«ليس بالأمانى وحدها تصبح سفيراً».. هذه المقولة أوجزها دبلوماسيون وسياسيون وحقوقيون، وهى تعبر بصدق عن حال المئات من حملة الشهادات الجامعية، ممن لم يجدوا فرصة للتعيين داخل وزارة الخارجية، ليشكلوا شريحة واسعة ومتزايدة وهم أصحاب الكفاءات المتعطلين عن العمل، ولا تزال الآمال معلقة. فرغم الحديث مراراً وتكراراً عن أهمية توافر مؤهلات المهنة الدبلوماسية فى المتقدمين لتلك الوظائف المرموقة، وإعلان وزارة الخارجية عن اتسام اختباراتها بالشفافية، وأنه لم ينجح أحد من أبناء السفراء، وأنها تبحث عن أصحاب الكفاءات من الشبان المتفوقين، وهم كثيرون، إلا أن الشباب الحالم بوظائف دبلوماسية لايزال ينتظر وضع ضوابط ومعايير مهنية تتفق مع مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين الجميع.. إذ كان هناك نية صادقة للإصلاح، والنهوض بالبلاد من كبوتها، خاصة بعدما عانوا طويلاً من الإهمال والتهميش والإقصاء ومرارة الظلم الاجتماعى فى مراحل شكلت المحسوبية والمحاباة فيها قاعدة، وهو ما لم يعد متوافقاً مع مبادئ الانتفاضة الشعبية العظيمة، لأنه من يحصل على منصب مرموق بلا جهد لا يبذل جهداً للتطوير والتقدم، ومع غياب الحافز يفقد الشباب الأمل. والحقيقة أن كل المؤشرات والدراسات البحثية تتفق على أن أعداد الخريجين تزداد عاماً بعد آخر، وحلم وظيفة السلك الدبلوماسى تتباعد، وما زال آلاف العاطلين من حملة المؤهلات العليا يعيشون واقعاً أليماً، فى ظل تفضيل آخرين عليهم.. الأمر الذى يصيب الشباب بالإحباط ويجعل بعضهم عرضة للتطرف انتقاماً.. والإلحاد كفراً.. والانتحار يأساً، نتيجة قتل الأمل وتدمير الأحلام والطموح على أرض الواقع. وقد توحشت ظاهرة توريث الوظائف فى عهد الرئيس المخلوع «مبارك»، وكشفت عن وجهها القبيح دون خجل أو حياء فى أعقاب ثورة 25 يناير، فى ظل الفوضى العارمة التى ضربت البلاد، واحتل بعض الخريجين الجدد وظائف مرموقة فى الدولة ما كانوا يستحقونها على حساب زملائهم الأوائل الذين تعرضوا للظلم البين، مما ساعد على تردى الأوضاع وتفشى الفساد فى الجهاز الإدارى للدولة، كما لعب النواب السابقون فى مجالس الشعب والشورى وكبار الموظفين بالدولة دوراً كبيراً فى توريث الوظائف ومنحها لمن لا يستحق على حساب من يستحق، كل ذلك أصاب غالبية المتفوقين من أبناء الفقراء والبسطاء بالإحباط والاكتئاب لدرجة انتحار بعضهم، ومنهم «عبدالحميد شتا» الباحث المتفوق الذى انتحر غرقاً فى نهر النيل احتجاجاً على خلو كشف المقبولين بالسلك الدبلوماسى من اسمه فى مسابقة الخارجية، الأمر الذي خلق صدمة كبيرة لدى الشباب من احتماله، ناهيك عن مأساة استبعاد 125 خريجاً من وظيفة ملحق دبلوماسى فى مايو 2014، بتهمة «غير لائق اجتماعياً»، ليحل بدلاً منهم أبناء الدبلوماسيين! نماذج واقعية «الوفد» رصد أسماء بعض العائلات فى وظائف الخارجية، على سبيل المثال لا الحصر، رغم أن الدستور ضد مبدأ توريث الوظائف. وأبرزهم يتمثل فى ترشيح الدبلوماسى حازم خيرت مساعد وزير الخارجية لشئون السلكين الدبلوماسى والقنصلى، لمنصب سفير مصر فى تل أبيب، وهو أحد أبناء عائلة «خيرت» التى تعد أبرز العائلات التى تنتشر فى الخارجية. وأيضاً السفير المصرى فى اليابان، إسماعيل خيرت، شقيق زوجة وزير الخارجية «سامح شكرى»، الذى كان يعمل قبل ذلك رئيساً للهيئة العامة للاستعلامات فى عهد الرئيس المخلوع حسنى مبارك. كما تضم نفس العائلة أيضاً السفير إبراهيم خيرت سفير مصر السابق فى المكسيك، فضلاً عن نجلى إسماعيل وحازم، وهما عمر وكريم على الترتيب. وأيضاً السفير «هشام بدر» مساعد وزير الخارجية لشئون المنظمات الدولية، سليل عائلة «بدر» هو نجل السفير الراحل «مصطفى بدر». وكذلك الدبلوماسى «محمد حنفى» بمكتب وزير الخارجية، فهو نجل السفير «وجيه حنفى» مساعد وزير الخارجية الأسبق، ومدير مكتب الأمين العام لجامعة الدول العربية. أما مندوب مصر الدائم بجامعة الدول العربية السفير طارق عادل هو نجل مساعد وزير الخارجية الأسبق السفير «أحمد عادل»، وهذه نماذج كما أشرنا علي سبيل المثال لا الحصر لأن القائمة طويلة. الدستور ضد آفة التوريث المادة التاسعة من دستور 2014، تنص على أن «تلتزم الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، دون تمييز»، وكذلك المادة 53 من الدستور التى نصت على أن « المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس أو الأصل أو العرق أو اللون أو اللغة أو الإعاقة أو المستوى الاجتماعى، أو الانتماء السياسى أو الجغرافى، أو لأى سبب آخر، والتمييز والحض على الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون». بداية يقول السفير عبدالرؤوف الريدى، الرئيس الشرفى للمجلس المصرى للشئون الخارجية، نرفض تماماً مبدأ التوريث فى الوظائف العليا فى الدولة وعلى رأسها الوظائف الدبلوماسية، لكونها جريمة يعاقب عليها القانون، كما أن مبدأ تطبيق العدالة الاجتماعية بين المواطنين هو حق كفله الدستور وجسدته ثورة 23 يوليو 1952، والتى فتحت الباب على مصراعيه أمام دخول أبناء الشرائح المختلفة للمجتمع المصرى، وكرسته ثورتا 25 يناير و30 يونية. مشيراً إلى أن القانون رقم 45 لسنة 1982، هو الذى ينظم شروط التقدم لامتحان مسابقة التعيين فى وظيفة ملحق بالسلك الدبلوماسى والقنصلى بوزارة الخارجية. فيما يقول سيد أبو زيد، مساعد وزير الخارجية للشئون العربية والشرق الأوسط الأسبق: هناك شروط عامة يجب أن تتوافر فى كل من يريد الالتحاق بالعمل بوزارة الخارجية، منها الإلمام باللغة العربية، إلى جانب لغتين أجنبيتين فهماً وقراءة وتحدثاً، والإلمام الكامل بالنواحى المعرفية فى شتى المجالات خاصة السياسية والثقافية، وحسن المظهر، ومراعاة القواعد، وحسن التصرف واللياقة، وأن يتميز بسعة الأفق عند الاختلاف فى الرأى. مؤكداً ضرورة وضع قواعد واضحة لتكافؤ الفرص تطبق بشفافية ووضوح وتحدد أسباب قبول أو رفض المتقدمين للوظائف الدبلوماسية، لأن من العدل أن يكون التفوق والكفاءة هما أداة الصعود.. وإذا غابت هذه الأمور وحلت بدلاً منها معايير غير مهنية، فإنها تؤدى إلى نتائج سلبية وفساد فى العمل. وأشار إلى أن العمل فى الخارجية ليس مجرد وظيفة عادية، لكنها مهنة مقدسة تتطلب دبلوماسيين مؤهلين لتمثيل مصر فى الخارج، وهو ما جعل سفراء مصر من عائلات «خيرت» و«بدر» يعتبرون أفضل العناصر التى تستطيع تمثيل مصر فى المحافل الدولية وفقاً له. ومن جانبه أوضح السفير أحمد الغمراوى، مساعد وزير الخارجية الأسبق عضو المجلس المصرى للشئون الخارجية رئيس المنتدى الثقافى المصرى: أن التوريث فى الوظائف «مرفوض»، وإنما هناك شروط مهنية لكل وظيفة، وبالتالى يجب أن تتوافر فيمن يعمل فى السلك الدبلوماسى معايير الكفاءة المطلقة وحسن السمعة والانتماء الوطنى، ولا يهم أن يكون ابن دبلوماسى أو ابن مواطن عادى، لأن الدبلوماسى الذى يتم تعيينه مجاملة، لا يصلح أن تشوبه شائبة، ولابد من تحقيق المساواة فى التعيين بالوظائف الحكومية، لأن نجاح الدول يأتى عبر معايير الاختيار الصحيح. مشيراً إلى أن مصر تعيش الآن فى أجواء من الديمقراطية، وتشهد معايير الشفافية التى بدأت التعامل بها عقب ثورتى 25 يناير و30 يونية، وبالتأكيد يوجد الكثير من الدبلوماسيين الذين اشتهروا لكفاءتهم، وجهدهم المتفانى فى أدائهم لعملهم، الأمر الذى يحسن صورة مصر أمام العالم. وطالب السفير «الغمراوى» الدولة بعدم السماح به مستقبلاً كخطوة فى بناء بلد ديمقراطى يكفل لكل أبنائه جميع الحقوق دون النظر إلى حالة اجتماعية أو جنس أو عرق، وتفادى الضغوط والعواطف والمصالح، مع وضع معايير شفافية واضحة تقضى على الوساطة والمحسوبية وتنافس بين المتقدمين للوظائف الدبلوماسية، إضافة إلى مراعاة عدم اختيار شخص فى عائلته مسجون أو مسجل خطر، نظراً لمتطلبات وظيفته الحساسة، لأن عملية الاختيار السليمة هى أساس تقدم الأمم فى الدول الديمقراطية، ومن ثم إغلاق ملف التوريث فى الخارجية نهائياً. عرف مدمر ومن جهته يؤكد الدكتور أحمد عبدالحليم، عضو المجلس المصرى للشئون الخارجية: «أن لكل امتحان نتيجة كالمعتاد، ولكن الوضع فى اختبارات السلك الدبلوماسى مختلف، لأن نتائج الامتحانات لا يتم إعلانها بالكامل، وإنما تقتصر فقط على كلمة «ناجح»، والآخرون يعرفون مصيرهم بناء على الكلمة الأولى، بمعنى آخر من لم يتم إبلاغه بأنه ناجح فهو بالطبع «راسب»، وهذه هى الأزمة، لكنها ليست فى الواسطة، وإنما فى عدم إعلان النتائج واضحة وصريحة حتى يعرف كل متقدم فى أى امتحان بالضبط فشل». وأشار إلى أن هناك سفراء حاليين فى وزارة الخارجية التحقوا بالعمل فى السلك الدبلوماسى وكانوا من أسر بسيطة جداً وأثبتوا نجاحهم، ورفض «عبدالحليم» ذكر أسماء بعينها، قائلاً: أبناء فلاحين التحقوا بالوزارة والآن أصبحوا سفراء يشار إليهم وإلى نجاحهم فى العمل، بينما يتقدم أبناء سفراء ولا يحالفهم الحظ فى النجاح». ومن ناحيتها، قالت فريدة النقاش، الكاتبة الصحفية ورئيسة تحرير جريدة الأهالى: إن خطورة توريث الوظائف لأبناء الدبلوماسيين لا تتوقف على غياب القانون وتكافؤ الفرص والإحباط العام، وإنما تحول مصر إلى عزبة كبيرة لا علاقة لها بالتقدم أو الديمقراطية. وتضيف: يجب أن يكون الملتحق بوزارة الخارجية يملك من العلم والثقافة ما يؤهله لهذه الوظيفة. وأوضحت: أن أول خطوة فى الاختبارات هى الامتحان التحريرى، ومن يجتاز هذه المرحلة ترسل أوراقهم إلى جهات معينة مثل المخابرات العامة وأمن الدولة للتحرى عنهم للتأكد من عدم وجود أى قضايا جنائية أو مخلة بالشرف، بالإضافة إلى الكشف النفسى من خلال أساتذة علم نفس، ثم تأتى آخر مرحلة وهى الامتحان الشفوى، كما أن الحالة الاجتماعية ووظائف أسرة المتقدم للوظيفة يتم التحرى عنها أمنياً عقب الامتحان التحريرى، ويتم عرضها على اللجنة الممتحنة فى الاختبارات الشفوية ليطلعوا عليها. وحول أزمة الصراع الطبقى.. استطردت: التفاوت فى المجتمع المصرى طالما لا تحكمه معايير الشفافية سيظل هناك ظلم اجتماعي، الأمر الذى يتطلب توافر عدد من الضوابط ومعايير الاختيار وأهمها أن تقوم على الكفاءة العلمية واختبارات للقدرات الشخصية أو المؤهلات المتعلقة بالمتقدم لشغل وظيفة ملحق دبلوماسى، وألا يكون هناك مجال للمحسوبية والمجاملات والوساطة فى مصر، لأن أهم أسباب قيام ثورة 25 يناير كان رفض الشباب للوساطة فى الوظائف الحكومية، الأمر الذى يهدد مستقبل الشباب من الجنسين. أما الدكتور مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية رئيس مركز دراسات وبحوث الدول النامية، فيؤكد: أن تكريس فكر توريث الوظائف يهدر مبدأ المساواة والحق فى تكافؤ الفرص، وهو إهانة مرفوضة للبسطاء الشرفاء وأبنائهم المتفوقين، كما يمثل ردة على أبرز مطالب الثورة فى تحقيق العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وأشار إلى أن الخارجية عليها دور مهم فى إتاحة فرصة العمل للشباب المصرى المتقدمين للوظائف الدبلوماسية وتشغيلهم وفقاً لمؤهلاتهم وخبراتهم، ومراعاة الظروف الصعبة لهم ولأسرهم، حتى لا يضطروا إلى الهجرة للخارج، فى ضوء تزايد المخاطر التى تتصل بتواجد العمالة المصرية فى دول أجنبية دون عقود عمل حقيقية. فيما رأى محمد زارع، الناشط الحقوقى: أن توريث الوظائف للأبناء والأقارب يتعارض مع مبدأ المساواة الوارد فى دستور مصر حالياً.. فجميع أبناء الوطن متساوون فى الحقوق والواجبات، وبالتالى يجب عدم التمييز أو التفرقة بينهم لأى سبب من الأسباب. وأضاف: لابد أن يسجل الملتحق بالوظيفة بياناته الخاصة، لعمل التحريات اللازمة، ولكن ليست وظيفة الأب والأم هى المعيار الذى يحكم على أساسه، بل إن حسن السيرة والسمعة عنصران أساسيان فى اختيار من يلتحق بالسلك الدبلوماسى. وشدد على أهمية مواجهة هذه الظاهرة الظالمة للكوادر البشرية، بأن الدولة قامت بتطبيق عدد من الضوابط الصارمة التى تتعلق بالكفاءة والتقدير والسجل النظيف للأسرة من الناحية الجنائية.