بقلم د.هبة الهواري تتشكل التغيرات الإجتماعية في صور وتجليات عدة ، تتمثل في الإنتاج الثقافي والحضاري للشعوب، حتى لو لم تع الأجيال التي تقع تحت تأثير تلك التغيرات ، فإنها تنتج وتفرز ما يتوافق ويعبر عنها ، سواء كان تعبيراً مباشراً أو غير مباشر،وسواء أتى هذا التغير الفني متزامناً مع ، أو متأخراً عن التغير الإجتماعي الذي يأتي في صور شتى، قد تكون واضحة ومحددة في أحداث بعينها ، وقد تسري في تيار شامل ، يشكل تدريجياً وجه الحياه ، حتى يصل الى مآله . وكما نعلم فإن ظاهرة التغير الإبداعي لا تأتينا عبر العقود في صورة مع أوضد ، أو أبيض وأسود ، وإنما تكون الظاهرة – إذا صح التشبيه – كمتصل كمي متدرج ، يتراوح فيه التأثير والتأثر من أقصى صور الوضوح الى أقصى مناطق الإظلام . . ومنذ سبعينيات القرن الماضي ولدت تغيرات في مفردات اللغة التشكيلية المصرية استقبلها وعي المتلقي بنوع من المقاومة و الغرابة لما بها من ملامح التجديد والتنوع في خامات التشكيل ، وكذلك المنطلقات الفكرية التي نبعت منها ، كما وصفت تلك التغيرات بالاستغراب ، أي الأخذ عن الغرب أو تقليده ، وبات يكتنفها الكثير من الاستهجان وعدم الارتياح .. ونحن إذ نفكر في ظاهرة تغير الأسلوب الفني التشكيلي وارتباطه بتغيرات المجتمع في مصر بهذه الصورة ، لا نلوي ذراع الحقائق ،ولا نؤولها تأويلاً متعسفاً ، فبحلول منتصف السبعينيات ، بدأت تحولات اجتماعية وسياسية في مصر ، بل وفى منطقة الشرق الأوسط كلها ، إذ اندلعت حرب أكتوبر 1973 ، و التي حققت النصر وحررت الأرض المصرية ، وأعقب ذلك بعض التحولات في النظام الاجتماعي والاقتصادي ، وبرزت تساؤلات عدة تحاول تحديد ملامح المجتمع وهويته فى تلك المرحلة . .[1]ولا شك أن هذا القدر من التحولات التي وقعت في إطار المجتمع المصري ، تحتاج إلى إنسان حديدي قادر على استيعاب كل هذه النقلات الإجتماعية الكبيرة ، دون أن يصاب بالتوتر أوالقلق؛ حيث أدت تلك النقلات إلى تأسيس نوع من الحراك الاجتماعي ، أدى بدوره في النهاية إلى تحولات هامة في ملامح الشخصية المصرية ، وفي ضوء ذلك تساءل الناس : من نحن ؟ وإلى أين نسير ؟ هل نحن عرب ؟ أم أفارقة ؟ هل نحن نتبع منهجاً إشتراكياً أم رأسمالياً ؟ فلابد كي يحدد الإنسان هوية لذاته ، أن يؤسس نوعاً من الأولويات التي تستند إليها الشخصية ، فإن لم يتمكن من تحقيق ذلك فإنه عادة ما يشعر بالتمزق في داخله ،ويكون لذلك مظاهره العديدة بالنظر إلى الشخصية وسياقها الاجتماعي . . "وقد أشار " باجوت " لهذا منذ أكثرَ من مائة عام حيث قال :"إن السبب الأساسي للتقدم هو القدرة على التغير " كما نبه أيضا إلى أن الاستقرار والتغير متعادلان في ضرورتهما للحياة الاجتماعية على الرغم من كونهما متعارضين تماما .أي أن تنمية المجتمع يجب أن تقوم على دعامتين أساسيتين ، هما القدرة على المحافظة وكذلك على التجديد والابتكار ." "وبما أن التحولات الاجتماعية تخلق شكلها ؛ كان من الطبيعي وجود فنٍ جديدٍ يحمل شكل تلك المتغيرات ، ذلك لأن عملية إنتاج الفن التشكيلي أو غيره من الفنون في أي مجتمع من المجتمعات : تخضع لمجموعة من الإجراءات التي تستهدف جميعاً السيطرة عليها ، والتحكم في اختيارها وتنظيمها وتوزيعها ، وتسعي تلك الإجراءات الاجتماعية كلها إلى تفادي سطوة الجديد ومقاومة التغير ، وإلى التعامل مع مظاهره بحذر ، لتجنب ما ينطوي عليه وجودها المادي الرازح من عواقبَ وخيمة . وفي مجتمع كمجتمعنا ، فإننا نعرف جيداً قواعد الاستبعاد ، ومن أبرزها وأكثرها شيوعاً تلك التي تتعلق بالتحريم والتقسيم والرفض ، والاتهام بالغرابة تارة ، والاستغراب تارة أخرى ، أو النفور من غريب التشكيل وجديده واتخاذ موقف مضاد نتهمه فيه بالعمالة وتقليد الغرب تقليداً أعمى ، وغير ذلك من القواعد المراوغة التي تسعي إلى تهميش عناصر التغير الاجتماعي والإبداعي ، وتغييب الوعي بهما ، حتى تستمر آليات الواقع الراهن في سيطرتها وفاعليتها الرامية إلى ترسيخ علاقات القوة السائدة ؛ ومن هنا فإن الإعتراف أو الوعي بالتغير ودراسته وتحليله : لا يقل أهمية عن مختلف مكونات هذا التغير الاجتماعية والتاريخية والنفسية و الاقتصادية ، ودور هذه المكونات في منح هذا التغير كينونته الفاعلة في النهضة الثقافية ، فنحن حينما نقرأ الإبداع ونحلله فإننا نقرأ المجتمع ، وحينما نعرف المجتمع ومكوناته الحضارية ، فإننا نعرف أنفسنا .