رئيس جامعة الأزهر يستقبل وفد اتحاد الجامعات الإفريقية ويشيد بدعم الإمام الأكبر لدول القارة    ما هي الضوابط الأساسية لتحويلات الطلاب بين المدارس؟    البورصة المصرية، ارتفاع مؤشر الذهب في ختام تعاملات اليوم الخميس    الأمن يغلق طريقا يوصل لمنزل نتنياهو بسبب المظاهرات    المصري يحسم ديربي القناة ويفوز على الإسماعيلي 0/1 في الدوري الممتاز    موعد إعلان نتيجة الثانوية العامة 2024، خطوات الاستعلام عنها إلكترونيًا عبر موقع التربية والتعليم    إصابة 5 أشخاص فى حادث تصادم سيارة ميكروباص بعمود إنارة ببنى سويف    إنجي علي تستضيف جاد شويري في "أسرار النجوم"    وكيل صحة الدقهلية يتفقد مستشفى نبروه المركزي (صور)    محمد مهنا: «4 أمور أعظم من الذنب» (فيديو)    أفضل دعاء السنة الهجرية الجديدة 1446 مكتوب    محافظ شمال سيناء: 30 يونيو انتفاضة شعب ضد فئة ضالة اختطفت الوطن    منظمة حقوقية: استخدام الاحتلال الكلاب للاعتداء على الفلسطينيين أمر ممنهج    عبدالمنعم سعيد: مصر لديها خبرة كبيرة في التفاوض السياسي    قائد القوات الجوية الإسرائيلية: سنقضى على حماس قريبا ومستعدون لحزب الله    كريم عبد العزيز يعلن موعد عرض الجزء الثالث لفيلم "الفيل الأزرق"    لطيفة تطرح ثالث كليباتها «بتقول جرحتك».. «مفيش ممنوع» يتصدر التريند    يورو 2024.. توريس ينافس ديباى على أفضل هدف بالجولة الثالثة من المجموعات    أيمن غنيم: سيناء شهدت ملحمتي التطهير والتطوير في عهد الرئيس السيسي    انطلاق مباراة الإسماعيلي والمصري في الدوري    فيروس زيكا.. خطر يهدد الهند في صيف 2024 وينتقل إلى البشر عن طريق الاختلاط    «الرعاية الصحية» تعلن حصاد إنجازاتها بعد مرور 5 أعوام من انطلاق منظومة التأمين الصحي الشامل    أيمن الجميل: تطوير الصناعات الزراعية المتكاملة يشهد نموا متصاعدا خلال السنوات الأخيرة ويحقق طفرة فى الصادرات المصرية    «رحلة التميز النسائى»    مستشار الأمن القومى لنائبة الرئيس الأمريكى يؤكد أهمية وقف إطلاق النار فى غزة    محافظ أسوان يلتقي رئيس هيئة تنمية الصعيد.. تفاصيل    مع ارتفاع درجات الحرارة.. «الصحة» تكشف أعراض الإجهاد الحراري    ميلان يخطط لإبرام صفقة تبادلية مع ريال مدريد    بائع يطعن صديقة بالغربية بسبب خلافات على بيع الملابس    هند صبري تشارك جمهورها بمشروعها الجديد "فرصة ثانية"    وزيرة التخطيط: حوكمة القطاع الطبي في مصر أداة لرفع كفاءة المنظومة الصحية    لتكرار تجربة أبوعلى.. اتجاه في الأهلي للبحث عن المواهب الفلسطينية    شوبير يكشف شكل الدوري الجديد بعد أزمة الزمالك    مواجهات عربية وصدام سعودى.. الاتحاد الآسيوى يكشف عن قرعة التصفيات المؤهلة لمونديال 2026    حمى النيل تتفشى في إسرائيل.. 48 إصابة في نصف يوم    شيخ الأزهر يستقبل السفير التركي لبحث زيادة عدد الطلاب الأتراك الدارسين في الأزهر    محافظ المنيا: تشكيل لجنة للإشراف على توزيع الأسمدة الزراعية لضمان وصولها لمستحقيها    "قوة الأوطان".. "الأوقاف" تعلن نص خطبة الجمعة المقبلة    بالصور.. محافظ القليوبية يجرى جولة تفقدية في بنها    إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم بالطريق الإقليمي بالمنوفية    جهاز تنمية المشروعات يضخ تمويلات بقيمة 51.2 مليار جنيه خلال 10 سنوات    انفراجة في أزمة صافيناز كاظم مع الأهرام، نقيب الصحفيين يتدخل ورئيس مجلس الإدارة يعد بالحل    21 مليون جنيه حجم الإتجار فى العملة خلال 24 ساعة    تفاصيل إصابة الإعلامي محمد شبانة على الهواء ونقله فورا للمستشفى    تفاصيل إطلاق "حياة كريمة" أكبر حملة لترشيد الطاقة ودعم البيئة    أمين الفتوى: المبالغة في المهور تصعيب للحلال وتسهيل للحرام    ضبط 103 مخالفات فى المخابز والأسواق خلال حملة تموينية بالدقهلية    أماكن صرف معاشات شهر يوليو 2024.. انفوجراف    بكاء نجم الأهلي في مران الفريق بسبب كولر.. ننشر التفاصيل    موسى أبو مرزوق: لن نقبل بقوات إسرائيلية في غزة    حظك اليوم| برج العذراء الخميس 27 يونيو.. «يوما ممتازا للكتابة والتفاعلات الإجتماعية»    حظك اليوم| برج السرطان الخميس 27 يونيو.. «يوم مثالي لأهداف جديدة»    الكشف على 1230 مواطنا في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    هل يوجد شبهة ربا فى شراء شقق الإسكان الاجتماعي؟ أمين الفتوى يجيب    شل حركة المطارات.. كوريا الشمالية تمطر جارتها الجنوبية ب«القمامة»    10 يوليو موعد نهاية الحق فى كوبون «إى فاينانس» للاستثمارات المالية    انقطاع الكهرباء عرض مستمر.. ومواطنون: «الأجهزة باظت»    بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم.. والأرصاد الجوية تكشف موعد انتهاء الموجة الحارة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"خلف أبواب مغلقة" لسارتر: من يحاكم من؟
نشر في صوت البلد يوم 21 - 03 - 2020

ما هي الفكرة الأولى التي قد تخطر في بال المرء وهو يتجوّل، ولو خرقًا للقانون، في شارع أي واحدة من مدن العالم الكثيرة التي تفرض الآن نوعًا من حظر تجوال على المواطنين بسبب الخوف من فيروس كورونا؟ ربما واحدة من عبارات جان – بول سارتر الكثيرة التي يتبين بين الحين والآخر كم كانت على صواب. وتحديدًا العبارة التي ترتكز إليها مسرحيته الشهيرة "خلف أبواب مغلقة": "الجحيم هو الآخرون".
ونعرف أن كثرًا قد اعتادوا استخدام هذا القول، حتى دون أن يعرفوا أحيانا لمن هو وغالبًا دون أن يعرفوا من أين هو مستقى حتى ولو تذكروا أنه لسارتر. والحقيقة أن سارتر لا يستخدم هذه العبارة في تلك المسرحية - التي قُدّمت للمرة الأولى على خشبة "فيو كولومبييه" الباريسية، في زمن كانت فيه فرنسا واقعة تحت الاحتلال النازي في العام 1944-، على سبيل الكناية أو الموعظة. بل بالمعنى الحرفي للكلمة، كما سنرى بعد سطور، ولكن بعد أن نتوقف عند سياق استعادة التعبير اليوم.
فالحال أن من يسير في الشوارع في أيامنا هذه، سيلحظ أول ما يلاحظ نظرة المارة، القلائل بالطبع، إلى بعضهم البعض: نظرة خوف وتوجّس. كل واحد يرعبه الإحساس بأن أي واحد من الآخرين قد يكون حاملًا الفيروس، وأنه لو فتح فمه حين يدنو منه لنقل إليه العدوى القاتلة فورًا. هلع جماعي وبارانويا باتت متأصلة. الآخر هو العقاب الآن. فإنسان الأزمنة الحديثة، بعدما "جرّب" في الفنون والآداب ومن ثمّ في حياته اليومية كلّ صنوف الأعداء والغزاة والحيوانات والمخلوقات المافوق حيوانية والكوارث الطبيعية وصولًا إلى إيقاظ الموتى من سباتهم.. إلخ، ها هو يعود اليوم إلى شبيهه، قرينه، وربما أقربائه وأهله ليرى فيهم صورة الجحيم. وكان هذا بالتحديد ما عبّر عنه سارتر في تلك المسرحية التي تكاد تترحم لحسابها عبارة توماس هوبز الشهيرة "الإنسان ذئب بالنسبة إلى أخيه الإنسان".
الآخرون في حياتنا وبعد موتنا
في المسرحية السارترية لدينا مكان مغلق سرعان ما سيتبيّن لنا أنه الجحيم بالتحديد، وبتحديد أكثر مقر المحاكمة التي تُجرى للمساقين إلى تلك الحياة الآخرة لمحابتهم على ما اقترفوه. ومنذ اللحظة التي يدخل فيها غارسان، أول المحاكَمين الثلاثة، ستكون ملاحظته الأولى أن ما من أدوات تعذيب هناك وما من جلادين. حيّز خال حتى من أي شخص آخر. بعد مبارحة الفتى الذي أوصله إلى المكان يبقى غارسان وحيدًا متأملًا في حيرة. لا يقلقه هنا كونه قد مات منذ حين وحلّت آخرته بقدر ما يقلقه اختلاف صورة هذا "الجحيم" عن كل ما كان قد تصوّره في الماضي. بعد ذلك وهو في غمرة تساؤلاته تدخل المحاكَمة الثانية إيريس مرتبكة تتساءل عن صديقتها فلورانس فيجيبها غارسان بأنه لا يعرفها ولم يرها... ثم يدخل الاثنان في حديث مرتبك ومتشعّب حول محاكمتهما المفترضة. وفيما هما عل تلك الحال تدخل المكان امرأة أخرى هي إستيل الميتة حديثًا بدورها والتي هي هنا، كالآخرَيْن لتحاكم. وهكذا يكتمل عقد الحضور ليحاول كل منهم مجابهة ما حدث له: كيف مات ولماذا؟ ولكن بشكل أخص: ما هو الذنب الذي يستحق الجحيم بسببه؟ ثم ما هو العقاب الذي سيكون من نصيبه؟ وما هي السلطة التي ستحاكمه. وهكذا، بالتدريج ينكشف كل شيء: كل واحد من الثلاثة أذنب دون أن يعرف أن ما يقترفه ذنب. وكل من الثلاثة سيدفع الآن ثمن ذلك الذنب... عقابًا أبديًّا، يتلو محاكمة عادلة. ولكن من الذي يحاكم وما هو العقاب؟
ببساطة: كل واحد من الثلاثة هو القاضي الذي يحاكم الآخريْن والذي سيصدر عليهما الحكم الأبدي المبرم؟ فما هو هذا الحكم؟ ببساطة أيضًا هو حضور كل واحد من هؤلاء الثلاثة في "حياة" الآخريْن إلى أبد الآبدين. ذلكم هو الجحيم الموعود لكل مذنب. "الآخرون هم الجحيم" تزعق المسرحية في وجهنا. وهو، على ما يبدو، الزعيق نفسه الذي قد يكون على كل منا أن يتحمله اليوم وقد بات "كل إنسان ذئبًا بالنسبة إلى أخيه الإنسان". ويقينًا أن سارتر حين عنى هذا بمسرحيته المبكرة تلك، لم يكن لا مازحًا ولا معبّرًا عن نفور ما من البشر، وإنما كان راصدًا لواقع كان في زمنه يدعو كل واحد للتحسب تجاه الآخرين الذين قد يكون الخونة والوشاة المناصرون للنازي المحتل بينهم، واليوم ها هو الاحتمال ينقلب ليصبح حملًا للفيروس... في نفس السيرورة التي يتجابه فيها كل واحد مع الآخرين!
فلسفة ومسرح وسوء تفاهم
ونعرف أن جان بول سارتر الذي ولد في 1905 ظل طوال هذا القرن حيًّا في الحياة الثقافية الفرنسية، وظل الاسم الذي يقفز إلى الذهن أول ما يجري الحديث عن ثقافة فرنسية: كان روائيًّا وكاتبًا مسرحيًّا وناقدًا ومنظّرًا في الأدب والنقد، لكنه كان قبل ذلك فيلسوفًا، عرّف فرنسا على الفلسفة الألمانية، وحاول المزاوجة بين الماركسية والوجودية، وربط نفسه أولاً وأخيرًا بمفاهيم مثل "التقدم" و"الحداثة" و"الحرية" و"الالتزام"، وآمن بالعديد من القضايا العادلة انطلاقًا من إيمانه بالحرية والتقدم، ووقف ضد حرب الجزائر مطالبًا بمنح الجزائر استقلالها، كما وقف إلى جانب حركات الشبيبة ونزل إلى الشارع متظاهرًا حينًا، وبائعًا للصحف التقدمية حينًا آخر. ونزوله هذا جره أكثر من مرة إلى أقسام الشرطة، وهو الذي لم يجرؤ حتى النازيون على اعتقاله حين كانت مسرحياته المعادية لهم (مثل "الذباب") تقدم على رغم أنفهم على المسارح الفرنسية خلال الاحتلال، فأسروه لفترة كجندي لكنهم لم يمسوه ككاتب.
هذه الحيوية السارترية كلها تجلت في كتب فلسفية مثل "الوجود والعدم"و"تعالي الأنا"و"الوجودية مذهب انساني"و"نقد العقل الجدلي"، وهي كتبه الفلسفية الأساسية. بيد أن سارتر لم يكتف بتوضيح فكره الفلسفي في كتبه "التقنية"الفلسفية الخالصة، بل عبّر عنه في نصوصه الإبداعية الكثيرة التي ليس من الظلم لها ولسارتر أن نقول أن الإبداع فيها إنما استخدم من قبل سارتر للتعبير عن قضايا فكرية وإنسانية. وهو ما أنكر هذا، أبدًا، على أي حال، بل كان التوكيد عليه محور صراعه الفكري مع البير كامو. كما كانت من أبرز روايات سارتر "الغثيان"وهي واحدة من أولى رواياته كتبها تحت تأثير فكر هوسرل الفينومينولوجي/ الوجودي. أما من بين مسرحياته، فيمكن التوقف طويلاً عند نصوص نشرت ومثلت مرات عدة على خشبات المسارح ويمكن لدراستها دراسة متأنية اليوم أن تكشف كم أن سارتر استخدم المسرح (مكان الحوار المثالي، ومكان المجابهة المباشرة واليومية مع الجمهور) للتعبير عن أفكاره ومصادر قلقه. ويتجلى هذا خاصة كما رأينا في "خلف أبواب مغلقة" وفي "موتى بلا قبور"(1946) التي تعالج مسألة السلطة ولجوئها إلى التعذيب، كما في "المومس الفاضلة"التي تعالج قضية العنصرية، وفي "الأيدي القذرة"التي تتحدث عن إمكانية غوص المرء في السياسة من دون أن يلوث يديه، كما في "الشيطان والإله الطيب"التي يعبر فيها سارتر عن مشكلة الحرية من وجهة فلسفية بحتة، وفي "الذباب"وغيرها. ومن الكتب المهمة الأخرى التي يمكن ذكرها اليوم في مجال الحديث عن سارتر كتابه المبكر عن جان جينيه، ورباعية "دروب الحرية"وسلسلة "مواقف"و"الحرب الغريبة"وغيرها.
بيد أن بين أهم ما يبقى من سارتر شخصيته نفسها. هو الذي لم يكفّ لحظة عن التأمل والعمل، والتغلب والبحث عن الحرية، ومواكبة الجديد كما مواكبة الباحثين عن الجديد، مسخراً وقته وفكره، وخاصة مجلته الشهرية الشهيرة "الأزمنة الحديثة" للنضال في سبيل الحرية والقدم، وأحياناً لتبرير تقلّباته. ولكن غالبا لطرح القضايا الشائكة والتي تبرز من بينها قضية كثيرا ما شغلت بال سارتر وهي علاقتنا بالآخرين، تلك العلاقة التي قد تكون "خلف أبواب مغلقة" خير تعبير عنها، حتى وإن كان كاتبنا سينتقد دائما الطريقة التي تم بها تلقي المسرحية، على الخشبة أو في كتاب: ففي حين كتبها هو على شكل مزحة تلقاها الناس بصورة مغرقة في الجدية ما أدهشه وحيّره حيرة غارسان في الصفحات الأولى منها!
ما هي الفكرة الأولى التي قد تخطر في بال المرء وهو يتجوّل، ولو خرقًا للقانون، في شارع أي واحدة من مدن العالم الكثيرة التي تفرض الآن نوعًا من حظر تجوال على المواطنين بسبب الخوف من فيروس كورونا؟ ربما واحدة من عبارات جان – بول سارتر الكثيرة التي يتبين بين الحين والآخر كم كانت على صواب. وتحديدًا العبارة التي ترتكز إليها مسرحيته الشهيرة "خلف أبواب مغلقة": "الجحيم هو الآخرون".
ونعرف أن كثرًا قد اعتادوا استخدام هذا القول، حتى دون أن يعرفوا أحيانا لمن هو وغالبًا دون أن يعرفوا من أين هو مستقى حتى ولو تذكروا أنه لسارتر. والحقيقة أن سارتر لا يستخدم هذه العبارة في تلك المسرحية - التي قُدّمت للمرة الأولى على خشبة "فيو كولومبييه" الباريسية، في زمن كانت فيه فرنسا واقعة تحت الاحتلال النازي في العام 1944-، على سبيل الكناية أو الموعظة. بل بالمعنى الحرفي للكلمة، كما سنرى بعد سطور، ولكن بعد أن نتوقف عند سياق استعادة التعبير اليوم.
فالحال أن من يسير في الشوارع في أيامنا هذه، سيلحظ أول ما يلاحظ نظرة المارة، القلائل بالطبع، إلى بعضهم البعض: نظرة خوف وتوجّس. كل واحد يرعبه الإحساس بأن أي واحد من الآخرين قد يكون حاملًا الفيروس، وأنه لو فتح فمه حين يدنو منه لنقل إليه العدوى القاتلة فورًا. هلع جماعي وبارانويا باتت متأصلة. الآخر هو العقاب الآن. فإنسان الأزمنة الحديثة، بعدما "جرّب" في الفنون والآداب ومن ثمّ في حياته اليومية كلّ صنوف الأعداء والغزاة والحيوانات والمخلوقات المافوق حيوانية والكوارث الطبيعية وصولًا إلى إيقاظ الموتى من سباتهم.. إلخ، ها هو يعود اليوم إلى شبيهه، قرينه، وربما أقربائه وأهله ليرى فيهم صورة الجحيم. وكان هذا بالتحديد ما عبّر عنه سارتر في تلك المسرحية التي تكاد تترحم لحسابها عبارة توماس هوبز الشهيرة "الإنسان ذئب بالنسبة إلى أخيه الإنسان".
الآخرون في حياتنا وبعد موتنا
في المسرحية السارترية لدينا مكان مغلق سرعان ما سيتبيّن لنا أنه الجحيم بالتحديد، وبتحديد أكثر مقر المحاكمة التي تُجرى للمساقين إلى تلك الحياة الآخرة لمحابتهم على ما اقترفوه. ومنذ اللحظة التي يدخل فيها غارسان، أول المحاكَمين الثلاثة، ستكون ملاحظته الأولى أن ما من أدوات تعذيب هناك وما من جلادين. حيّز خال حتى من أي شخص آخر. بعد مبارحة الفتى الذي أوصله إلى المكان يبقى غارسان وحيدًا متأملًا في حيرة. لا يقلقه هنا كونه قد مات منذ حين وحلّت آخرته بقدر ما يقلقه اختلاف صورة هذا "الجحيم" عن كل ما كان قد تصوّره في الماضي. بعد ذلك وهو في غمرة تساؤلاته تدخل المحاكَمة الثانية إيريس مرتبكة تتساءل عن صديقتها فلورانس فيجيبها غارسان بأنه لا يعرفها ولم يرها... ثم يدخل الاثنان في حديث مرتبك ومتشعّب حول محاكمتهما المفترضة. وفيما هما عل تلك الحال تدخل المكان امرأة أخرى هي إستيل الميتة حديثًا بدورها والتي هي هنا، كالآخرَيْن لتحاكم. وهكذا يكتمل عقد الحضور ليحاول كل منهم مجابهة ما حدث له: كيف مات ولماذا؟ ولكن بشكل أخص: ما هو الذنب الذي يستحق الجحيم بسببه؟ ثم ما هو العقاب الذي سيكون من نصيبه؟ وما هي السلطة التي ستحاكمه. وهكذا، بالتدريج ينكشف كل شيء: كل واحد من الثلاثة أذنب دون أن يعرف أن ما يقترفه ذنب. وكل من الثلاثة سيدفع الآن ثمن ذلك الذنب... عقابًا أبديًّا، يتلو محاكمة عادلة. ولكن من الذي يحاكم وما هو العقاب؟
ببساطة: كل واحد من الثلاثة هو القاضي الذي يحاكم الآخريْن والذي سيصدر عليهما الحكم الأبدي المبرم؟ فما هو هذا الحكم؟ ببساطة أيضًا هو حضور كل واحد من هؤلاء الثلاثة في "حياة" الآخريْن إلى أبد الآبدين. ذلكم هو الجحيم الموعود لكل مذنب. "الآخرون هم الجحيم" تزعق المسرحية في وجهنا. وهو، على ما يبدو، الزعيق نفسه الذي قد يكون على كل منا أن يتحمله اليوم وقد بات "كل إنسان ذئبًا بالنسبة إلى أخيه الإنسان". ويقينًا أن سارتر حين عنى هذا بمسرحيته المبكرة تلك، لم يكن لا مازحًا ولا معبّرًا عن نفور ما من البشر، وإنما كان راصدًا لواقع كان في زمنه يدعو كل واحد للتحسب تجاه الآخرين الذين قد يكون الخونة والوشاة المناصرون للنازي المحتل بينهم، واليوم ها هو الاحتمال ينقلب ليصبح حملًا للفيروس... في نفس السيرورة التي يتجابه فيها كل واحد مع الآخرين!
فلسفة ومسرح وسوء تفاهم
ونعرف أن جان بول سارتر الذي ولد في 1905 ظل طوال هذا القرن حيًّا في الحياة الثقافية الفرنسية، وظل الاسم الذي يقفز إلى الذهن أول ما يجري الحديث عن ثقافة فرنسية: كان روائيًّا وكاتبًا مسرحيًّا وناقدًا ومنظّرًا في الأدب والنقد، لكنه كان قبل ذلك فيلسوفًا، عرّف فرنسا على الفلسفة الألمانية، وحاول المزاوجة بين الماركسية والوجودية، وربط نفسه أولاً وأخيرًا بمفاهيم مثل "التقدم" و"الحداثة" و"الحرية" و"الالتزام"، وآمن بالعديد من القضايا العادلة انطلاقًا من إيمانه بالحرية والتقدم، ووقف ضد حرب الجزائر مطالبًا بمنح الجزائر استقلالها، كما وقف إلى جانب حركات الشبيبة ونزل إلى الشارع متظاهرًا حينًا، وبائعًا للصحف التقدمية حينًا آخر. ونزوله هذا جره أكثر من مرة إلى أقسام الشرطة، وهو الذي لم يجرؤ حتى النازيون على اعتقاله حين كانت مسرحياته المعادية لهم (مثل "الذباب") تقدم على رغم أنفهم على المسارح الفرنسية خلال الاحتلال، فأسروه لفترة كجندي لكنهم لم يمسوه ككاتب.
هذه الحيوية السارترية كلها تجلت في كتب فلسفية مثل "الوجود والعدم"و"تعالي الأنا"و"الوجودية مذهب انساني"و"نقد العقل الجدلي"، وهي كتبه الفلسفية الأساسية. بيد أن سارتر لم يكتف بتوضيح فكره الفلسفي في كتبه "التقنية"الفلسفية الخالصة، بل عبّر عنه في نصوصه الإبداعية الكثيرة التي ليس من الظلم لها ولسارتر أن نقول أن الإبداع فيها إنما استخدم من قبل سارتر للتعبير عن قضايا فكرية وإنسانية. وهو ما أنكر هذا، أبدًا، على أي حال، بل كان التوكيد عليه محور صراعه الفكري مع البير كامو. كما كانت من أبرز روايات سارتر "الغثيان"وهي واحدة من أولى رواياته كتبها تحت تأثير فكر هوسرل الفينومينولوجي/ الوجودي. أما من بين مسرحياته، فيمكن التوقف طويلاً عند نصوص نشرت ومثلت مرات عدة على خشبات المسارح ويمكن لدراستها دراسة متأنية اليوم أن تكشف كم أن سارتر استخدم المسرح (مكان الحوار المثالي، ومكان المجابهة المباشرة واليومية مع الجمهور) للتعبير عن أفكاره ومصادر قلقه. ويتجلى هذا خاصة كما رأينا في "خلف أبواب مغلقة" وفي "موتى بلا قبور"(1946) التي تعالج مسألة السلطة ولجوئها إلى التعذيب، كما في "المومس الفاضلة"التي تعالج قضية العنصرية، وفي "الأيدي القذرة"التي تتحدث عن إمكانية غوص المرء في السياسة من دون أن يلوث يديه، كما في "الشيطان والإله الطيب"التي يعبر فيها سارتر عن مشكلة الحرية من وجهة فلسفية بحتة، وفي "الذباب"وغيرها. ومن الكتب المهمة الأخرى التي يمكن ذكرها اليوم في مجال الحديث عن سارتر كتابه المبكر عن جان جينيه، ورباعية "دروب الحرية"وسلسلة "مواقف"و"الحرب الغريبة"وغيرها.
بيد أن بين أهم ما يبقى من سارتر شخصيته نفسها. هو الذي لم يكفّ لحظة عن التأمل والعمل، والتغلب والبحث عن الحرية، ومواكبة الجديد كما مواكبة الباحثين عن الجديد، مسخراً وقته وفكره، وخاصة مجلته الشهرية الشهيرة "الأزمنة الحديثة" للنضال في سبيل الحرية والقدم، وأحياناً لتبرير تقلّباته. ولكن غالبا لطرح القضايا الشائكة والتي تبرز من بينها قضية كثيرا ما شغلت بال سارتر وهي علاقتنا بالآخرين، تلك العلاقة التي قد تكون "خلف أبواب مغلقة" خير تعبير عنها، حتى وإن كان كاتبنا سينتقد دائما الطريقة التي تم بها تلقي المسرحية، على الخشبة أو في كتاب: ففي حين كتبها هو على شكل مزحة تلقاها الناس بصورة مغرقة في الجدية ما أدهشه وحيّره حيرة غارسان في الصفحات الأولى منها!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.