اليوم ، واليوم فقط، نستطيع جميعاً أن نتنفس الصعداء، ان نقلب أولى صفحات الثورة، فلقد صدر أخيرا حكم بالحبس على رئيس مصري سابق مخلوع. لقد أنتظر الملايين هذه اللحظة التاريخية، ماتوا من أجلها، أو هرموا في يأس إنتظارها، أو أستسلموا مرضي وفاءاً لضريبتها. لقد زرع مبارك فيما يزيد عن ثلاثين عاما مرارة وملحا في نسيج الشعب، أفسد هواءه بسموم كذبه وتعاليه، ذلك القادم بصدفة مقادير حادثة "المنصة"، المتنطع على هدأة شعب قاتل وهُزم وأنتصر لنحو نصف قرن، ثم جنى في عصره صباراً وعلقماً، فيما أحط الناس، أنصاف مواهب التزلف من لصوص الهمس والنميمة يتنطعون، يكنزون الملح والعظم وتحلل الجثث مليارات، يحقنون ماء البشر والزرع والحيوان بأحقر أمصال الفساد المجتمعي، مصيبين جسداً بهياً بالعطب، محولين شعبا إلى قطيع من منتحري ضفاف المتوسط، أو على أقل تقدير إلى طابور من شحاذي الطرقات. فساد نظام مبارك، بل فساد مبارك ملحقاً به نظامه، هو فساد أنصاف المواهب من موظفي التكنوقراط. فساد لايخلو من إدعاء الخير، لم يذهب بنا مبارك مضطرا إلى حروب، ولم يرفع صوتا خارج عقلانيته المزعومة، لكنه كان السلم العفن المستسلم لتفاصيل الإنفراد بوطن، وعقلانية الضعيف الشكلانية الهزلية. بدت مصر في عصره، مصر المستسلمة لإرادة إعادة تعريف الهوية إلى الداخل، المتخلية طوعا أو كرها عن ريادة هزمت، وأقرب لجلباب متسع يحاول جسد صغير إحتواءه، فما كان منه إلا سلخ وإقتطاع زيادات الأطوال والسعة، لم يحاول حتى أن يكبر داخله، لم يخلق في ثلاثين عاما إلا سماسرة أختفوا من ميادين دعمه خلال الثورة، بعض البلطجية ورجال الأعمال ورجال الأمن الجديرين بدائرة صاحب محل بالغورية، لا برئيس دولة حكمها ثلاثين عاما. كان رئيساً بأيديولوجيا الفراغ والتصحر، بعقيدة التجنب والإنزواء، بفلسفة إنحطاط الإمبراطوريات من دون أي قدرة على بلورة أسباب لهذا الإنحطاط. مبارك وولداه ، في اليوم الثاني بعد الشهر الثاني من "تخليه" مكرها عن الحكم ، يصل إلى ساحة المحاكمة. ولو قُدّر لهذه الثورة أن تنهزم غدا مقابل صورة لهذا الثلاثي في كلابشات عربة ترحيلهم إلى سجن مزرعة طرة لنام القتلي مطمئنين فرحين، ولتقبلت عزاءا تكريما متاخرا في ابي، وفي قتلاه من بسطاء عبارة "السلام"، وفي صرخات مرضى السرطان الممنهج الصاعدة من مستشفيات الحكومة، وفي ألف تفصيل لموت الشجر في الشوارع. اليوم يصلح حرق النفايات، إلىوم لابد من الألوان، جل الألوان خارج الرمادي الكالح المتسخ والأصفر المتبقع، اليوم للغناء قيمة، وللموسيقي بهجتها، وللإبتسامة غير المنكسرة منطقها، لقد سجن مبارك وولديه. عشت ثلاثين عاما من أصل عمري البالغ سبعة وثلاثين وأنا مقتنع ان من يحكمني قزم ممسوخ، أشاهد وضع إبهامه وسبابته حول ذقنه الغليظة أعلى سبورة الفصل، وأخال أن ما تحت الصورة، فيما لايدركه الكادر مجرد عصا خشبية لخيال مآتة، أتابع صبغة الشعر وهي تتلون من الأسود إلى الأحمر إلى البني، بلا شعرة واحدة بيضاء في عز ثمانينات عمره، وكان كل يوم في زمنه يمتص بأنابيب غير مرئية دماء وعصارة جهد وإفرازات أجساد 80 مليون لصالح صبغة الشعر، ثم ي الها من رتابة صوت يتفنن كاتبوا خطاباته، في توزيع الكلمات على جمل صغيرة، وحتى في خطابه الأخير، الجملة لا تزيد عن اربع كلمات، ما يزيد عنها قد يحشرج مهابته الكاذبة، ثم أنه لو ترك الورقة المكتوبة والتي لا تقول بلاغتها شيئا، حين يتحدث بسيطا خارج نصه الخاشع، يقفز القزم الممسوخ، الساخر على موديل فكاهيي السبعينيات، ذلك النوع من الفكاهة المميتة التي تستجلب من جمهور إفتراضي الضحك حتي يخرج حمادة سلطان من فاصل المسرح ويبدأ الغناء. الرئيس مبارك كان حمادة "سلطان" زمنه، الواثق أن الجمهور يعرف كل نكته، فينفعل مقلدا جمهوره مصرا على إلقائها وإبتزاز الضحك من نسبة طفيفة من جهلاء العرض. الرئيس مبارك كما يراه محبوه ، ومنهم رئيس تحرير مجلة حكومية عملت بها منذ سنوات، كان رجلا بمواصفات خاصة، رئيس التحرير ذاك، الذي يجلس كرئيسه المفضل تحت صور التابعي ومصطفى أمين وهيكل، كان يرتدي حذاءً بلاستيكيا في حركته داخل المكتب، وعند ساعات السهر على العدد الإسبوعي كان يتمدد على أريكة مريحة ليحكي مذكراته مع الرئيس، حين كان مراسلا لرئاسة الجمهورية منذ منتصف الثمانينيات. بدأ رئيس التحرير حياته محرراً بوزارة الكهرباء، وظل وفياً لتاريخه مع المقابس والإضاءات في صورة جولة إسبوعية على مكاتب محرريه للتأكد من مستوي الإضاءة وعمل الوصلات الكهربائية، كان مفتونا بإحداهن، يجلس مدلهما أمام وجهها المكتظ غير مركز في أي خبر، ثم يمصّ جانب شفته السفلي هائجا علىها في حضرة أصغر عامل بوفيه، مستمرءا علاقة تهيجية بمحررة مطلقة ومحجبة أسلمها ملف رئاسة الجمهورية فدمرت حياتنا المهنية من خلف جلساتها معه التي كانت تضاء لها لمبة حمراء في مكتب السكرتارية، ل ايعني هذا لاسمح الله اي علاقة حقيقية، مجرد تسخين عذري لمدلهم عجوز لا يقوي على فعل أكثر من إضاءة اللمبة الحمراء لإشاعة الإشاعة عنه. يحكي رئيس التحرير ثلاث حكايات أو مشاهد في علاقته مع رئيسه الذي يعشقه، الأولى عام 1984، حين كان يصحو مبكرا ليذهب مع زملائه من محرري الرئاسة ينتظرون صحو الرئيس في صالة فيلته التي كانت في مجمع قصور العروبة، يجلس محرر الرئاسة ضاما رجليه ويديه على الركبة، الفيلا بها بعض مهندسي الديكور الذين يصممون دهانات وإضاءات جديدة، ينزل الرئيس "بالروب ديشامب" وهو يلف ذراعه حول ابنه المراهق قائلا: بصّوا بقى، وقبل ما الناس تشتغل، قول للمهندس أنت عايز إيه، عشان الناس تخلص شغل فتجبلي بوستر ولا صورة وتدق الحيطة مسامير، مش ناقصك أنت واخوك، حتبوظوا الحيطة، حددّوا دلوقتي عشان مش عايز صداع بعد كدة وأخرام ونيلة". لا أستطيع بالطبع تقليد رئيس التحرير لصوت الرئيس منفلتاً في حالته العائلية، يقلده مستخرجاً من أنفه اصوات الشخر والنهر العسكري الجديرة بصاحب محل كشري، هكذا كانت تكرس عادية الرئيس مبارك أسطورته، كعادية رئيس التحرير ذاته وطبيعته الرثة، ينقلب رئيس التحرير على قفاه متخيلا أن مايحكيه يجلب التعاطف. "التعاطف" كم هي كلمة مبتذلة في هذا السياق. يحكي عنه وكأنه يستمد منه إحساس المسؤلية والعب. لقد ذلّنا مبارك طوال عصره بكلمة أعباء، بتفضل المتواضع الذي سقطت على حجره مهمة إنقاذنا، إنقاذنا من طموحنا المنفلت بأن نكون افضل، إنقاذنا من سيئات تخيل الأفضل. لقد حول تاريخ مصر السياسي إلى مذلة لشعبه، فناصر كان ممثلا للزعامة حين أدعي التنحي، والسادات كان ديكتاتورا من النوع الديناصوري، وأما مبارك، فهو اقصى ما تتخيلونه عن أنفسكم المهزومة. يحكي رئيس التحرير كيف أن إستدعاءهم لجولاته المفاجئة المرتبة للمحافظات كانت توقظهم على حساب الساعة البيولوجية لرجل رياضي، عربة الحرس الجمهوري كانت تأخذ الصحافي الشاب المتناوم في الرابعة فجراً، يملؤنهم كأجولة إكسسوار المشهد السينمائي في مؤخرة طائرة حربية تنزل محافظة المنيا مثلا، الطرق المحدد للموكب هي في قرية سيسير فيها الرئيس في مقدمة الصفوف، خلفه اربعة من كبار حرسه ثم صف يضم يوسف وإلى وزير الزراعة ورئيس الوزراء ووزراء السيادة ثم ثلاثة صفوف من مراسلي الصحف ورؤساء التحرير. يسير الرئيس كخفير في مقدمة السرب واضعا يديه المتكاتفين خلف ظهره مادا بوزه أسفل نظارته "الريبان" وكانه يتشمم فرائسه، ثم بقفزة واحدة يخرج عن مساره. يعبر مجرى جدول ماء على يمين الطريق داخلا حقلاً ريفياً، تندلق خلفه الصفوف وفقا لقدرة كل شخص على عبور الحاجز المائي ذي المتر عرضا، يسقط من يسقط في الوحل، فيما أنف غفير الخواء مستمرة في التوغل خارج الخطة، يصل باب كوخ ريفي بسيط فيما المهرولون خلفه يعيدون ترتيب الصفوف وهندمة ما تلف من ملابس، يدق على الباب، يفتح فلاح عجوز الباب: صباح الخير ياحاج يا اهلا وسهلاً عليا الطلاق أنا عارف أنك جاي، وقاعد مستنيك ممكن نشرب معاك كوباية شاي قبل الشاي والسلامات إمضيلي على الورقة دي(مخرجا عقدا مطويا من سيالة جلبابه) ورقة إيه يا راجل إحنا ضيوفك أنا اخدو ارضي عشان يعملوا المصرف يا يوسف يا وإلى لا يوسف وإلى بلا خرا ...أنت اللي حتمضي يا حاج أنا حسني مبارك وحنعملك اللي عايزه. يا حضرة المحافظ ماانا عرفك، لامحافظ بلا خرا ...حتمضي أنت ع الورقة، حتمشي أنت من هنا، ودوريني يالامونة عند والي والمحافظ والزفت، إمضي وانا ادخلكوا كلكم، تشربوا شاي ونوجب معاكم. في زيارة أخري لسوهاج، الرئيس المشاء، المحب للفكاهة ومسخرة من حوله، كان يسير في أحد المشاريع بينما رئيس تحريرنا شبه منوم، يغمض عينيه وقد أسلم قدمه للإيقاع المحفوظ للحاشية أمامه، وفجأة إنفتحت الصفوف أمامه وهو مغمض العينين، في ثلاث ثواني أمسك الجميع أنفسهم من الضحك على الصحافي السائر نائما فيما الرئيس يأمرهم بالصمت وتوسعة الطريق له، ثم قبض الرئيس بيده الثقيلة(التي يحكي عنها الصحفي أساطير) على ياقة الصحافي النائم، جره إلى أقرب حائط كقبضاي فيما الجميع مبتسم لمشاهدة الفقرة، الصحافي يضع عينه على الأرض فيما الرئيس يمسكه من ثنية كرشه بقبضة قوية ويده الأخرى مكومة كلاكم، لا يرفع الصحافي وجهه عن الأرض ويضع يده على جانبيه، فيما لا شيء خلفه. الجدار والألم الفظيع من كلبشة الأصابع التي تشبه أصابع العاملين في تسوية الباطون أو خبازي الأفران البلدية، وقد غرزت في شحم البطن المترهل، يرفع ذقن الصحافي المطأطئ ويسأله: انت مانمتش ...رد أنا ماشي ورايا نايم ....دا اللي علمهولك في الصحافة ...رد يافندم أنا ...أنا (وهو يدفع ذقنه فيما الضحية مصممة على عدم مواجهة عين الرئيس) أنت إيه يا شماع....هه...هه ...أنت إيه؟ رد أنا ...أنا آسف ياريس انت بتكتب بإيدك اليمين ولا الشمال؟ هه(يبدا الجمع في الضحك) رد بكتب باليمين طب إرفعها... (ويزيد من غرز اصابعه في لحم الكرش) بتكتب من إلىمين للشمال ولا من الشمال لليمين ...هه...رد (يرتفع الضحك) من الشمال لليمين ...قصدي من اليمين للشمال يافندم (يرخي يده بعد أن أحمر وجه الضحية) إصحي ياشماع ...إصحي يا حبيبي اللي يشتغل معايا يصحي بدري وينام بدري فاهم فاهم يافندم يقسم الصحافي أنه تبوّل بين ساقيه، وقضي بقية الرحلة مفنجلا عينه أمام ضحكات زملاءه عند المفارق، يقسم أنه يحب الرئيس لهذا الحسم، لهذه القوة في اليد المبطرشة، ويصعد درجات مهنية بفضل إخلاصه لمقاس صورة الرئيس لاينقص مليمترا في إفتتاحيته الإسبوعية وغلاف مجلته الباهتة اللون والرائحة. لا يختلف صوت الرئيس المكتئب الوقور في خطاب للعربية أنملة عن هذا التصور للذات، فبعد ثلاثين عاما لا يصدق رئيس الأسطورة العادية، الذي يحكم بلده بمنطق الموظف المستيقظ مبكرا، الموظف المصرّ على ديباجات الرثاثة اللغوية، والذي يخاطب شعبه ب" ايها الأخوة المواطنون" والتي لا ينقصها إلا "التافهون، المتلكئن ، الذين لايفهمون المرحلة، ومنعطافتها الشهيرة، وتحدياتها الجبارة" ، لا يفهمون أنني "خدمت" أرض هذا الوطن زرعاً بمياه المجارير، حرثاً لتربته بالفئران، تسميما لأهله بالكيماويات المسرطنة، تعفينا لناسه بالرشوة والفهلوة، كيف لا تفهمون ؟.... من أنتم... من أنتم....آه... آه... قلبي ....الأزمة القلبية ...خلصتوا عليا يا ناكرين النعمة....والله المستعان. بعد ثلاثين عاما من النكتة، من إدمان المصريين لصورهم المتأقزمة عن الذات، ان رياح الملل من الإعتياد فأسقطت خشبة خيال مآتة، ويكفي عدد المليارات المنهوبة من رجاله، ومشاهد البؤس على وجوه الناس دليلا على لا عادية حكمه، وأن مجمل تشوهاته سيحتاج لأكثر مما كلف صدام شعبه. فقد اصابنا بالخواء التافه، وعلينا للأسف ان نملأ ماتركه من نقطة ما دون الصفر. ---- عن المستقبل اللبنانية