إن الجرائم التي تفشت في المجتمعات، بداية من الإرهاب مروراً بالقتل والإغتصاب والسرقة والعنف والتحرش وغيرها، لهي انعكاس للحالة العامة التي تسود داخل الأسر والمجتمعات. فغياب الوعي والتربية وتراجع المعيار الأخلاقي، والخلل في بناء منظومة القيم، مع الخلل في الهرم المجتمعي بمحاولة طمس الطبقة الوسطى والتي كانت تمثل الوعاء القيمي والأخلاقي ورمانة الميزان بين الطبقة العليا والدنيا داخل المجتمع، مع الإتجاه الجارف نحو المعايير المادية واللهث وراء ما يسمى بلقمة العيش فأصبحت الشغل الشاغل لأفراد المجتمع، كل ما سبق وغيره قد تكامل لتولد من رحمه المريض والملئ بالتشوهات والأورام تلك الجرائم، ومنها جريمة التحرش. فقضية التحرش من أخطر القضايا لأنها تلامس جسد ونفس الإنسانية، وتجعل قيم المجتمع على المحك، بل وتصيبه في مقتل. لأن مجرد التفكير بأن أحدهم يخترق جسدك بعينه أو لسانه أو يده لهو فعلٌ مُدَمر نفسياً، فما بالك بالشعور والإحساس ذاته؟ إنه لأمر مقزز ويظل ملامساً للذاكرة ليلاحق النفس والعقل والجسد، لذا فإن التحرش جريمة كبرى وكبيرة من الكبائر. ومما يثير الهلع أن التحرش لم يعد مقتصراً على مكان ما أو أفراد بعينهم، بل تفشى بين الجميع كفيروس كورونا، فتجده في الشوارع والأسواق والمدارس والجامعات والحدائق والمستشفيات ووسائل النقل والمؤسسات الحكومية والخاصة، حتى لم تسلم منه دور العبادة. فحجم الظاهرة مريع، ولا يمكن ربطه بفئة أو طبقة أو نوع تعليم معين. فمثلاً لا يمكن ربطه بالأمية، لإنتشاره بين جنبات المدارس والجامعات وأساتذتها وبين الأطباء والمهندسين وأصحاب الأعمال والرؤساء. كما لا يمكن ربطه بظروفٍ اجتماعية كتأخر سن الزواج، فما التفسير لإنتشاره بين المتزوجين؟! ولا يمكن ربطه بمظهر أو شكل خارجي، فما التفسير لتعرض المحجبات له، بل ما الذي يبرر تحرش رجل برجل، أو إمرأة برجل.فمن تعلم شرع الله سيدرك وبما لا يدع مجال للشك، أن غض البصر فريضة حتى لو تعرت كل النساء، والحجاب والعفة فريضة حتى لو اتقى كل الرجال، لذا لا يجب الربط والتبرير للتحرش بزي أو مظهر معين. ومن هنا فإن التحرش هو نتاج دوافع مرضية شاذة، وسلوك مضطرب، وعقل مشوش، ونفس مريضة، وقلب فاسد، كلها نبتت في جسد غابت عنه التربية السليمة وافتقر للقدوة الحسنة، فابتعد عن مراقبة الله وعن أصول الحلال والحرام والتي تمثل الحصن من الإنزلاق نحو تلك السلوكيات الشاذة. فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»