لا يصح لأحد أن يستهين بحيوية الثورة المصرية، ومقدرتها العبقرية المدهشة على دفع الملايين إلى الميادين، وعلى ما نحو ما بدا مع حشود الغضب العارم في مناسبة مرور عام على اشتعال الثورة الأول. لائحة المطالب طويلة مع عنفوان الثورة المتجددة، وبينها بالطبع إسقاط حكم المجلس العسكري، لكن عنوان 'القصاص' والمحاكمات الثورية كان الأبرز، وبدا كأن الشعب يريد إعدام مبارك وجماعته اللصوصية والقمعية، ولا يكاد يأبه بما يقال عنه محاكمات تجري، وبصورة روتينية رتيبة، وباتهامات هامشية ليست في صلب الموضوع، وبدعوى أنها محاكمة عادية تجري طبقا لقواعد القانون العادي، وتمضي إلى نهاية عادية جدا، إما بضمان البراءة لمبارك، أو الحكم عليه مع جماعته بأحكام سجن مخففة، ثم تجري إعادة النظر فيها بالطعن عليها أمام محكمة النقض. مثل هذه المحاكمة لا ترضي الناس، وهم على حق، فالرئيس المخلوع يحاكم على شراء قصور وفيلات بسعر رمزي، والمسؤولون (خارج القفص) أبرأوا ذمته من أوامر قتل المتظاهرين، وعلى نحو ما ورد في شهادات اللواء عمر سليمان والمشير حسين طنطاوى نفسه، وكأن مبارك يحاكم على سرقة فرخة، أو سرقة حبل غسيل، بينما هو المسئول عن سرقة وتجريف وتدمير مصر كلها، وعلى مدى ثلاثين سنة، انحط فيها بمكانة مصر، ونزل بها إلى القاع، وحولها إلى عزبة وحكر مخصوص لعائلته ورجاله ونسائه، وارتكب جرائم الخيانة العظمى كلها، وإلى حد أن وصفه جنرالات تل أبيب بأنه كان 'أعظم كنز استراتيجى لإسرائيل' (!). وابتعاد المحاكمة الجارية عن أي معنى جدي، وتوالي مشاهدها الهزلية، وتوقع نهايتها البائسة، كل ذلك لا يجري في إطار قضائي بحت، بل هو صورة من صور الالتفاف السياسي، واتصال لجهد المجلس العسكري في التواطؤ ضد الثورة، وحماية كبيرهم المخلوع، وهم الذين أجبروا على محاكمته، وقد كانوا لايريدون أي نوع من المحاكمة، بل تعهدوا لمبارك بتحصينه ضد أي مساءلة أو عقاب، وظلوا على واجب حمايته على مدى شهرين بعد إعلان خلعه في 11 فبراير 2011، وعلى مدى الشهرين، ظل مبارك وجماعته في الحفظ والصون، فلم يقترب منه أحد، ولا من زوجته، ولا من إبنيه، وظل صفوت الشريف وفتحى سرور في أمان تام، وظل كاتم أسرار المخلوع زكريا عزمي في عمله برئاسة الجمهورية كالمعتاد، وجرى تهريب الأموال ونقل الحسابات وإعدام الوثائق، وبدا كأن المجلس العسكري يريد أن يكفي على الخبر ماجورا، ولم يكن السلوك الغريب وقتها مفهوما لعامة الناس والثوريين، والذين انتفضوا غضبا مما تصوروه وقتها مجرد تباطؤ، فعادت ميادين التغيير تشتعل بالغضب، الأمر الذي أصاب المجلس العسكري بالذعر، فاستبق مليونية 8 إبريل 2011 بإعلان بدء التحقيق مع مبارك وعائلته، واعتقل رجال مبارك المقربين، وأودع الكل سجن مزرعة طرة، بينما استبقى لمبارك وزوجته نوعا من الرعاية الخاصة، واكتفى لفترة بتحديد إقامتهما في قصر شرم الشيخ، ثم أطلق سراح الزوجة سوزان أم الشرور، ونقل مبارك إلى المركز الطبى العسكرى على طريق القاهرةالإسماعيلية الصحراوي، ولكي يكون موضع رعاية خاصة مباشرة من المجلس العسكري، وبعد أن أطال عمدا في فترة التحقيق، وعلى أمل أن يخلصهم 'عزرائيل' من الورطة، لكن مبارك لم يمت ولا جاء أوانه، فتوالت فصول المحاكمة الهزلية، والتي يظهر فيها مبارك متمارضا متماوتا ممددا على سرير، وكأنه 'أسد في غفوة' على حد تعبير مجلة 'نيوزويك ' الأمريكية، لا ينطق بكلمة ولا بشهقة، ولا يدافع عن نفسه أو يعلق، إلا أن ينطق بكلمة 'أنا موجود' ردا على نداء القاضي التقليدي في بداية الجلسات، ثم يواصل صمته وهمهماته المتقطعة لإبنيه المحتجزين معه داخل القفص، ويبدو كأنه يؤدي دورا تمثيليا، ولا يمثل لمحاكمة، والتفسير ظاهر لاطمئنانه البادي، فقد تلقى تعهدات من المجلس العسكري بعدم سجنه ناهيك عن إعدامه، وملوك وأمراء السعودية والخليج دعموا هذه التعهدات وألحوا عليها، وتماما كما فعل الأمريكيون ويفعل الإسرائيليون، فإعدام مبارك إن جرى هو إعدام سياسى لهؤلاء جميعا. والمحصلة مفهومة، فلن يتحقق معنى القصاص الذي تطالب به ملايين الثورة المصرية بأمثال هذه المحاكمات، والمجلس العسكري يتصور أنه يكسب المزيد من الوقت، وعلى أمل أن تأتي نجدة عزرائيل، أو أن ينقل العبء الثقيل عن كتفه إلى كتف آخر، قد يكون البرلمان الذي تسيطر عليه أغلبية الإخوان والسلفيين، أو إلى رئيس مقبل، يجري الإعداد لانتخابه، وبمقاييس توافق خاصة مع رعاة مبارك الإقليميين والدوليين، وهو مالا يعني نهاية المأزق، بل تصديره لآخرين تحل عليهم أدوار الشيطان بدلا عن المجلس العسكري، وهو ما لا يبدو سهلا ميسورا، والأسباب معلومة، فلن تبرد نار غضب الثورة المصرية مع أي وقت إضافي يمر، والقاضي المكلف بمحاكمة مبارك تنتهي مدة خدمته الرسمية في نهاية يونيو المقبل، أي في الوقت ذاته الذي يعلن فيه عن اسم الرئيس الفائز، وهو ما يعني أن حكما مخففا سيكون له وقع الزلزال، وسيكون قنبلة تنفجر في وجوه الجميع، اللهم إلا إذا تقدم أحد لمساعدة 'عزرائيل'، ونزع فتيل القنبلة (!). وبرغم امتناع أعضاء المجلس العسكري عن التعليق علنا على محاكمة مبارك، واكتفاؤهم بالقول أننا لانتدخل في أحكام القضاء، إلا إن القاصي والداني يعلم ما يريدون، فقد سعوا إلى تحصين مبارك منذ خلعه، ثم أرغموا على تقديمه لمحاكمة، وأرادوا امتصاص غضب الرأي العام بالاستجابة الصورية، ومع إفراغ المحاكمة من أي مضمون يكافئ جرائم المخلوع، بل وقدم المشير طنطاوي شهادة محابية لمبارك في جلسة محاكمة سرية، وأجاب على اغلب أسئلة القاضي بطريقة 'ما أعرفش'(!)، وهي إجابة غريبة من رجل عمل في معية مبارك على مدى يقارب ربع قرن، وكقائد للحرس الجمهوري ثم وزيرا للدفاع، أي أنه كان شريكا مباشرا في كل ما جرى، وعالما بأسراره وصفقاته، ومطلعا على الصناديق السوداء، ومدركا للحقيقة الناطقة، وهي أن أي محاكمة جدية لمبارك سوف تشمله مع جنرالاته، ولن يكون المشير طنطاوي ولا الفريق عنان مع غيرهم بمنجى عن مساءلة، أو ربما عقاب، وهم يسعون إلى استصدار تشريع حصانة للجنرالات من قبل برلمان تسوده غالبية الإسلاميين، وهو البرلمان نفسه الذي يواجه مأزق محاكمة مبارك، ويملك حق إصدار تشريع خاص بمحاكمة جدية شاملة للمخلوع، فهل يفعلها ؟، أم أنه هو الآخر ينتظر قدوم عزرائيل؟!. ' كاتب مصري هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.