهام نقل التكنولوجيا وثالثة فى شوارع لندن وباريس حيث بطاقات (الفيزا) تفتح نهر التحويلات على مدار الساعة، والباقى فى خزائن سويسرا (الآمنه) واستثمارات هائلة فى أمريكا وأوربا ونسى الجميع أنه ان عاجلا أو آجلا سيتوقف شلال العملة الخضراء المنهمر وربما قبل أن تتوقف نوافير الزيت لأن البحث الجاد جار عن بديل أرخص وآمن وهو هدف متوقع قبل عقد من الزمن على الأكثر ،ولو كانت هذه الاموال فى ايادى رشيدة لنهضت هذه المنطقة نهضة جبارة لكن هؤلاء سيندمون وسيحاكمون يوما على كل سنت هو ملك الشعوب وليس ملك الحكام ،ولم يكن من باب السذاجة أن يتضافر الاوربيون لمعاونة رومانيا وبلغاريا وبولندا وتأهليهم للالتحاق بأقرانهم فى الاتحاد الاوربى ،لكن السذاجة أن ملوك الزيت وأمراؤه نسوا أن لديهم جار لصيق حرم من هذه المنحة القدرية وهى جمهورية أخرى لكن ليست جمهورية (فول) كمصر لكنها جمهورية ما هو أسوأ من الفول انها جمهورية القات ، نسوا أن يأخذوا بيدها (ومن المؤكد أنهم أبناء عدنان وقحطان ايضا) ونبذوها لفقرها وسيدفعون الثمن غاليا فقد تحول اليمن (السعيد)إلى بؤرة حقد وفقر وبؤس وتطرف ومأوى لكل الراغبين فى الانتقام وتدمير المعبد على رؤوس الجميع ولو تم تأهيل وتنمية اليمن بنصف فى المئة من دخل مجلس التعاون لكان الان عضوا على قدم المساواه بدلا من تركه نهبا للصراع بين القاعدة والحوثيين والامريكيين وسوف يدفع الجميع الثمن، ، أما الارتكان على بناء أسوار وجدران للعزل بين جمهوريات الفقر أو (الفول) وبين ممالك الثروة أو(الزيت ) فهو وهم كبير ولده وهم أكبروهو وهم الغنى المستدام.