فى وقت مبكر من صباح الخميس الماضى، أقلتنا طائرة «مصر للطيران» إلى موسكو، كان الوفد مكوناً من 23 من الشخصيات السياسية والحزبية وممثلين عن بعض وسائل الصحافة والإعلام، وكان الهدف هو «تقديم الشكر إلى المسئولين الروس على مواقفهم الإيجابية من التحولات التى حدثت فى مصر فى أعقاب ثورة الثلاثين من يونيو أولاً، ثم التباحث سوياً فى السبل الكفيلة بتطوير العلاقات الرسمية والشعبية بين البلدين». وصلنا إلى موسكو بعد أكثر من ثلاث ساعات ونصف الساعة قطعتها الطائرة المصرية، وهناك كان سفير مصر الجديد د. محمد البدرى فى استقبالنا فى المطار، ومعه أركان السفارة، لم يكن قد مضى على تولى السفير البدرى أكثر من أربعة عشر يوماً لمنصبه، لقد احتفلنا به منذ أسابيع قليلة، وكنا مجموعة من الأصدقاء فى منزل الصديق عمرو بدر، وكان «البدرى» متفائلاً بمستقبل العلاقات الروسية - المصرية. كانت المخاوف تساور البعض منذ البداية، فالروس يشعرون بجرح لم يندمل، منذ إلغاء معاهدة الصداقة بين مصر والاتحاد السوفيتى وطرد الخبراء الروس فى عام 1972، وهم أيضاً تعرّضوا لحملات صحفية وإعلامية ظالمة تجاهلت دورهم التاريخى فى مساندة مصر فى كل المجالات، خصوصاً خلال عقدى الخمسينات والستينات من أواخر القرن الماضى. قال السفير محمد البدرى، وهو يستقبلنا: «اطمئنوا ستجدون كل ما يسعدكم فى موسكو، المسئولون الروس جاهزون لاستقبالكم من الغد، جدولكم مزدحم باللقاءات، وستسمعون أخباراً طيبة». مضينا إلى مبنى السفارة المصرية العتيق فى قلب العاصمة موسكو، لم تكن العلاقات بين البلدين وليدة التعاون الذى شهدته فى الخمسينات والستينات. إن التاريخ يؤكد أن جذور العلاقة تعود إلى عام 1748، أى فى زمن حكم محمد على، عندما عيّنت روسيا قنصلاً لها فى الإسكندرية كممثل لها.. كما أن الحكومة المصرية برئاسة على ماهر اتخذت قراراً بإقامة العلاقات مع الاتحاد السوفيتى فى عام 1939، وبدأت بالفعل فى عام 1943، ثم تم رفع مستوى التمثيل الدبلوماسى إلى مستوى السفارة فى 22 مارس 1954. بعد قليل أبلغنا المستشار الإعلامى للسفارة المصرية عزالدين شاهين، بأن هناك مؤتمراً صحفياً لممثلى الصحافة الروسية والعربية مع أعضاء المؤتمر، داخل القاعة الرئيسية بالسفارة، كان عزالدين شاهين قد قطع زيارته المرضية إلى القاهرة وحضر إلى موسكو لمتابعة الزيارة والتواصل مع الوفد الصحفى والإعلامى المرافق. تحدثنا جميعاً، الدكتور يحيى الجمل نائب رئيس الوزراء الأسبق، والسفير محمد العرابى وزير الخارجية الأسبق، والدكتور أحمد زكى بدر وزير التربية والتعليم الأسبق، والأستاذ أسامة هيكل وزير الإعلام الأسبق، والمستشار أحمد الفضالى منسق تيار الاستقلال، والمستشار يحيى قدرى رئيس حزب الحركة الوطنية، والأستاذ سيد عبدالعال رئيس حزب التجمع، والأستاذ أحمد حسن رئيس الحزب الناصرى، ود. علوى أمين الأستاذ بجامعة الأزهر، والقمص بولس عويضة ممثلاً عن الكنيسة، والنائب السابق حمدى الفخرانى، والزميل الإعلامى وائل الإبراشى، وكثير من الزملاء الآخرين من أعضاء الوفد. كان أعضاء الوفد قد حددوا مهمتهم وردوا على تساؤلات كثيرة حول الأوضاع الجديدة فى مصر، أحد مراسلى القنوات العربية فى موسكو سعى إلى إثارة مخاوف الوفد من موقف بعض المسئولين الروس، إلا أن الحقيقة كانت على العكس من ذلك تماماً. كان اللقاء الأول فى اليوم التالى مع السيد ميخائيل بوجدانوف نائب وزير الخارجية الروسى والمبعوث الشخصى للرئيس بوتين إلى الشرق الأوسط، لقد كان يتحدث العربية بطلاقة، كان سفيراً لروسيا لدى مصر لأكثر من ست سنوات ونصف السنة، كان يعرف بعضاً من أعضاء الوفد بالاسم، قال لنا فى بداية حديثه: «الدكتور يحيى الجمل أستاذى والسفير محمد العرابى صديقى وزميلى، أنا أكن تقديراً خاصاً لكثير من المصريين الذين كنت ألتقيهم وأتحاور معهم دوماً فى مصر وخارجها». فى بداية هذا اللقاء المهم.. رحب «بوجدانوف» بالوفد المصرى، وقال لنا: «لقد انتهيت للتو من لقاء مع وزير الخارجية الروسى (لافروف) وقد كلفنى بإبلاغ تحياته إلى وفدكم، وأهلاً وسهلاً بكم فى موسكو». واستكمل «بوجدانوف» حديثه بالقول: نحن الآن بصدد الإعداد لزيارة ستكون مهمة للغاية لوزيرى الخارجية والدفاع الروسيين خلال الأيام القادمة، ونحن على ثقة بأن الزيارة ستكون ناجحة وستأتى بنبض جديد فى العلاقات التاريخية التى تربط بين بلدينا. وقال نائب وزير الخارجية الروسى: «يطيب لى أن نلتقى بأصدقائنا فى تشكيل هذا الوفد الممثل للشعب المصرى، ونحن ننظر إلى زيارتكم على أنها عامل مهم فى تنمية وتعميق هذه العلاقات. كان ميخائيل بوجدانوف قد استمع إلى كلمات من أعضاء الوفد حول مجرى الأحداث فى مصر، وتطورات الحياة السياسية والأمنية فى البلاد فى ضوء خارطة الطريق. استمع نائب وزير الخارجية إلى كل الرؤى والاقتراحات المتعلقة بصورة العلاقات بين البلدين وسُبل تطويرها، وعلق على ذلك بتأكيد عدد من النقاط المهمة أبرزها: - أن روسيا تدعم خارطة الطريق وتطلعات الشعب المصرى فى الحرية والتحرر. - أن زيارة وزيرى الخارجية والدفاع إلى مصر هدفها تطوير العلاقات، وهى ستكون مقدمة لزيارات أعلى الفترة المقبلة. - أن العلاقات الروسية - المصرية تقوم على الود والاحترام المتبادل مع ضرورة التأكيد على تطوير الحوار بين البلدين على كل المستويات لتحسين تطلعات الشعبين، واللذين تجمعهما خصائص مشتركة وود ومحبة كبيرة. - أن روسيا لديها برنامج كبير للتعاون مع مصر، وأن السياحة الروسية إلى مصر ستعود إلى سابق عهدها بعد إلغاء حظر التجول، خصوصاً أن مائة طائرة تقل السياح الروس تصل كل أسبوع إلى مصر منذ فترة. - أن روسيا ترى أن بعض الحوادث الإرهابية فى مصر لن تعوق نمو السياحة الروسية، لأن الإرهاب أصبح ظاهرة عالمية، كما أن روسيا تعرّضت وتتعرّض أحياناً لبعض حوادث الإرهاب. - أن روسيا تعرب عن تأييدها لدعوات التعاون والزيارات المتبادلة بين رأسى الكنيسة فى مصر وروسيا فى أى وقت. كان القمص بولس عويضة قد طالب خلال اللقاء بالتعاون بين الكنيستين، ووجّه الدعوة إلى بطريرك الكنيسة الروسية لزيارة مصر. كانت القضية الثانية التى أثارها نائب وزير الخارجية الروسى متعلقة بالموقف فى سوريا، وقال: لقد عدت من جنيف، ونجحنا مع الأمريكيين والأخضر الإبراهيمى فى التوصل إلى نقاط ثلاث مهمة، فى إطار حل المشكل المتعلق بالملف السورى وهى: - الموافقة على الدعوة لمؤتمر دولى لبحث هذا المشكل. - إن من سيحكم سوريا يجب أن يحدده الشعب السورى ويختاره وحده فقط، ودون أى تدخل دولى أو إقليمى. - تأكيد احترام وحدة الأراضى السورية. كان «بوجدانوف» يبدو خلال الحديث وكأنه متفائل بتوقعات الحل وإنهاء الأزمة سلمياً، انتقل بعدها إلى الحديث عما سُمى «بالربيع العربى»، وقال كلاماً محدداً وواضحاً. - أن روسيا تحترم إرادة الشعوب وحقها فى التحرر، ولذلك فإن ما حدث فى تونس وغيرها لم يستدعِ رفضنا، لأننا مع تطلعات الشعوب فى اختيار حكامها. - ولكننا فى المقابل نرفض فرض إملاءات جاهزة من القوى الدولية على الشعوب من الخارج، وهو موقف مبدئى لروسيا الاتحادية وقيادتها. عندما تطرق الحديث عن ليبيا وموافقة روسيا على قرارات مجلس الأمن المتعلقة بها قال: «كانت هناك قرارات اتخذت فى مجلس الأمن، ولكن أسىء فهمها وتفسيرها، ولذلك عند مناقشة القضية السورية، كنا حريصين وأكدنا أننا لن نسمح بالعدوان على سوريا، لأن العدوان لن يؤدى إلى تحقيق الديمقراطية أو تطلعات الشعب السورى». مضينا من وزارة الخارجية إلى البرلمان الروسى استقبلنا «ميخائيل مارجيلوف» رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان الروسى، ومعه وفد من أربعة أعضاء يمثلون الغرفة العليا للبرلمان الروسى. كان «مارجيلوف» يتكلم العربية، وكان ودوداً فى لقائه بالوفد، وقد أكد خلال جلسة المباحثات المطولة معه على عدد من الحقائق أهمها: - أن روسيا تنطلق فى موقفها من ثوابت أساسية تؤكد أن الشعب المصرى كان، ولا يزال، صديقاً تقليدياً لروسيا وتجمع الشعبين علاقة تاريخية عبر عقود طويلة من الزمن. - إننى أؤكد لكم أنكم ستجدون فى روسيا شركاء حقيقيين، وإن روسيا كانت وستبقى دوماً فى الخندق مع مصر. - إننا نوافق على الفكرة التى طرحتموها بتأسيس مجلس روسى - مصرى استشارى يضم شخصيات من كلا البلدين ويستهدف تنمية العلاقات بين الشعبين. - أعدكم بأن أول زيارة سنقوم بها إلى الخارج ستكون إليكم مع بدء إنشاء البرلمان الجديد فى مصر وسنفتح كل آفاق التعاون بين البرلمان الروسى والبرلمان المصرى. - لا تنتظروا أن تعود روسيا للشرق الأوسط من جديد، لأننا لم نخرج من هناك، وخير دليل على ذلك هو صور الرئيس بوتين التى رُفعت فى ميدان التحرير وغيره من الميادين فى أثناء الثورة وأعقابها. وبعد مناقشات مطوّلة، كان لقاء لممثلين عن الوفد مع رئيس الوزراء الروسى الأسبق «يفجينى بريماكوف» الذى راح يجتر ذكريات العلاقات السوفيتية - المصرية وآفاق التعاون بين البلدين، وكان لديه تفاؤل كبير لتطور العلاقة المستقبلية فى ظل عالم متعدد الأقطاب ويرفض هيمنة القوة الواحدة. وفى مساء ذات اليوم، دعتنا وكالة أبناء موسكو إلى عقد مؤتمر عالمى فى نادى الصحافة الروسى مع وسائل الإعلام المختلفة، وقد تولى الإجابة عن تساؤلات الحاضرين كل من د. يحيى الجمل، والسفير محمد العرابى، والمستشار أحمد الفضالى، والنائبة ماريام ملاك، ومصطفى بكرى، كما أجاب الكثيرون من أعضاء الوفد عن تساؤلات الحاضرين كما تولى الزميل أحمد الخطيب نائب رئيس تحرير «الوطن» والزميلة رانيا بدوى الإعلامية المعروفة، وغيرهما من الصحفيين والإعلاميين الرد على كثير من تساؤلات زملائهم حول مؤامرة الإخوان وخارطة الطريق ودور الجيش المصرى. فى اليوم التالى انطلقت طائرة «مصر للطيران» إلى القاهرة، كان الأمل يحدونا جميعاً، وقُبيل السفير عرفنا أن الرئيس بوتين التقى وزير الدفاع وأكد له العمل بكل ما يملك على إنجاح زيارته المقبلة إلى القاهرة واللقاء مع الفريق أول عبدالفتاح السيسى القائد العام وزير الدفاع المصرى. وسيضم الوفد الروسى فى زيارته التى ستجرى فى الثالث عشر من الشهر الحالى، وفداً عسكرياً رفيع المستوى، لبحث احتياجات مصر من الأسلحة. وقد أكد «بوتين» لوزير الدفاع إبلاغ الفريق السيسى والقيادة المصرية استعداد روسيا لفتح آفاق التعاون العسكرى مع مصر بما يحقق مصلحة البلدين. بقى القول فى النهاية إن إعادة العلاقات الروسية - المصرية، إلى مسارها الطبيعى، لا تعنى الاستغناء عن العلاقات مع الولاياتالمتحدة رغم الدور الأمريكى المشبوه فى دعم الإخوان ومحاولة إجهاض ثورة 30 يونيو، ولكنه فقط محاولة لإعادة التوازن إلى علاقات مصر الإقليمية والدولية. لقد أدرك الروس أن ثورة الثلاثين من يونيو وضعت حداً لمخطط الشرق الأوسط الجديد، وكان لها دورها وتأثيرها فى مواجهة المؤامرة ضد مصر وضد سوريا وضد المنطقة، وهو أمر يتفق تماماً مع رؤية روسيا ورفضها هذا المخطط وتأكيدها رفض التدخل الخارجى فى شئون بلدان المنطقة وغيرها. لقد كان للرئيس الروسى «بوتين» دور محورى فى إعطاء الزخم للعلاقات مع مصر منذ وصوله إلى السلطة فى عام 2000، ذلك أنه ومنذ العام التالى انعقدت الدورة الثالثة للجنة المصرية - الروسية المشتركة للتعاون فى المجالات التجارية والاقتصادية والعلمية، وبعدها بدأت عملية إعادة صياغة العلاقات، بما يخدم تطلعات الشعبين. لم ينسَ المصريون للاتحاد السوفيتى، دوره التاريخى فى عام 1956، وفى 67، وفى أثناء حرب الاستنزاف وصولاً إلى حرب أكتوبر 1973 التى انتصرنا فيها بالسلاح الروسى. لم ينسَ المصريون للاتحاد السوفيتى معوناته التى أنشأت 97 مشروعاً صناعياً كبيراً، فى مقدمتها السد العالى ومجمع الحديد والصلب ومجمع الألومنيوم. المصريون يتطلعون إلى علاقات متوازنة بين الشرق والغرب، وروسيا طوت جراح الماضى، وقررت تلبية النداء.. أمريكا قلقة.. زيارة جون كيرى لم تكن بريئة، لكن التاريخ القادم سيرسم خُطى المستقبل لمصر على قاعدة الحياد الإيجابى وعدم الانحياز. والبحث عن مصالحها الحقيقية وإحداث توازن جاد فى علاقاتها الدولية والإقليمية سيكون بعيداً عن سياسة التبعية والاستقطاب الدولى.