السؤال يطرح بإلحاح شديد هذه الأيام ونحن نرى ما يقترفه حكامنا العرب في حق أنفسهم وفي حق شعوبهم. نستغرب كيف لم يستفد اللاحق من السابق في ترتيب السقوط. ونبحث عن تفسير لإصرارهم على التمسك بعروشهم وقد زلزلت الأرض من تحتها. ونذهل لسيرهم في نفس الطريق الملوثة بدماء الأبرياء، وإعراضهم عن فهم المطالب التي ترفع في وجوههم بلهجة الغضب بعد طول انتظار وصبر على الذل والهوان. ------------------------------------------------------------------------ نبحث عن تفسير لكل هذه الصبيانيات التي نراها في مسلكهم فنجده في كتاب 'الأدب الكبير والأدب الصغير' لعبد الله بن المقفع رحمه الله، لما بينه من الحكمة وأثبته في مجموعة من البنود التي سماها مطالب وجهها لكل من يرجو السلامة لنفسه وعرضه، سواء كان حاكما أو محكوما، صديقا أو عدوا. في المطلب عدد 81 وعنوانه: 'في مخالفة ما يكون أقرب إلى هواك' نقرأ ما يلي: 'إذا بدهك أمران لا تدري أيهما أصوب فانظر أيهما أقرب إلى هواك فخالفه، فإن أكثر الصواب في خلاف الهوى'. نصيحة ثمينة لكل من يعي مقدار حكمتها وهي ترشد إلى ضرورة الاحتكام إلى العقل في تدبير شؤوننا، لأن القرار الصائب لا يمكن أن ينبع من عاطفة لا تراعي سوى مصلحتها الخاصة. حكامنا لا يعرفون هذه الحكمة ولكنهم يثبتون صحتها، لأن ما يصدر عنهم منذ أن تولوا أمرنا لا يلبي إلا مصالحهم الضيقة بحبهم للسلطة والجاه واحتكارهم للثروة التي يكدسونها في خزائنهم وخزائن أُسَرهم والبطانة التي تحيط بهم. لم يخالفوا هواهم فخالفتهم شعوبهم وكشفت بثوراتها حجم أكاذيبهم وحجم ثرواتهم التي نهبت منهم. وتنتظر الشعوب - في ليبيا واليمن وسورية والبقية تأتي - أن يستجيب حكامهم إلى مطالبهم فنشاهد كيف يركبون رؤوسهم ولا يعترفون بصوت الحقيقة الذي يدوي من حولهم ولا يسمعون النداءات المطالبة بالحرية والعدالة، بل يصرون على اغتصابها. فلماذا لا يهتدون إلى طريق الفكر الصائب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وإصلاح ما يمكن إصلاحه. ولماذا لا يستجيبون؟ يجيبنا العالم بسرهم ونجواهم في آية تؤيد ما ذهب إليه ابن المقفع، إذ يقول الله جل وعلا: 'فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، إن الله لا يهدي القوم الظالمين' - القصص 50. هذا المسلك المنحرف عن الصواب لم يسعف بن علي ومبارك والأكيد أن القذافي في ليبيا وصالح في اليمن والأسد في سورية سائرون جميعا على غير هدى بسبب ظلمهم وانزلاقهم في مراعاة مصالحهم وأهوائهم. لكن الغريب في الأمر أن بعض المحيطين بالقذافي من الوزراء الذين انشقوا عنه، عملوا من حيث يدرون أو لا يدرون بإحدى نصائح ابن المقفع الذي قال في بنده الرابع والعشرين: 'إذا ابتليت بصحبة وال لا يريد صلاح رعيته فاعلم أنك خيرت بين خلتين (يعني: خصلتين) ليس منهما خيار: إما الميل مع الوالي على الرعية وهذا هلاك الدين، وإما الميل مع الرعية على الوالي، وهذا هلاك الدنيا، ولا حيلة لك إلا الموت أو الهرب'. فعل ذلك علي العريشي ومصطفى عبد الجليل وشلقم الذين اختاروا الميل مع الشعب ضد الدكتاتور، وكان موسى كوسا آخر المنشقين الهاربين من جحيم القذافي ولعل الأيام القادمة ستأتينا بأخبار من سيتخلى عن الأسد وغيره من أشباه الأسود الذين سيسقطون تباعا في بؤرة جشعهم وعاقبة ظلمهم.