خرجت أمريكا من الحرب العالمية الثانية سنة 1945 كأقوى دولة فى العالم، عسكرياً واقتصادياً، وقبيل نهاية الحرب اجتمعت وفود دول العالم فى بريتون وودز لتقرير النظام المالى العالمى بعد الحرب، وتم الاتفاق على أن يكون الدولار الأمريكى هو عملة التعامل العالمية لقوة الاقتصاد الأمريكى وضمان الحكومة الأمريكية لثبات سعره بضمان سبائك الذهب الهائلة المودعة بقلعة فورت فوكس الأمريكية تحت حراسة عسكرية هائلة وتم تثبيت سعر الدولار على أساس 35 دولاراً لأوقية الذهب، تتعهد الحكومة الأمريكية برفع أوقية ذهب لكل من يدفع مقابلها 35 دولاراً والعكس بالعكس. وظل الحال كذلك حتى سنة 1971 عندما غرقت أمريكا فى حرب فيتنام التى أرهقت ميزانيتها بمليارات الدولارات، فقامت أمريكا بأكبر عملية نهب فى تاريخ العالم إذ تخلصت من كمية ضخمة من الذهب المودع فى فورت فوكس ببيعه لسداد ديون الحرب وأعلنت إيقاف العمل بضمان الدولار بالذهب وأنها لن تكون ملزمة بدفع أوقية ذهب لمن يدفع لها 35 دولاراً، وقامت فى نفس الوقت بطبع مليارات الدولارات الورقية دون أى رصيد ذهبى أو خلافه لمواجهة نفقات الحرب. وقامت بإنذار دول البترول الخليجية بأن من يرفض الدولار الورقى الذى لا رصيد له سداداً لثمن البترول يكون تصرفه إعلاناً للحرب على أمريكا، واستسلمت دول البترول، وكانت النتيجة موجة هائلة من التضخم فى العالم وارتفاع أسعار الذهب والنفط إلى عنان السماء. بقيت أمريكا رغم ذلك أكبر اقتصاد فى العالم وأقوى دولة عسكرياً، وإن كانت الترسانة النووية الروسية بالذات هى الرادع الأقوى لانفلات أمريكا، حيث بقيت روسيا الدولة الوحيدة فى العالم التى تستطيع محو أمريكا من الوجود فى عملية انتحار متبادلة، وهو ما يكاد يستحيل تصوره وبدأ مركز الثقل العالمى يتحول تدريجياً أو ببطء شديد من الغرب إلى الشرق حيث روسياوالصين والهند، وبقى الاقتصاد الأمريكى فى المقدمة يلاحقه الاقتصاد الصينى بسرعة شديدة، حتى حل العام الحالى 2014 يحمل نذر الشؤم لأمريكا. فلأول مرة فى التاريخ يعلن صندوق النقد الدولى الذى تديره وتسيطر عليه أمريكا عملياً بالمناسبة - أنه بنهاية 2024 يقفز الاقتصاد الصينى إلى المقدمة ويصبح أكبر اقتصاد فى العالم بحجم إنتاج إجمالى 17.6 تريليون دولار، ويليه الاقتصاد الأمريكى بحجم إنتاج إجمالى 17.4 تريليون دولار وإذا راعينا السرعة الفائقة التى تضاعف فيها حجم الاقتصاد الصينى فى السنوات الأخيرة فإننا ندرك ببساطة أن الفجوة بين الاقتصاد الصينى والاقتصاد الأمريكى والتى لا تزيد على 0.2 تريليون دولار حالياً لصالح الصين معرضة للاتساع الشديد فى المستقبل القريب. ولم تكفى الصين بذلك النصر الذى لم يكن متوقعاً حدوثه قبل سنة 2020 على أحسن تقدير بل بدأت العمل على إسقاط الدولار كعملة العالم الرسمية. وقد كتب المحلل الاقتصادى الشهير كينيت شورتيجن على موقع سويفت مقالاً بعنوان: «بينما تأخذ الصين مركز الصدارة الاقتصادية من أمريكا، هل العملة الاحتياطية خطوتها التالية؟ يقول شورتيجن إنه فى 8 أكتوبر أخذت الصين رسمياً موقع الصدارة كأكبر قوة اقتصادية فى العالم، مكتسحة أمامها أمريكا التى تتراجع طبقاً للمقاييس التى يستخدمها صندوق النقد الدولى، وبينما تفتح بقية دول العالم سريعاً أنظمتها المصرفية لإفساح المجال للصين بعملتها «اليوان» وعروض السندات الصينية، فهل تنتقل شعلة العملة الاحتياطى قريباً من يد أمريكا ليد الصين فى حين أن الاعتماد على الدولار يستمر فى التراجع كل يوم؟ فى 1944 اجتمعت الوفود فى بريتون وودز بولاية نيوهمبشير الأمريكية لبحث التصويت على نظام نقدى جديد وعملة احتياطية عالمية ومن هذا الاجتماع والاجتماعات التالية 1945 قرر المجتمعون منح هذه الميزة لأمريكا حيث إنها كان منتظراً أن تكون أقوى اقتصاد فى العالم وأكثرها ثباتاً بعد الحرب العالمية الثانية، وبالإضافة لذلك كانت أمريكا تحتفظ احتياطى من الذهب سيكون ضماناً للعملة الاحتياطية العالمية وبذلك يمكن لباقى الدول الثقة فى أن استعمال الدولار يضمن الاستقرار والانتعاش النسبى لاقتصاديات هذه الدول. ولكن بعد سبعين عاماً فإن أمريكا لم تعد أقوى اقتصاد فى العالم، ولم يعد احتياطى الذهب الذى يغطى عملتها العالمية موجوداً ويبدو الوقت مناسباً الآن للصين للحلول محل أمريكا لأخذ مكانها بعد عقود من هيمنة الدولار. آسف يا أمريكا فقد أخذت الصين لتوها مكانك لتصبح أكبر اقتصاد فى العالم طبقاً لما نشره صندوق النقد الدولى، وقد وصف كريس جايلز فى جريدة الفينانشيال تايمز هذا التحول، كما حذرنا فى أبريل الماضى ذاكراً أن هذا التحول من أمريكا إلى الصين على وشك الحدوث. وأساساً فإن أساليب صندوق النقد الدولى تعدل فى حساباتها حسب القوة الشرائية للعملة، وقد شرح ذلك بإعطاء أمثلة: أساليب صندوق النقد الدولى هى قياس الناتج القومى الإجمالى مقارنة وبالقيمة السوقية، وبالقوة الشرائية للناتج الإجمالى، وعلى أساس القوة الشرائية فإن الصين قد تغلبت لتوها على أمريكا وأصبحت أكبر اقتصاد فى العالم وقد فحصنا الجدول البيانى المرفق طبقاً لما أعلنه صندوق النقد الدولى، وهو يؤكد أنه بنهاية 2014 سيكون الإنتاج الصينى الإجمالى 16.48٪ من كل الإنتاج العالمى من حيث القوة الشرائية منسوبة إلى الدخل القومى المعدل، وهو 17.632 تريليون دولار ومقابل ذلك سيكون الرقم الأمريكى 16.28٪ من الإنتاج العالمى بما قيمته 17.416 تريليون دولار. والواقع أن الإنتاج الأمريكى الإجمالى قد يكون أسوأ من ذلك كثيراً مما توحى به هذه الأرقام، ففيما مضى اعتادت أمريكا أن تقيس الدخل القومى الإجمالى منسوباً إلى الإنتاج الفعلى، مع بقاء شريحة صغيرة مربوطة بإنفاق المستهلك وموارد دخل مختلفة، ولكن عندما انتقلت أمريكا فى حساباتها إلى اقتصاد مبنى على الاستهلاك أساساً، وهربت الصناعة إلى الشرق أو إلى المكسيك أضيفت أرقام أخرى للإنتاج الإجمالى مثل الإنفاق الحكومى والإنفاق العسكرى وبذلك بدا الإنتاج الكلى الأمريكى كأنه ينمو باستمرار ولا يتراجع. وحتى فى أوروبا حالياً فإن بعض الدول فى الاتحاد الأوروبى تضيف ما يصرفه المستهلك على المشروبات الروحية وعلى بائعات المتعة حتى لا تظهر إحصائيات اقتصادياتها فى حالة تراجع أو انكماش. إن المفتاح الفعلى لصعود العملة الصينية إلى مركز العملة الاحتياطية العالمية كان قدرتها على تعويم اليوان (العملة الصينية) وقبول معظم الدول التى تستخدم الدولار حالياً لما فعلته الصين، وقد تم ترسيخ هذه المفاتيح الأساسية حيث إن ثلاثاً وعشرين من أكبر المؤسسات المصرفية فى العالم قد أنشأت خطوط تعامل للتعامل مع اليوان الصينى على نطاق عالمى، وقد وقعت روسيا مع الصين اتفاقاً يتم بموجبه التعامل فى النفط بالروبل الروسى واليوان الصينى، بما يضمن الإجابة عن سؤال كيفية التعامل على نظام الدولار البترولى عالمياً. كانت أركان صعود أمريكا إلى مرتبة العملة الاحتياطية العالمية بعد الحرب العالمية الثانية هى وضعها كأكبر اقتصاد فى العالم وقدرتها على تقديم عملة عالمية مستندة إلى غطاء ذهبى حقيقى، ولكن بعد سبعين عاماً وتوقيع هذا الاتفاق لم يعد اقتصاد أمريكا أكبر اقتصاد فى العالم ولم تعد عملتها مضمونة بغطاء ذهبى حقيقى، ولم تعد فى العالم سوى دولة واحدة لديها حالياً هاتان الميزتان اللتان كانتا لدى أمريكا، وهى الصين ولن يمر وقت طويل قبل أن تتجه بقية دول العالم طواعية إلى التصويت بأصواتها أو بمحافظ نقودها على وضع ثقتها فى القوة الاقتصادية الأولى الجديدة. وإلى هنا ينتهى تقرير المحلل السياسى شورتيجن المبنى على حقائق وأرقام صماء يؤيدها أكبر صرح اقتصادى غربى تسيطر أمريكا على إدارته وهو صندوق النقد الدولى، وبذلك فلا مجال للتشكيك فى هذه الحقائق. وإذا نظرنا إلى هذا الأمر من منظور سياسى واستراتيجى عالمى فإننا لا يمكن أن ننسى مذكرة استراتيجية الأمن القومى الأمريكى فى القرن الحادى والعشرين التى قدمها مجرم الحرب جورج بوش الابن رئيس أمريكا عندئذ فى سبتمبر 2002 للكونجرس الأمريكى بإيعاز من عصابة المحافظين الجدد المحيطة به والتى كانت تدمير سياسة أمريكا وقتها، والمكونة من مجموعة يهودية صهيونية فى غالبيتها محمومة فى رغبتها للسيطرة على العالم، والتى دفعت بوش إلى غزو أفغانستان ثم العراق بعد مسرحية 11 سبتمبر 2001 التى أحسنت إخراجها أمام العالم المبهوت بنسف برجى مركز التجارة العالمى فى نيويورك فقد حذر بوش الصين صراحة فى مذكرته للكونجرس سنة 2002 قائلاً إن على الصين ألا تركز على تطوير أسلحتها، لأن أمريكا لن تسمح لها بالوصول لمستوى تسليح يهدد وجود أمريكا كأكبر قوة عسكرية فى العالم، وأن على الصين بدلاً من التسليح محاولة رفع مستوى معيشة شعبها، وأمام هذا التهديد الواضح بشن حرب استباقية على الصين وطبعاً على روسيا وإيران فى نفس الوقت، فهل يقترب العالم من حرب الفناء الكبرى «هيرماجدون» التى ورد ذكرها فى سفر الرؤيا بإنجيل العهد الجديد نتيجة جنون عصابة من الذئاب المسعورة التى تسيطر على مقاليد السلطة فى واشنطن. نائب رئيس حزب الوفد