في صباح الأحد 5 أكتوبر (تشرين الأول)، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» افتتاحية بالغة الحدة في نقد مصر وأحوالها، وكان الجديد فيها أنه لم يكن فيها جديد على وجه الإطلاق، على الأقل عما سبق أن نشرته الصحيفة الشهيرة من قبل، سواء في شكل افتتاحيات أو مقالات بقلم أشهر كتابها. القائمة جاءت كما هي في كل مرة؛ أن ما جرى في مصر في 3 يوليو 2013 كان انقلابا، وأن ما جرى من اقتحام «رابعة» كان مذبحة صينية، وأن الممارسات السياسية للسلطة لم تختلف (إن لم تزد) عن تلك التي كانت تجري في عهد الرئيس حسني مبارك، وما بقي من القائمة يمكن أن يتخيله القارئ بما فيه تلك النهاية التي تطالب الحكومة الأميركية بوقف المعونات العسكرية عن مصر، واستخدامها للضغط من أجل سلوكيات معينة تجعل من مصر دولة صالحة للعطايا الأميركية. الافتتاحية هكذا تقليدية، وتكاد تكون منقولة من افتتاحيات سبقت. وباختصار، فإنه ليس من الأمور المعتادة لصحيفة أحرزت شهرتها؛ لأنها تقدم لقارئها، سواء كان من صناع القرار الذين يتلهفون على قراءتها كل صباح، أو من جمهور القراء الذي يتعلم منها كل يوم. المدهش أكثر أن الافتتاحية ذاتها تبدو وكأنها خرجت من أحد أدراج هيئة التحرير، لأن ظروفا كثيرة تغيرت منذ بدأت «نيويورك تايمز» ورفاقها في عدد من مراكز التفكير في تصوير مجرى الأحداث في مصر. تغير أولا أن الرئيس عبد الفتاح السيسي تقابل مع الرئيس باراك أوباما في نيويورك، وفي شكل اللقاء كان وضع النهاية لفكرة «الانقلاب» ودفنها إلى غير رجعة، وفي مضمونه كانت القائمة طويلة بالمصالح «المشتركة» التي فيها لأميركا قدر ما فيها لمصر. وتغير ثانيا أن الرئيس السيسي ألقى خطابا في الجمعية العامة للأمم المتحدة جعل من المجتمع الدولي، بعد الاعتراف بالأوضاع الحالية في مصر، شريكا في الحرب على الإرهاب، التي تخوضها حاليا مصر وأيضا الولاياتالمتحدة. وتغير ثالثا أن العلاقة بين مصر والمجتمع الدولي تغيرت خلال الفترة الأخيرة نتيجة قيام التحالف الدولي والإقليمي بشن الحرب على «داعش»، وهي حرب طويلة، ورأتها مصر شاملة لكل أشكال الإرهاب في المنطقة، سواء في سوريا والعراق، أو في ليبيا ومصر، ومن ثم فقد كان منطقيا أن تستأنف أميركا علاقتها السياسية والعسكرية مع مصر، سواء رأت «نيويورك تايمز» حكمة في ذلك أو لم ترَ. وتغير رابعا، وهو ربما الأهم، أن الأحوال في مصر لم تعد كما كانت، فقد تفكك تحالف «دعم الشرعية» الذي يقوده الإخوان المسلمون، وطلبت قطر من قيادات «الإخوان» مغادرة البلاد. ومن جانب آخر، فإن الأمن في مصر آخذ في التحسن، أما الاقتصاد فقد تحسن بدرجة ملحوظة. وببساطة، تغير توازن القوى لصالح ثورة يونيو 2013، وكان ذلك نتيجة تطبيق خريطة الطريق التي لم يبقَ منها إلا الانتخابات التشريعية المقررة قبل نهاية العام، والخطوات الجريئة للإصلاح الاقتصادي، والموقف الاستراتيجي الرائع لدول الخليج، خاصة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، في وقفتها العتيدة إلى جانب مصر. وسط كل هذه التطورات الكبرى ذات الطبيعية الاستراتيجية والمصيرية، فإن الحديث عن «الرئيس المنتخب»، والتهديد بأن الإخوان المسلمين سوف يتحولون من «الاعتدال» إلى التطرف، من قبيل الكلام «الساكت»، كما يقول الإخوة في السودان، الذي فضلا عن أن به حفنة كبيرة من الأكاذيب، مثل تعضيد تقرير «هيومان رايتس ووتش»، فإنه ليس له قيمة عملية تُذكر. وبشكل ما فإن «نيويورك تايمز» تفتقد في هذه الافتتاحية أهم مميزاتها التي جعلتها في المكانة التي وصلت إليها، وهي المعلومات الجديدة التي توردها، والتحليل الذي لم يسبقها إليه أحد، فلا جاءت بالأولى، ولا أفضت إلى الثانية. وربما كان للأمر بعد آخر كثيرا ما يغيب عن جماعة منا لديها حالة من الرهبة والارتعاد إزاء كل ما يرد من الصحيفة الأميركية المرموقة التي تقود بالفكر الجناح الليبرالي في الساحة السياسية الأميركية. فبالصدفة البحتة جاءت الافتتاحية في أعقاب ورشة عمل كبيرة عن الإعلام المصري نظمتها مدرسة جورج واشنطن للإعلام والشؤون العامة بجامعة جورج واشنطن، ومنظمة «غالوب» لاستطلاعات الرأي العام، ومبادرة الحوار المصري - الأميركي. ومن دون الدخول في تفاصيل ورشة العمل التي شارك فيها نحو 30 من المصريين الخبراء والممارسين، ومثلهم من الأميركيين نجوم مؤسسات إعلامية وأكاديمية مرموقة هي الأخرى، فإن الواضح الآن هو أن الساحة السياسية الأميركية أكبر بكثير من «نيويورك تايمز» وافتتاحياتها التي باتت معتادة. والواضح ممن قابلناهم في هذه الورشة أن هناك حالة من اليقظة الأميركية نحو الشرق الأوسط تجعل المؤسسات المختلفة، والخبراء المتنوعين، يجدون أن هناك حاجة لمراجعة الأحوال كلها من يناير (كانون الثاني) 2011 حتى الآن. هؤلاء أصبحوا سابقين بكثير من حيث المعلومات والتحليل والمعرفة لما ورد في الصحيفة الشهيرة، خاصة أن كثيرا منهم له فروع موجودة بالفعل في بلدان عربية، كما أن مؤسسة «غالوب» ذاتها قامت بكثير من استطلاعات الرأي العام في مصر، والبحوث الناتجة عنها، التي تعطي كلها صورة عن الحقائق والأوضاع في مصر، تختلف تماما عن تلك التي توحي بها الافتتاحية المذكورة. الأهم ربما من كل ذلك أنه حتى الفورة «الليبرالية» في أميركا، التي أفرزها نجاح باراك أوباما مرتين، قد وصلت إلى قمتها، وأخذت بدورها في الانحسار فاتحة الأبواب إلى توجهات محافظة وواقعية في النظر إلى طبيعة التطورات التاريخية. لا نشير هنا فقط إلى أن الجمهوريين آخذون في التمدد على حساب الديمقراطيين من ناحية الشعبية واحتمالات الفوز بالأغلبية في مجلس الشيوخ، مضافا إلى أغلبيتهم في مجلس النواب، ولكن نشير إلى أن مراكز للتفكير والمعلومات ومنظمات أهلية وصحفا ومحطات تلفزيونية لها مواقف مختلفة عن «نيويورك تايمز» في نظرتها إلى مصر وما جرى ويجري فيها. والحقيقة أن هذا التحول ربما كان السبب الرئيس9 في أن الرئيس أوباما أخذ الموقف الذي اتخذه من ضرورة استخدام القوة العسكرية إزاء «داعش»، وهو الذي ظل مترددا في استخدامها طوال السنوات الماضية، اللهم إلا في العمليات المحدودة لمقاومة الإرهاب باغتيال قادته.. إذا وضعنا كل ذلك في الحسبان، فإن افتتاحية «نيويورك تايمز» ومثيلاتها يمكن أن توضع في حجمها الصحيح، وهو الذي يجعل إهمالها نوعا من الغفلة، أما الارتجاج أمامها، واعتبارها عنوان الفشل في التواصل مع الإعلام الأميركي وأميركا كلها في العموم، فإنه يصبح نوعا من الحماقة. نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط