حوارات النخبة في أمريكا، تتيح فرصاً نادرة لمعرفة المسكوت عنه في السياسات الأمريكية، وحتى لو اختلف البعض مع ما يطرح فيها من معان وأفكار، فإنها على الأقل تشحذ الذهن فيكون متأملاً ومتأهباً. وأذكر أنني عندما أمضيت سنوات في الولاياتالمتحدة، وحضوري الدائم الندوات السياسية، ومناقشات منتديات الفكر السياسي، فقد كنت أشاهد مناظرات بين المشاركين من النخبة، والذين قد تختلف توجهات بعضهم، مع سياسة بلادهم الخارجية. هذه الأيام، تدور مناقشات حول إيران، وأطماعها الإقليمية، واتساعها، بعد الاتفاق النووي مع إدارة أوباما، وما طرح فيها من انتقادات من دول المنطقة من حلفاء الولاياتالمتحدة، ومخاوفهم من احتمالات تأثير التقارب الأمريكي- الإيراني، في التزامات الولاياتالمتحدة، تجاه الأصدقاء، وما قد يؤدي إليه هذا التقارب من إبرام صفقة كبرى أمريكية - إيرانية. كانت وتيرة هذه المناقشات قد تزايدت منذ بدء المفاوضات الأمريكية مع إيران، حول برنامجها النووي. وطرحت في المناقشات وجهات نظر تضع إيران في قائمة دول تسعى للهيمنة الإقليمية. وإن إيران تستغل تراجع الالتزام الأمريكي تجاه دول بالمنطقة، لكي تعزز من هيمنتها السياسية، وربما العسكرية، ولكي تصبح القوة المهيمنة في الشرق الأوسط. الكاتب لي سميث ذكر أن أجهزة الأمن الإيرانية، صارت متوغلة في أربع عواصم عربية هي: بغداد، ودمشق، وبيروت وصنعاء. وهناك تعبير منتشر يصنف تحركات إيران، بأنها حملة هجوم على المنطقة. وعرض المعارضون لما سموه «الوفاق المحتمل» بين الولاياتالمتحدةوإيران، حججاً عن استغلال إيران، لأوضاع عدم الاستقرار في دول المنطقة العراق، وسوريا، واليمن وليبيا. .. يقول المؤرخ العسكري والمحلل السياسي المعروف ماكس بوت إن هناك وجهة نظر ترى أن وضع الاتفاق الأمريكي - الإيراني، موضع التنفيذ سيجعل المؤرخين مستقبلاً يحددون يوم التنفيذ باعتباره التاريخ الذي يحل فيه النفوذ الإيراني، محل النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط. وإن كان تحليل ماكس بوت يبدو مبالغاً فيه، إلا أنه أراد الإشارة إلى أن التقارب الأمريكي - الإيراني، إنما يفتح باباً أمام إيران للتحرك بإيقاع أسرع نحو طموحاتها الإقليمية. كذلك يقول مايكل دوران، الذي شغل منصب مدير برنامج الشرق الأوسط بمجلس الأمن القومي في إدارة أوباما، الحد من الطموحات الواسعة لإيران، يعد مظهراً رئيسياً للاستراتيجية الإقليمية لأوباما، وإن الاتفاق النووي، يدفع إيران لأن تكون أكثر قوة وجرأة، وإن هذا الاتفاق في حد ذاته يحد من قدرة الولاياتالمتحدة وحلفائها، على احتواء إيران، وهو ما يشجعها على ابتزازنا. أيضاً قال مايكل جيرسون المسؤول السابق بإدارة بوش، إن الاتفاق يساعد على توفير التمويل لخطط إيران التوسعية الاستعمارية، بما يعود عليها من وقف العقوبات عليها، والانفتاح معها. وفي إعلان معارضة لهذا التوجه الأمريكي، قال السناتور بوب مينديز، إن إيران التي صدرت ثورتها إلى الأسد في سوريا والحوثيين في اليمن، وحزب الله في لبنان، سوف يتوفر لديها المال الكافي، ليس فقط للاستثمار في الداخل، بل أيضاً لتمويل عمليات زعزعة الاستقرار، وأهداف الهيمنة في المنطقة. في المقابل من هذه الآراء، هناك وجهات نظر أخرى تحاول أن تقلل من احتمالات تحقيق إيران أطماعها، بسبب عدة عوامل سوف تشكل قيداً على قدراتها لبلوغ هذه الأطماع. ففي الدراسة التي نشرتها المطبوعة الفصلية «سيرفاتيل»، التي يصدرها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في لندن، بعنوان «حدود القوة الإيرانية»، تقول إن القوة الصلبة لإيران محدودة، بدرجة أكبر مما يظن أصحاب وجهة النظر التقليدية، فإن القدرة العسكرية لإيران تتكون من قوى متداخلة ومتنافسة، فالقوات المسلحة النظامية، تضم 350 ألف فرد، وتشكل قواتها البرية، والجوية، والبحرية، ومخصصة لحماية إيران من أي تهديدات خارجية. أما القوة الثانية فهي الحرس الثوري، ويضم 120 ألف فرد، ومهمته حراسة مبادئ الثورة في الجمهورية الإسلامية، بجيشه الخاص، ووحداته البحرية والجوية. أي أن هناك جيشين، قد يفهم أنهما يضاعفان من قوة النظام، لكنهما يشكلان نقطة ضعفه، لوجود تنافس بينهما، وشعور كل منهما بأنه الأهم والأكثر قيمة للدولة، بالإضافة إلى انعدام مفهوم وحدة الجيش الوطني للدولة. وفي دراسة لمؤسسة «راند» فإن القوة العسكرية لإيران، على هذا النحو تكتنفها مشاكل، هيكلية، وتعبوية، وتنظيمية، وهو ما يحد من قدرتها على إكمال شوط طموحاتها. وتحاول إيران تعويض ذلك، بعنصرين: أولهما، توغل أجهزة مخابراتها في دول عربية خلقت لنفسها تواجداً فيها، ولجوئها إلى التخريب في داخلها. والعنصر الثاني، استخدام ميليشيات محلية، تقتل بالوكالة عنهاByProxyفي هذه الدول. ولا يزال النقاش مستمراً من جانب النخبة المتخصصة في الشؤون الخارجية، وفي قضايا المنطقة، والاتجاه الغالب فيها يتخوف من الأطماع الإيرانية التي أصبحت معلنة، للهيمنة على المنطقة، وتبقى هذه المناقشات بمثابة راية تنبيه، وجرس إنذار، لكي تتدبر أمورها على ضوء هذا الطرح الصريح. نقلا عن صحيفة الخليج