قد لا نعرف على وجه الدقة متى دخلت زراعة القطن الأراضى المصرية.. فقد تضاربت الروايات.. هناك دلائل تؤكد أن الفراعنة لم يعرفوا القطن وأن الإسكندر الأكبر هو من حمله كمحصول بعد غزوه للهند ثم نقله للبلاد التي غزاها ومنها «مصر».. وهو ما يؤكده المؤرخون ويدللون عليه بأن الملابس القطنية كانت شائعة في مصر في عهد البطالمة.. ولكن المؤكد أن محمد على كان أول حاكم في تاريخ مصر الحديثة يضع القطن بين صدارة المحاصيل في مصر.. السطور التالية محاولة لسرد رصد تاريخ وحكاية العصر الذهبى للقطن المصرى هرم مصر الرابع!! بدأت زراعة القطن في مصر منذ عهد قدماء المصريين باكتشاف بذوره في إحدى مقابر طيبة وانتشرت زراعته في العصور البطلمية والرومانية، ووقتها كانت مصر تصدر المنسوجات القطنية إلي روما.. وفي العصر الحديث يرجع تاريخ زراعة القطن إلى عام 1820 عندما استدعى محمد على المهندس الفرنسى لويس جوميل ليشرف علي تنظيم زراعته في مصر بعدما اكتشفه في إحدى الحدائق المنزلية وتبين أن محصوله من نوع طويل التيلة وينافس الأقطان الأمريكيةوالهندية، بل ويتفوق عليها، مما أدى إلى سرعة انتشار هذا النوع الجديد وبلغ إنتاجه عام 1823 حوالى 30 ألف قنطار وبعدما انتهت زراعة الصنف القديم المعروف بالقطن البلدي عام 1832 وبمرور الوقت ومع اندلاع الحرب الأمريكية خلال الفترة من 1861 وحتي 1865 وما ترتب عليها من هبوط إنتاج القطن في أمريكا انتعشت زراعة القطن المصرى وزاد إنتاجه وارتفع سعره بصورة اعتبرت نقطة تحول رئيسية وحاسمة في تاريخ القطن، إذ قفزت صادرات مصر من 596 ألف قنطار في عام 1861 إلى 2507 آلاف قنطار في عام 1865.. ومن هنا توطدت زراعة القطن في مصر وبدأ اهتمام الدولة بإيجاد أصناف جديدة وتم استيراد العديد من الأصناف والأنواع، خاصة أقطان السى أيلاند وكانت تزرع في جزر الهندالغربية ومن ثم ظهور أصناف ذات خواص مختلفة ومتعددة كان أبرزها صنف الأشمونى «الأب الشرعى» المباشر وغير المباشر لمعظم أصناف القطن المصرى وتوالى انتخاب أصناف جديدة للقطن المصرى في أواخر القرن ال18 من خلال بعض الأفراد المشتغلين بالقطن من غير الملمين بالأصول العلمية للتربية حتي إنشاء الجمعية الزراعية المصرية إلى تولى هذه المهمة من قبل قسم تربية النباتات بوزارة الزراعة بعد إنشائها عام 1913 بالتعاون مع الجمعية المصرية الزراعية وقد شكل لهذا الغرض مجلس أبحاث القطن في عام 1919 وبعده لجنة الأبحاث الفنية بالجيزة عام 1928 بعد ذلك في عام 1935 أنشئ مصنع غزل القطن لإجراء الدراسات الفنية لمساعدة المربى وقد ضم فيما بعد إلي قسم تربية النباتات بوزارة الزراعة والذي لحق بدوره إلى مصلحة الزراعة كما كانت تسمى عام 1950 وفي عام 1963 أنشئت مراقبة بحوث تكنولوجيا القطن وضمت 4 أقسام هي تربية القطن والمحافظة على أصنافه وفسيولوجيا القطن وزراعته بعدها ضمت هذه المراقبة عام 73 إلي معهد بحوث القطن التابع لمركز البحوث الزراعية من خلال 3 محطات رئيسية للبحوث بالجيزة وسخا وبهتيم والعديد من المحطات الفرعية في مختلف المحافظات. وجدير بالذكر أن محطة بحوث الجيزة كانت أهم هذه المحطات وأكبرها من حيث عدد العاملين بها، وكان عمل هذه المحطات لا يقتصر علي تربية القطن فقط ولكن يتعداه إلى مختلف البحوث الزراعية الأخرى.. وبالفعل قد نجحت هذه الجهات في استنباط أصناف عديدة منها السكلاربدس، وهذه لؤلؤة الأقطان المصرية، ثم ميت عفيفي والأصيلى والعباسى والنوبارى واليانوفنشى والبليون والنهضة والفؤادى ثم طويل التيلة المستنبط من قطن «البيما» المستجلبة بذوره من الولاياتالمتحدة ويذكر أن أصل «البيما» هو القطن ميت عفيفي المصرى الذي أدخل إلي الولاياتالمتحدة سنة 1900 لإيجاد صنف مصري يوافق البيئة الأمريكية في المناطق الزراعية بولاية أريزونا وجنوبى كاليفورنيا ثم توالى استنباط أصناف الكازولى والجيزة 3 والجيزة 7 وكان أول فردى في حقل مزروع بالقطن الأشمونى في الفشن ببني سويف والذى يرجع إليه الفضل فى ارتفاع مستوى غلة فدان القطن بمصر إلى 5 قناطير لأول مرة في هذا القرن ومن ثم أمكن لعائد إنتاجه عام 1939 أن يعيد للدولة ما صرف على البحوث القطنية منذ ابتدائها من عام 1905 وتلاه صنف سخا4 ثم الوفير ثم الجيزة 23 وكان أول صنف اقتصادى ناجح يستنبط بالتهجين الصناعى هو الكرنك طويل التيلة من تهجين صنفي «المعرض» و«سخا3» وقد أدرج في جدول الأصناف التجارية عام 1940 التى أدت إلي أخذ «الكرنك» في الأفول كنجم داخلى وصل مكانه للمنوفى المستنبط من قبل قسم تربية النباتات بوزارة الزراعة بالتهجين الصناعى بين صنفى «الوفير» و«سخا3» ثم شهد عام 1963 عام زراعة الكرنك لآخر مرة ميلاد صنف طويل التيلة جيزة 68 ثم جيزة 70 الذي تضاعف إنتاجه عام 1980 وينفرد عن سائر الأصناف المصرية بأنه نشأ بالتهجين الصناعي بين القطن المصرى المنوفى وأحد الأقطان «البيما» الأمريكية لتتوالى الأصناف المستنبطة والمتداولة حالياً والتي تلقى قبولاً ورواجاً من جانب مختلف غزالى القطن في العالم ومن ثم تندرج الأصناف المنزرعة حالياً علي المستوى المحلى تحت 3 مجموعات هي طويل ممتاز ويشمل حالياً الجيزة 45 و70 و88 وطويل «مجرى» ويشمل حالياً الجيزة 86 و89 و85 وطويل «قبلى» ويشمل حالياً الجيزة 80 و83 و90 والهجين المبشر. نصيب مصر وعلى المستوى العالمى تندرج هذه الأصناف السابق سردها حسب طول تيلتها تحت مجموعة الأقطان فائضة الجودة وتسهم مصر بحوالى 45٪ إلى 50٪ من إجمالى الناتج العالمى حتي مطلع الأربعينات تليها نحو 10 دول منتجة للأقطان الفاخرة من أهمها أمريكا والسودان والصين والهند وغيرها من الدول ولأن إنتاج مصر يمثل 50٪ من حجم الإنتاج العالمى دعت مصر ضمن 8 دول رئيسية منتجة للقطن لاجتماع دولى عقد بواشنطن في سبتمبر عام 1939 لدراسة الموقف القطن العالمى وما يحيطه من مخاطر بعد تفاقم المخزون العالمي للقطن والتأثير السلبى، لذلك علي أسواق القطن.. هكذا كان قديماً حجم ومكانة مصر بقطنها المصرى والذي صار مثلاً السلعة الزراعية الضرورية لمصانع الغزل والنسيج للعالم ولإنجلترا علي وجه الخصوص! مصر تتنازل عن عرشها ظلت مصر تتبوأ الصدارة فى إنتاج المحصول، حيث بلغت حتى أربعينات القرن التاسع عشر المساحات المزروعة بالقطن زيادة على المليون فدان سنوياً في أقل التقديرات وهي مساحة تمثل خمس الأراضى الزراعية في مصر مما يبين إلى أى مدى كانت أهمية محصول القطن والذي كان في فترة الأربعينات علي سبيل المثال الملك المتوج في الزراعة المصرية مع تطور الحياة والزمن نشأت صناعات عريقة على ضفاف النيل اعتمدت علي محصول القطن منها صناعة الغزل والنسيج والزيوت والصابون والبويات والتي مع ظهور رجل الصناعة المصرى طلعت حرب خلق من هذه الصناعات كيانات ضخمة جمعت في ريف مصر بين الإنتاج والمزارعين والوحدات الصناعية في منظومة حضارية جديدة وضعت بالمجتمع المصرى إلى آفاق أوسط من التطور والإنتاج إلي أن جاءت ثورة يوليو واستخدمت القطن كورقة رابحة في صفقات السلاح، خاصة مع دول الكتلة الشرقية في زمن الحرب الباردة وتوسعت مصانع الغزل والنسيج مع مشروعات التنمية الصناعية في مصر من الخمسينيات والستينيات.. ومع سياسة التحكم في الدورات الزراعية حافظ القطن علي مكانته في خريطة الزراعة المصرية عدة عقود. ومع سياسة الانفتاح الاقتصادى وتوابعها من الخصخصة إلي بيع القطاع العام بدأت رحلة التراجع في زراعة القطن في مصر.. وكانت البداية بسياسة العدوان الوحشى علي الأراضى الزراعية من أجل العقارات والمبانى لتشهد مصر أكبر مذبحة للأراضى الزراعية الطينية، مما أدى إلي خسارة مصر لأكثر من مليون فدان من أجود الأراضى الزراعية التي تحولت إلي مبان خلال ال30 سنة الماضية ليكون العدوان علي الأرض الزراعية أول عدوان علي محصول القطن.. مع سريان الاعتقاد الخاطئ بأن زراعة الكانتالوب والخيار والفراولة أهم من زراعة القطن وأهم من صناعة النسيج وأن عوائدها أكبر من صادرات القطن وتناسى مؤيدو ومروجو هذا الاعتقاد الخاطئ أن بمصر أكبر من 3000 منشأة صناعية للغزل والنسيج تضم استثمارات تزيد على 17 مليار جنيه وتبلغ صادراتها السنوية أكثر من 3 مليارات جنيه، كما تناسى هؤلاء المروجون أن هناك مئات الآلاف من العمال في الأراضى الزراعية ومئات الآلاف في المصانع تعتمد حياتهم علي محصول القطن زراعة وإنتاجاً وحلجاً وغزلاً وصناعة وتوزيعاً وتصديراً.. والنتيجة كانت انهيار زراعة القطن وانهيار صناعة الغزل والنسيج في ضربة واحدة بعدما تم بيع عدد كبير من مصانع الغزل والنسيج والمحالج لصالح طبقة من أصحاب المصالح. ولنفس الأغراض تراجعت المساحات المزروعة من القطن أمام التوسع في زراعة الأرز، خاصة أن محصول القطن لم يعد يحقق عائداً اقتصادياً يشجع الفلاح علي زراعته بعدما استمرت سياسة الحكومات المتعاقبة علي عدم دعم الفلاح وتشجيع زراعة القطن لحساب أباطرة المال والأعمال ممن يحرصون علي أن يظل باب استيراد القطن مفتوحاً علي مصراعيه فتراجعت عائدات الذهب الأبيض وانخفضت المساحة المنزرعة من مليون فدان عام 89، 90 إلى 550 ألف فدان في موسم 2002/2003 وكان إنتاج مصر من الأقطان في الثمانينيات يتراوح بين 7 و8 ملايين قنطار سنوياً انخفض إلي 4.5 مليون قنطار في عام 2003 إلي أن أصبح القطن المصرى في آخر قوائم الإنتاج الزراعي في مصر بصادرات للأسواق الخارجية لا تتجاوز ال150 مليون دولار والفضل في انهيار هرم مصر الرابع كان تلاعب الدولة في أسعار توريده بين الحين والآخر، ففي عام 2003 بلغ سعر القنطار 1300 جنيه ثم انخفض إلي 600 جنيه في عام 2004 وبلغت خسائر القطن في هذا الوقت 2.3 مليار جنيه خلال عام واحد. وأمام هذه الظروف الصعبة وتلك التحديات وألاعيب الدولة لصالح المستوردين «هرب» الفلاح المصرى من زراعة القطن مع ارتفاع تكاليف زراعته ورفع الحماية عنه وأمام ارتفاع أسعار الأسمدة والمبيدات وتكاليف الزراعة ومن ثم تواجه ولاتزال صناعة الغزل والنسيج تواجه ظروفاً أصعب أمام قلة الإنتاج وتراجع الصادرات وغزو المنسوجات المستوردة وخاصة الصينية للأسواق المصرية مما زاد من حجم الديون علي شركات الغزل والنسيج ووصلت إلى 8 مليارات جنيه وكان الحل من جهة الحكومة بيع هذه المصانع! وهكذا لم يتبق للقطن المصري سوي بعض الأسواق في دول آسيا مثل الهند وباكستان وهي دول تشترى القطن الخام وتعيد تصديره لمصر في صورة منسوجات رخيصة رغم أن مصانعنا كانت الأولى بذلك وكل ذلك لحساب أباطرة المال والأعمال من المستوردين والمصدرين علي حد السواء الذين دائماً ما ينجحون في قهر الحكومة لفتح أو غلق الاستيراد لأي منتج. هذه ليست المرة الأولى ولا الأخيرة التي تنحاز الحكومة لحساب أصحاب المال والأعمال، فقد سبق وتعمدت إهمال الزراعة القمح لفتح أبواب الاستيراد على مصراعيها للمستوردين، وكذلك أهملت زراعة القطن فيما سبق لتزرع الخيار والكنتالوب وها هي اليوم تتراجع عن قرار حظر استيراد القطن لتستورده والمنسوجات من الخارج. ويبقى تعليق! إلي متي تستمر تلك الخيوط المتشابكة بين مصالح المنتفعين والحكومة ليكون الضحية هو الشعب رغم ثورتيه الكبيرتين، حيث بقيت السياسات التي تزيد الغنى ثراء والفقير فقراً.