حالة من اليأس دبت فى صدر النخبة المصرية، طبعاً الكل سيمصمص شفتيه قائلاً "هما دول الفلول"، وعلى رأى المثل "اللي ميعرفش يقول عدس"، والمصريون أساتذة فى إطلاق القفشات والأمثال الشعبية، ولكن مصر في حاجة ملحة لمن يخاطب عقول وضمائر أبنائها، وليس هناك سواهم .. هم أصحاب العقل والمنطق أهل النخبة، وآن الأوان لأن نسمع لهم وننصت إليهم ، ولكن الوقت جاء متأخراً فقد دبت في معظمهم حالة من الاستسلام والخروج والانسحاب من الساحة بعد ما لاقوه من أذى واتهامات بالتخوين والعمالة. إن من يرصد حالة تراجع الأخلاق لدى المصريين بسبب تراجع بعض السلوكيات، يرصد مجموعة المراحل الرئيسية التى غيرت طبيعة الشعب لأول مرة ، ولكن ليس معنى ديكتاتورية ثورات الغوغاء أن تتسبب فى القضاء على النخبة والتكنوقراط، وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه - يقول عن الغوغاء: "همج رَعاع أتباع كلِّ ناعق يميلون مع كل صائح"، وكذا الإمام محمد بن أسلم يقول: "احذروا الغوغاء فإن الأنبياء قتلتهم الغوغاء". ويساورني هاجس الخوف من أن تتحول ثورة الشعب ضد الظلم والفساد، التي ألهمت العالم بأسره، وبثت الطمأنينة فى قلوب المصريين باعتبارها بداية الانطلاق وطاقة النور التي فتحت بعد سنوات من الظلام والظلم، ليعود القمع والإحساس بالقهر من جديد بعدما اعتقدنا أنه انتهى بلا رجعة لا سيما بعد امتلاك طبقة لمفاتيح النفوذ والسطوة بلا أى وازع أو رادع. ويبدو أن الثورة فجرت فكر التجريم والتخوين والتحريض الأهوج الذى سيطر على كل تفاصيل الحياة، لتتحول مصر التي كان لا يختلف على هويتها وتماسكها أحد ،إلى أمة لا تعرف فيها إلى أين تذهب وتظل تدور في مكانها فالمستقبل المنتظر أمامها غابت عنه كل الرؤى، ومعها أصبح الوطن بلا عنوان، والشعب بلا يقين في أي شىء. وطفت على السطح مرة واحدة فصائل متعددة هى نتاج سنوات الظلم والقمع، وما بين الإيمان بالله، والعلمانية التامة، ظهرت مئات الانتماءات العقائدية والآراء، ولكن كعادة مصر دائماً تبدأ من حيث بدأ الآخرون، وكأنها تريد اختراع العجلة، لتنتشر كل أنواع التمييز والتفرقة والتخوين والتهديد والابتزاز، وهذه المرة أصبح الشعب ضد نفسه وليس ضد أى سلطة حاكمة أصبحنا نتخبط ننتقم من بعضنا البعض فحالة الثورة أرهبت الرجال وأفزعت النساء وروعت الشيوخ والأطفال . وأقسم بالله أننى لست ضد الثورة، ولكن ما يحدث فى مصر الآن هو حالة من الانقسامات والانشقاقات الحادة التي لا يمكن السكوت عليها كما لا يمكن أن نسميها ثورة الآن، فالثورة قد انتهت بعد سقوط مبارك وأعوانه، ولدت بلا أب شرعي ، وتفرقت بين القبائل. وقد أخرجت الثورة أسوأ ما فينا وليس أفضل ما لدينا، وكل ما هو سيئ طفا على السطح .. وكل بريق أمل أخذ يخبو شيئاً فشيئاً مع مرور الأيام، وتفجرت المزيد من الانقسامات والاختلافات الحادة بين الفرقاء يوماً تلو الآخر و قتلت الأمل في نفوس العقلاء، .. وأشعلت النار في قلوب من كانوا في نفس الطريق، أو أصحاب المصالح المختلفة. وإذا كنا نتهم عهد مبارك بالسلطوى الفاسد فإن ما نراه الآن، ليس إلا فاشية عقائدية لم تشهد مصر مثلها فهؤلاء ليس لديهم مشكلة في التخلي عن مواقفهم المعلنة والعهود أو الاتفاقات فالغاية لديهم تبرر الوسيلة ،الميكيافلية في أزهى صورها، ظهرت الآن مع اللحى والجلابيب لأشخاص خرجوا من الكهف، ليعيثوا فى الأرض فسادًا ويسعوا للسيطرة على الوضع ويطفشوا أولي العقل والفطنة. وبحسب الفيلسوف الألماني كارل ماركس، فإن التاريخ يعيد نفسه مرتين، في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة، وكأن الحياة لم تختلف مطلقاً، .. ذهب مبارك وأتى المرشد، انتهت لجنة السياسات فى الحزب الوطنى المنحل، وخرجت للنور جمعية "ابدأ" وهى الحضانة الجديدة لتزاوج السلطة مع المال والحفاظ على المصالح المشتركة، اعتقل "عز" و"المغربي" و"جرانة"، وجاء "الشاطر" و"مالك" و"أبوهشيمة"، كانت أموال البنوك تتدفق في مشروعات تنموية واستيراتيجية يملكها الكبار، الآن تظهر أدوات مثل المرابحات والمضاربات والصكوك لتمويل مشروعات من يديرون البلد، إذاَ نحن على موعد مع غزو "انتفاعي" سياسي واقتصادي من نوع جديد مغلف بالإسلام الذى هو بريء من كل ما يحدث. وعلى الرغم من هذا لم يذق الشعب المصرى الخسارة التى سيتحملها مع رغبتهم فى الاستحواذ على السلطة كاملة في غفوة من التاريخ أغمض فيها أبو الهول عينيه وغابت الشمس عن الأهرامات العظيمة، واحتل "التتار الجدد" البلاد ، وأخرجوا منها ثروتها البشرية الحقيقة وكوادرها المفترض أن يكون الركيزة الأساسية لبناء هذا الوطن والخروج به إلى بر الأمان، بل والانطلاق به نحو العالمية، ومنهم من يدرس الفرار بعد أن أصبحوا غرباء وشبه منبوذين فى بلادهم بسبب أبطال الوطنية الزائفة وأنصاف العقول والأفكار الذين برزوا في ظل واقع سياسي مرير ووضع اقتصادى ينذر بكارثة، أما ما سوف تشهده مصر الآن من خسائر فادحة جراء التجريف لتلك الثروة البشرية، وربما لا نشعر بها الآن وربما يقتنع بها أبناؤنا بعد الانتهاء من الاغتيال التام لها. ووسط التصعيد المتواصل الذي يؤججه أصحاب المصالح الضيقة الجشعة تجاه هذه الكوادر أصيبت بأمراض نفسية متعددة تحتاج إلى علاج طويل الأجل، ناهيك عن فقدان الأمل والإحساس بالندم علي ما قدموه لبلادهم وحلقوا بها فى السماء ليصبحوا الآن متهمين بالخيانة وإهدار المال العام الأمر الذى يجعل بعضهم يفكر جدياً فى الانسحاب بكرامة، أو العمل بعيداً عن تلك الأجواء المسمومة. هناك الكثير والكثير مما يحدث وهذه أمثلة بسيطة أسردها فقط لأنني ركزت في هذا المقال، على الإجابة عن سؤال ملح هل تغتال الثورة الثروة المتمثلة فى أسماء ناصعة مشهود لها.. سيرتها.. وتاريخها.. ونجاحاتها.. ومواقفها، ومن بين تلك الأمثلة ما يتردد حالياً عن رغبة الدكتور فاروق العقدة في الاستقالة من منصبه كمحافظ للبنك المركزي المصري فى أواخر يونيو المقبل، بعد الحملات الشرسة التى استهدفت تشويه صورته رغم ما قدمه من نجاحات فى إدارة أحد مؤسسات الدولة التي لا زالت متماسكة وقوية رغم التداعيات الاقتصادية، وكذلك إعلان طارق عامر رئيس البنك الأهلى المصرى عن استقالته من منصبه فى نهاية 2012 رغم أهميته كشخصية مصرفية رائدة باعتباره الحارس الأمين والمسئول الأول عن فوائض مالية تقدر ب 300 مليار جنيه هى أموال الشعب المصرى، وساهمت مجهوداته فى تحقيق الإنجازات لمؤسسة عملت للصالح العام وليس لخدمة مصالح شخصية ضيقة. وعندما أتمعن فيما سبق أشعر فجاة أننا نعيش فى مصر "بلا عنوان"، تائهة الخطى، مشتتة الاتجاه كلما تصل إلى مرحلة من مراحل تطورها وانتقالها خطوة نحو إلى الأمام، نجد من يعطلها عن مسارها ويرجعها ألف خطوة إلى الوراء.