فى رأيى أن أهم إنجاز لثورة الشباب فى مصر هو اكتشاف الحجم الحقيقى لكذبة هائلة عاشها المصريون لأكثر من قرنين من الزمان، كذبة الأمل المراوغ فى اجتياز عنق الزجاجة، كذبة الانطلاق الوشيك إلى المستقبل وهى كذبة رددتها وسوغت وسوقت لها كل الانظمة التى أمسكت برقاب هذه الأمة المنكوبة، كذبة تعلق بها ورددها الجميع بإصرار حتى صدقوها كما تصدق إمرأة حملها الكاذب وتعيش فى الوهم، ولا تنكشف الحقيقة المرة إلا بعد أن ينفجر (العجان) وتنسكب محتوى الارحام مجرد دماء متخثرة لا أثر فيها لحياة، وعدا ما تحقق من إرهاصات وبوادر تقدم ومدنية فى عهد الرجل الالبانى المتفتح الذى سبق عصره منذ أكثر من مائتى عام، نعم عدا تلك الإرهاصات لاشيء على الإطلاق سوى وعود وكذب وتدليس، فقد حلمت مصر أو بالأحرى حملت مصر طوال هذه الحقبة مرات ومرات، وللحقيقة لم تكن كلها حملًا كاذبًا لكن كانت هناك حالات حمل حقيقى تم اجهاضها بفعل فاعل، وكان آخرها فى منتصف القرن الماضى حين خرج علينا الجيش بحركته المباركة وانتظر الجميع مولودا عفيا صحيحا واستبشر الجميع بعصر جديد من العدل والحرية والمساواه، لكن هذا الجنين أجهض عمدا، فما إن ظهرت الكاريزما الطاغية للزعيم الشاب وتلك المبادئ السامية التى بشر بها حتى تكالب وتحالف الجميع عليه بدءا من سكان الجزر البعيدة وحتى سكان أشباه الجزر القريبة مرورا بسكان الخلجان، وتولت إسرائيل المهمة بالوكالة عن الجميع، وأجهض جنين لو قدر له اكتمال أيامه لكان هناك تاريخ مختلف وجغرافيا مختلفة لهذه المنطقة المنكوبة من العالم، وكان الخامس من يونيو يوما حزينا حيث أجهض حلم أمة بأكملها أو (حمل أمة) بأكملها، وأظنها لازالت تنزف من رحمها حتى اليوم وصرنا نؤرخ بما قبل وما بعد هذا اليوم المشئوم. ثم جاء الرجل الدرامى - غريب الاطوار - الذى قذفت به الاقدار إلينا وبشرنا بالثراء والرخاء وفتح علينا كل الابواب وضمنها ابواب جهنم، تلك الابواب التى خرج علينا منها فصائل من القرن السادس ما لبثوا أن عاثوا فى الأرجاء قتلا وإرهابا ثم اغتالوا الحلم وأجهضوه، وسالت دماء وتفسخ وطن وفى ذكرى الاحتفال باليوم الذى صنع فيه السادات ما وصف بأنه نصف انتصار على أعدائه وبينما يتماهى ببزته العسكرية ونياشينه وعصاه وغليونه نال زخات من الرصاص من حلفائه الذين استقوى بهم لإزاحة ما تبقى من فريق سلفه الذى ولاه، اغتاله من فتح لهم أبواب السجون وفتح معها علينا أبواب جهنم والتى مازالت مفتوحة على مصراعيها حتى اليوم. وكما قذف علينا القدر وعبد الناصر بالسادات قذف السادات والقدر علينا بمبارك، وعاشت المحروسة شهور الحلم أو شهور (الحمل) يراودها أمل جديد وانتظرنا وطال انتظارنا ولم نكن ندرى أنه جنين ميت فما كان يجرى فى دماء المشيمة التى تغذيه لم يكن إلا فساد وكذب وتزوير ومؤامرات وعنصرية وتحالفات غير مقدسة مع تيارات من ذات اليمين وذات الشمال، تحالفوا بدستور غير معلن فريق يستولى على الشارع وفريق يستولى على المقدرات، فريق يفرض ثقافات وافدة بالارهاب، وفريق يبتلع الزرع والضرع ويحتكر كل ما يمسك برقاب المصريين من الخبز وحتى المياه، وانهارت مؤسسات وفسدت ضمائر وتوالت كوارث ومحن وفتن وتشظت أمة، وباتت الصراعات هى عنوان كل صباح على صفحات صحف صفراء وحمراء وعلى شاشات بنفس الالوان تكتب وتنطق وتعرض سموم رعاتها ومموليها، وبات المصريون لا يعلمون من يحكم ومن ينفذ الاحكام بعد أن هرم الحاكم وظن أنه عصى على حكم الزمن. وعودة إلى السيدة المجهدة الحزينة وها هى تنظر حولها بحسرة تتطلع إلى أقرانها اللواتى بدأن معها أو ربما بعدها حلم النهضة، نعم حلم النهضة المراوغ الذى انتظرناه طويلا ولازلنا فى انتظاره، فانطلقت إلى الأمام الصين وكوريا واليابان وماليزيا واندونيسيا وجنوب أفريقيا وغيرها أمم كثيرة تخلصت من مخلفات الماضى وقيوده. بينما تجمدت المحروسة أو بالأحرى تقهقرت إلى الخلف عقود وعقود، وها هى بطنها تنتفخ من جديد بعد أن ظن الجميع أنها بلغت سن اليأس والعقم أصابها، وفى هذه المرة انتفض المصريون جميعا وراودهم الأمل فى أن تكتمل أيامها وأيامهم بعد طول انتظار، وكانت الظواهر تنبئ بمولود يؤصل لإعلاء قيم العدل والحرية والمساواه، وثار المصريون ثورة أذهلت الكوكب كله واحتار فى تفسيرها عتاة المفسرين، لكن الحلف القديم الذى كنا نظن أنه اندثر كان هناك خلف الأكمة متنمرا يرصد الظاهرة، وقد اكتشف خطورتها على أنظمتة التى تستمد شرعيتها من بيئة الدكتاتورية واستعباد البشر وتوارثهم بدعاوى تقاوم دوران عجلة التاريخ، دعاوى عفا عليها الزمن ،نعم الحلف القديم وبنفس الاعضاء سكان الجزر البعيدة وسكان أشباه الجزر القريبة ومعهم رأس المثلث المكلف بتنفيذ المهمة الاخيرة فقد اتفق الجميع الآن كما اتفقوا فى الماضى اتفقوا على وأد هذه الثورة، فقد التقت أهدافهم وعلى رأسها الهدف الاسمى وهو أنه لاحرية لهذه الشعوب، وأن بقائها تحت حكم هذه النظم الفاشية هو الضمانة الوحيدة لاستمرار استعبادها إلى الأبد، أما أن تقوم ثورة تحرر رقابهم وأرواحهم فهذا هو الخطر الاعظم،أن تقوم ثورة تفتح كوى فى الجدران المسمطة ليدخل النور إلى أنفاق الظلام التى عاشت فيها هذه الشعوب منذ قرون، عاشت مستعبدة لأنظمة تتوارثها كرعية لاكبشر هذا هو الخطر الاعظم. وعاد الحلف القديم - وبنفس الاعضاء المؤسسين - يخطط لإجهاض الحلم لكن هذه المرة بأسلوب جديد وهو استبدال دكتاتوريات مستبدة مظلمة بأخرى أشد استبدادا وظلامية ، استبدال دكتاتوريات بشرية تدعى الوكالة عن الشعب وتستمد شرعيتها من قوانين وضعية بدكتاتوريات تدعى الوكالة عن الله وتستمد شرعيتها من قوانين منزلة، وهى مؤامرة خبيثة محبوكة بعناية لتتحصن هذه النظم الجديدة خلف خندق ادعاء الوكالة الالهية لتكتسب حصانة أبدية بنصوص تم تأويلها خصيصا لسرقة ثورات وثروات هذه الشعوب، وهكذا تم إقصاء الشباب الذين فجروا الثورة ليس إقصائهم فقط بل محاولة إبادتهم هؤلاء اللذين بذلوا أرواحهم وسالت دماؤهم دفاعا عن قيم سامية إرتعب الحلف القديم عند سماعها، فقيم العدل والمساواة والنبل والحرية هى الخطر الاعظم على أنظمة أشباه الجزر وسكان الخلجان وحليفهم المستتر، وهكذا عاد الحلف القديم بإسلوب جديد ليتم اجهاض حمل جديد أو حلم جديد.