بقلم مصطفى الغزاوي يظن البعض أن حديث اغتيال الثورة حديثا جزافيا، فيه من الاستعارة أكثر من الواقع، ولكن القتل هنا تعبير مجازي لأن هناك ما هو أشد فتكا من القتل. في الحروب نتحدث عن التطعيم في المعارك، ولا نعني به التطعيم الطبي ولكن معناه التعود على صوت الرصاص والانفجارات وطبائع المعارك من صخب ثم من موت ودماء، ومعنى ضرورة استمرار القدرة على القتال حفاظا على الحياة لمن بقي من المقاتلين، وهذا لا يحدث في الحياة المدنية بذات النسق في الحروب هناك قتال متبادل والقتلى يسقطون من الجانبين، واستمرار القدرة على القتال ضرورة حياة، أما جرائم القتل للمدنيين في المظاهرات فهي اغتيال يقابله عجز عن استخدام السلاح لانعدام وجود السلاح في أيدي المدنيين مما يعظم أثر الرصاصات القاتلة، فهي تقتل من أصابت، ولكنها تعمل أثرها فيمن رأى القتل وما ترتب عليه من دماء أو مشهد أجزاء متناثرة أو خروج لأجزاء من داخل الرأس متناثرة في محيط الجريمة، مما يترتب عليه آثار نفسية من تقتله الرصاصات نحتسبه عند الله شهيدا، ولكن ماذا يفعل الأب والأسرة والخطيبة إن أصاب الابن حالة من الصمت والصمم؟ إن قتل المتظاهرين المدنيين جريمة مركبة، يمتد أثرها خارج الجسد الذي أودت بالروح فيه، إلى أنفس أخرى ومشاعر المحيطين به ليصيبها بالاكتئاب، ورغبة في التطهر من العجز بالحوم من حول المكان، دون أن يكون لهذا أي أثر في إزاحة الاكتئاب عن الشخص حادثني ابني وأنا عائد من العمل بعد منتصف الليل، وسأل أين أنت فقلت له أعبر ميدان التحرير من ناحية عمر مكرم، فقال الزم يمين الطريق ففي الجانب الأيسر منه دماء أحد الشهداء فوق الإسفلت، وتناثر "المخ" في نفس المكان نتيجة إصابة مباشرة في الرأس!!، ولزمنا الجانب الأيمن فقد كان هناك شباب يشيرون إلينا أن نبتعد عن الجانب الأيسر، ومضيت إلى المنزل لا أعلم ماذا تحمل لي الأيام القادمة . تحاورت مع ابني عن الأحداث، وأكدت أهمية الوجود في التحرير وثمن الحرية من شهداء ودماء مهما عظمت، وردد على مسامعي قولا استغربته، أن من عاشوا الحياة كما عشتها أنت يختلفون عن رؤسائنا في العمل، فهم في واد آخر، كان تعليقا تعودت عليه وملاحظة دائمة نسمعها كثيرا ولم أتصور مغزاها الخفي في حينها، وما سيترتب على هذا المعنى من موقف ذهب الابن الشاب إلى عمله الذي يبدأ من منتصف الليل إلى السابعة صباحا، وعاد مساء اليوم التالي بعد أن ذهب لتأدية الفرض التحريري بزيارة الميدان ومشاركة أهل الميدان في طقوس يومهم، وكان هذا آخر عهدي به خارج المنزل أو متحدثا، فقد لزم غرفته، وأغلقها على نفسه، لا يخرج ولا يتكلم ولا يسمع أيضا، ولثلاثة أسابيع على التوالي حتى اليوم رغم كل محاولات التأثير عليه وتوفيت والدة عروسه، كانت حانية عليه فهو عريس ابنتها الصغرى، وكان هو أيضا يحبها، أخبرته بالخبر وأن نذهب معا إلى الجنازة وباقي الأسرة وكأنني كنت أحادث لوحا من الثلج عكس طبيعته، لم يبد أي انفعال، وقال اذهبوا أنتم، لم يبك ولم يتنازل عن رفضه للذهاب، وتركناه ومضينا لأداء الواجب يمضي أوقات يقظته أمام الأخبار وبرامج الحوار، وأصابعه على لوحة المفاتيح للكمبيوتر ليرسل رسائله، غير منتم إلى من حوله بالمنزل، عالم آخر ليس هو بقبر شهيد ولكنه أقرب إلى أخدود الاكتئاب اللعين أسابيع ثلاثة يستغرقني فيها العمل لإنهاء انتخابات نقابة المهندسين المصرية، الذي يقطع من الليل والنهار ما يمتد إلى العشرين ساعة يوميا، في عمل تطوعي غايته الوصول إلى مجلس للنقابة منتخب، وفي بيتي ابني أصابته أحداث التحرير بشرخ نفسي لا يعلم إلا الله مداه هكذا نحن نحاول أن نصنع للوطن فجرا جديدا وأولادنا يقتلون ويصابون بالشروخ، وتمضي بنا الحياة إلى مستقر لها ولكن لا نعلم بأي الأحاسيس والمشاعر والأحوال سيمضي بنا القدر هل يدري القتلة ماذا يفعلون؟ نحن نسألهم لماذا تقتلون؟ وتصيبون فلذة أكبادنا بالشروخ النفسية؟ أفلا يعلمون أن القتل ترخيص بالثأر، أفلا يعلمون أن من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا؟ دعوة ابني الدائمة لغيره من الشباب: لا تقولوا نحن "ضد" ولكن اشرحوا مع ماذا أنتم "مع " من يقتله الرصاص من أبنائنا نحتسبه عند الله شهيدا والله حسيبه، ومن يصيبه ناتج الرصاص بشرخ نفسي دعوة للثأر تمشي على قدمين بيننا لن يكفي أن نتألم، بل سبيلنا لعلاج هذا محاصرة القتلة وتجريدهم من سلاحهم المجنون، وهل يعتقد القتلة أننا سنترك ثأرنا؟ كتبت في المقال الماضي عن مصر التي تجدد شبابها بشبابها، وها أنا اليوم أعرض لجانب آخر من الصورة نعم الألم يعتصرني على ابني الوحيد، الذي يبدو باحثا عن كيف يأخذ بالثأر ممن قتلوا الشهداء، وترك الحياة والأهل والعروس والواجب وأكبر قضية الوطن، ويكاد يكون قد نسي ما عداها قد يكون في هذا حد رومانسي من الثورة، ولكن ها هي الصورة أمامنا ولا تحتاج إلى رتوش أو استعارات لغوية، ولكنها تضعنا أمام يقين أن كلا منا لا يجب أن يسقط التضحية من عقيدته، وأن المكاسب السياسية المدعاة لا تكون على حساب الشهداء والشباب الذي أصابه القتل وعجزه عن الثأر بشرخ نفسي، لا تعون ما يمكن أن يؤدي إليه من تطور لمعنى مواجهة العجز إنهم يقتلون الجياد ولكن هل تظنون أننا نضن بفلذات أبنائنا على وطننا، كبر مقتا عند الله أن نقول ما لا نفعل، نحن لم نضن على وطننا بأرواحنا حين دعا الداعي للقتال، ولن نضن بأبنائنا ولا أنفسنا عندما ينادي الوطن "بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية"، ولكننا نضن عليكم بالحياة دون محاكمة للقتلة ألم تسمعوا بالنداء للذهاب إلى سجن طرة للأخذ بالثأر من قتلة الشهداء؟ ألم يصلكم نداء الثورة الغاضبة الثانية في الخامس والعشرين من يناير القادم، وإرهاصاته التي بدأت؟ أيها السادة القتلة للروح والجسد، إنني أفخر بابني وكل جيله نعم أفخر بابني وأؤمن أن رزقه وعافيته ومحياه ومماته من لدن رب العالمين نعم أفخر بابني وعقله وإرادته ورفضه للحياة بينكم، حتى وإن كان رفضه حتى الآن بتجنب الحياة بينكم نعم أفخر بابني الذي ذكرني بأن قرار الزواج والإنجاب اتخذته بسجن القلعة بالقاهرة عام 1972، وأنا أحاسب نفسي أنني تحولت إلى طاقة سلبية في الكفاح الوطني، وأنه لو كانت هناك مسؤولية في عنقي لما استطبت المقام بالسجن خصما من حساب القدرة على الفعل، هكذا تحول موقفي في الحياة وأدركت أن الزواج مسؤولية تدفعنا إلى الغيرة على الحرية فنثور حتى ونحن خلف أسوار السجن أدرك أن هناك "ما بعد" لما نحن فيه، وأن الله غير مخلف وعده ادعوا الله لي ولابني بالشهادة، وادعوا له بالعافية هو وكل رفاقه، فالمهمة أمامهم طويلة وبلا حدود زمنية ومكانية، وأعلم أنهم إن شاء الله قادرون عليها لعلكم معنا تدعون لهم، فهم جند الله في وطنهم