أثبت المشهد السياسي في مصر هذه الأيام عن تعرض جماعة الإخوان المسلمين ذات الرصيد التاريخي الضارب في القدم منذ 1928 لحملة انشقاقات واسعة أسفرت عن وجود جماعات متعددة ربما ستعلن استقلالها آجلاً عن المؤسسة الرسمية والشرعية للجماعة . وكانت فكرة الانشقاق قد بدأت مبكراً حينما تقدم المهندس أبو العلا ماضي بطلب في التاسع من يناير عام 1996 إلى لجنة الأحزاب بمجلس الشورى لإنشاء حزب جديد يحمل اسم حزب الوسط ، ولكن محاولته تلك باءت بالفشل . وهذا الخروج غير الشرعي على ثقافة السمع والطاعة قد كسر قاعدة الراديكالية الصارمة داخل الجماعة ، والأغرب أن نائب المرشد العام للجماعة آنذاك مأمون الهضيبي أعلن أن الإخوان لم يطلبوا إنشاء حزب سياسي ، وأن الذين ذهبوا لإنشاء حزب تصرفوا من أنفسهم ، وفي الوقت نفسه أعلن المرشد العام مشهور استياءه العام من تصرف مستقل لا يعبر عن رأي الجماعة ، وأعلن عن هذا صراحة بقوله : " الموضوع باختصار يتلخص في أن بعض شباب الإخوان كانوا قد فهموا خطأ موافقة الجماعة على تأسيس حزب وتصرفوا من تلقاء أنفسهم دون استشارة الجماعة ، وأعدوا برنامجاً وجمعوا توكيلات من خلف القيادة وقدموا الأوراق إلى لجنة شئون الأحزاب ، وكان ذلك بمثابة مفاجأة للإخوان ، فكان القرار ألا شأن لنا بهذا الحزب " . وربما هذا التخلي الإخواني عن الحزب الوليد هو الذي أعطى الضوء الأخضر للمؤسسة السياسية في مصر برفض الحزب ومن ثم اعتقال أعضائه. وبعد أعوام؛ رأينا أن المشهد السياسي الحزبي شهد مولد حزبي الوسط رهين المنع والقمع قديماً ، وحزب الحرية والعدالة صوت جماعة الإخوان المسلمين ؛ وهذا الانشقاق لم يكن وليد الصدفة ، أو له السبق في الخروج وشق عصا الطاعة ، فلقد سبقتها الجماعات الإسلامية تحديداً في عام 1981، حينما تعرضت جماعة الجهاد لأول اشقاق سياسي مبكر في صفوفها حينما أعلن عبود الزمر تنصيب نفسه أميراً لتنظيم الجهاد وكان ذلك عقب اغتيال الرئيس الراحل محمد أنور السادات ، ورفض آنذاك عمر عبد الرحمن ، وأرسل وقتها فتواه الشهيرة بأنه لا يجوز الإمارة لأسير ، فأعقبه عبود الزمر بفتوى مضادة مفادها بأنه لا تجوز إمارة ضرير .. وبمجرد تبادل إطلاق التصريحات والفتاوى تفجرت مجموعة من الانشقاقات داخل الجماعة الإسلامية رغم حدوث ترضية بين الاثنين على أن يتولى عمر عبد الرحمن إمارة الفتوى في حين تولي عبود الزمر إمارة الجناح العسكري ، وظهرت فيما بعد جيوب عديدة للجماعة مثل جماعات الناجون من النار ، والحركيون ، والشوقيون ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجماعة القمري. وبعد أن عانت الجماعات الإسلامية من سياسات مبارك الأمنية التي تمثلت في الاعتقال والتعذيب والمطاردات الأمنية، والقتل أحياناً كثيرة والعزلة السياسية لجأت بعض الأصوات الإسلامية إلى اللجوء القسري لما يسمى بفقه المراجعات ، والتي ارتكزت على مراجعة بعض الآراء الفقهية لتلك الجماعات والخاصة بالجهاد وتبرير العنف المسلح ، وبدت هذه الأصوات أكثر وسطية رغم رفض الجماعة الإسلامية لهذا ، حتى أن بعضهم نال حتفه على أيدي قيادات الجماعة نفسها .. إلا أن هذه المراجعات الفقهية لآراء الجماعات الدينية المتشددة لم تتوقف بل تحولت بشدة نحو السلمية وطرحت خطاباً فقهياً يفسر تحولها عن سياسة العنف . ولاشك أن هذا الانشقاقات الداخلية في التيارات الإسلامية في مصر واكبها انشقاق عالمي لاسيما التناطح السياسي بين المرجعية الدينية في إيران (المرشد العام ) وبين الرئيس ، بالإضافة إلى تردي المشروع الإسلامي في السودان وقيام حسن الترابي بتشكيل ما عرف وقتها بالأممية الإسلامية ، وصعود التيارات الليبرالية القومية ، أدت هذه الإحداثيات إلى غياب حضور النموذج الإسلامي بصورة واضحة . فمعظم التيارات والجماعات الإسلامية التي بزغت منذ الثمانينيات خرجت من عباءة الثورة الخومينية في إيران ، ولكن حدث لغط شديد عند تطبيق المرجعية الإيرانية في بيئات غير مؤهلة لذلك ؛ لاختلاف النموذج الإيراني عن المجتمعات العربية والمصرية تحديداً من جهة أخرى ؛ والمشكلة قد لا تتمثل في النموذج الإيراني الحاكمي إنما في طبيعة التركيب المجتمعي في مصر ، والذي يأبى وجود حاكمية تشترط السمع والطاعة دون مناقشة ، كما أن طبيعة التركيب الاجتماعي الثقافي من شأنه ألا يقبل تطبيق أي فكر سياسي ذي صبغة دينية دون مناقشة أو مراجعة وتفنيد . ان الذي دعم فكرة عدم قبول النموذج الإيراني السياسي ذي التوجه الديني المتشدد أنه لم يقابله وجود نموذج مقارب مصري الصنع ، فرغم أن الجماعات الدينية في مصر تتسم بسمات مميزة عن غيرها من التنظيمات السياسية مثل وجود مرجعية فقهية وقدرتها على التنظيم السري والتحشيد وتوجيه العامة ، إلا أنها افتقدت ملمحاً رئيساً وهو اختفاء نموذج أو مشروع نهضوي يمكن تطبيقه ، وأصبحت الآراء المتعلقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودرء المفاسد والحاكمية وحديث الرقائق وقصص الصحابة هو المشروع الإسلامي النهضوي ، لكنه ليس على غرار مشروع الإمام المجدد محمد عبده . وبمجرد أن انخرطت التيارات الدينية في المشهد السياسي عقب ثورة يناير سرعان ما استدعت تلك التيارات روح النموذج الإسلامي من جديد ولكن هذه المرة من أجل اعتلاء سدة السلطة التشريعية والرقابية وربما التنفيذية بعد ذلك . فبدأ بزوغ مشروع نظري وورقي على حد تعبير المحللين السياسيين ظهر بوضوح أثناء خوض الإسلاميين انتخابات مجلس الشعب الأخيرة والتي نجم عن هذا النموذج النظري توافد الملايين نحو غزوة الصناديق من أجل إعلان الانتصار الإسلامي الذي لا يعرف ضد من . ولكن بمجرد أن وصلت التيارات الإسلامية إلى مقاعد البرلمان وما أعقبها من مقاعد بالنقابات المختلفة أفل من جديد نجم المشروع الإسلامي الذي لم يكن يعتمد على خطة مستدامة يمكن تطبيقها إذا صلحت النوايا . إن مشكلة النموذج الإسلامي المصري الذي بدأ في سبعينيات القرن الماضي هو أسلمة المجتمع ، والقائمين على هذا النموذج لا يزالوا يظنون بأن المجتمع كافر ويحتاج إلى تطهير وتغيير ، رغم أن البلاد منذ تلك الفترة شهدت أكبر حركة تأليف إسلامية ونشط الدعاة بصورة غير مسبوقة ، ويكفي أن نشير إلى ظاهرة الدعاة الجدد الذين تسيدوا المشهد الفضائي ورغم ذلك ادعت ولا تزال تدعي بعض التيارات الدينية أن المجتمع يعيش منذ سنوات في ضلال غير مبالين بظواهر جيدة تفشت في المجتمع كان أبرزها الفضائيات الدينية والسلاسل الدينية التي أصدرتها وزارة الأوقاف ومشروع مكتبة الأسرة وتعدد المجلات والمطبوعات الدينية ، ورغم ذلك يجتهد الإسلاميون في أسلمة الوطن !! لكن أكبر عائق وقف ولا يزال يقف أمام النموذج الإسلامي الاستشرافي هو بدعة الغلو في التكفير ، وهو الأمر الذي دأبت التيارات المتشددة في استخدامه بصورة موحشة ،والمشكلة التي أسهمت في بزوغ هذه البدعة هي أن معظم المنتمين لاسيما قادة هذه التيارات ؛فهموا خطأ ما أشار إليه ابن تيمية في تكفير التتار والجهاد ضدهم ، الأمر الذي دفع الجهاديون في تعميم الفكرة بالمنادة بتكفير المجتمع والمؤسسات الرسمية في البلاد ، بدعوى أن هذه المؤسسات لا تطبق شرع الله ، رغم أن كافة المؤسسات الحكومية بها مساجد خاصة لإقامة فريضة الصلاة ، ناهيك عن الملصقات الدينية المنتشرة بالمكاتب والطرقات بصورة كبيرة . إذن إذا أردنا في اختزال شديد أن نحدد ملامح المشروع الإسلامي الذي كان ينبغي أن يقوم على النهضة والتنوير إلا أنه قام على مرتكزات أخرى ؛ ربما كانت وليدة اللحظة السياسية الراهنة آنذاك فإنها لا تخرج عن مواضعات فقهية ترتبط بفكرة الخروج على الحاكم الفاسد ، والغلو في تكفير المجتمع ، والجهاد ضد أعداء الإسلام ، وتطبيق الحاكمية ، وتغيير المنكر باليد والقوة ، وأخيراً الحسبة بوصفها فرض عين ، لكن هذا المشروع لم يكتب له الاستدامة ؛ لأنه ارتبط بفترة زمنية محددة ، كما ارتبط الخطاب السياسي للأحزاب الدينية بفترة التصويت الانتخابي وبعده اختفى صدى هذا الخطاب ، كما أن المشروع الإسلامي الذي ظهر منذ السبعينيات واستمر أكثر من ثلاثين عاماً لم يخرج عن كونه نموذجاً جهادياً فقط ؛ دون التطرق إلى تأسيس خطاب نهضوي يتسم بالحداثة والجدة والاستمرارية ؛ بل كان مجرد رد فعل لتحولات السلطة السياسية في مصر .