بسبب العدوان الإسرائيلي.. عمليات إجلاء واسعة لرعايا دول عديدة من لبنان    محافظ الغربية يستقبل وزير الشباب والرياضة في مستهل زيارته للمحافظة    أمن القاهرة يضبط 24 ألف نسخة من المصحف الشريف دون تصريح داخل مطبعة    النقابة العامة للعاملين بالنيابات والمحاكم تطلق النسخة الثالثة من الدورة التثقيفية    معسكر تدريبي بين «حياة كريمة» و«صناع الحياة» لتطوير ملف الحالات الأولى بالرعاية    مشروعات جديدة لشركة سكاتك النرويجية في مصر لتعزيز الطاقة المتجددة    تفاصيل أول نوة خريف.. أمطار غزيرة ورياح شديدة تضرب الإسكندرية في هذا الموعد    إصابة 12 عاملا في حادث اصطدام ميني باص بشجرة بالإسماعيلية    بعد انطلاق فعالياته.. 5 أفلام مصرية تشارك في مهرجان وهران السينمائي    اليابان تجلي 16 من رعاياها من لبنان بطائرة عسكرية    التضامن: تسليم 801 وحدة سكنية في 12 محافظة للأبناء كريمي النسب    موعد مباراة منتخب مصر ضد موريتانيا في تصفيات أمم أفريقيا    مدرب بايرن ميونيخ: من المؤسف غياب موسيالا.. وهذه نقطة قوة فرانكفورت    خبير تربوى: الدولة تولي اهتمامًا كبيرًا بالتعليم التكنولوجي الذي يؤهل إلى سوق عمل    خبيرة: مشروع رأس الحكمة أحدث استقرارا نقديا انعكس إيجابيا على مناخ الاستثمار    رئيس الضرائب توضح تفاصيل جديدة بشأن إصدار فواتير إلكترونية    نيران في غرفة الحاسب الآلي.. حريق داخل مدرسة في المنيا    خلال 24 ساعة.. تحرير 534 مخالفة لغير الملتزمين بارتداء الخوذة    «لا يشترط الخبرة».. الشباب والرياضة تعلن وظائف خالية جديدة لجميع المؤهلات (تفاصيل)    «إسلام وسيف وميشيل».. أفضل 3 مواهب في الأسبوع الخامس من كاستنج (فيديو)    المطرب محمد الطوخي يقدم «ليلة طرب» في مهرجان ومؤتمر الموسيقي العربية    احتفالًا بانتصارات أكتوبر.. ورش وعروض فنية ضمن فاعليات قصور الثقافة    الأوقاف: افتتاح البرنامج التدريبي لمجموعة من علماء دور الإفتاء الماليزية    تقديم أكثر من 103 ملايين خدمة طبية متنوعة ضمن حملة «100 يوم صحة»    باحث سياسي: إسرائيل تحاول إعادة صياغة شكل المنطقة بالتصعيد المستمر    «منظومة الشكاوى» تكشف عن الوزارات والمحافظات صاحبة النصيب الأكبر من الشكاوى    إطلاق حملة لصيانة وتركيب كشافات الإنارة ب«الطاحونة» في أسيوط    موشيه ديان يروى شهادته على حرب 73: مواقعنا الحصينة تحولت إلى فخاخ لجنودنا.. خسرنا كثيرا من الرجال ومواقع غالية    في حوار من القلب.. الكاتب الصحفي عادل حمودة: "أسرار جديدة عن أحمد زكي"    ابنة علاء مرسي تحتفل بحنتها على طريقة فيفي عبده في «حزمني يا» (صور)    رئيس "الأسقفية" مهنئًا المصريين بذكرى أكتوبر: روح النصر تقودنا في معركة التنمية    3 دعامات في القلب.. تفاصيل الأزمة الصحية المفاجئة لنشوى مصطفى    ترشيدًا لاستهلاك الكهرباء.. تحرير 159 مخالفة للمحال التجارية خلال 24 ساعة    تخفيضات 10%.. بشرى سارة من التموين بشأن أسعار السلع بمناسبة ذكرى أكتوبر    استشهاد 5 فلسطينيين بقصف إسرائيلي علي بيت حانون    برلماني يحذر من مخاطر انتشار تطبيقات المراهنات: تسمح بقرصنة بيانات المستخدمين    فرد الأمن بواقعة أمام عاشور: ذهبت للأهلي لعقد الصلح.. واللاعب تكبر ولم يحضر (فيديو)    رئيس جامعة الأزهر: الله أعطى سيدنا النبي اسمين من أسمائه الحسنى    فضل الصلاة على النبي محمد وأهميتها    خاص- محامي أتشمبونج: فيفا سيخطر الزمالك بايقاف القيد    الولايات المتحدة تضرب 15 هدفًا للحوثيين في اليمن    لموظفي القطاع الخاص.. موعد إجازة 6 أكتوبر 2024    للتغلب على التحديات.. «الصحة» تبحث وضع حلول سريعة لتوافر الأدوية    إنتر ميلان يواجه تورينو اليوم في الدوري الإيطالي    شاهندة المغربي: استمتعت بأول قمة للسيدات.. وأتمنى قيادة مباراة الأهلي والزمالك للرجال    تقرير أمريكي: السنوار اتخذ مواقف أكثر تشددا.. وحماس لا ترغب في المفاوضات    حاول إنقاذه فغرقا معًا.. جهود مكثفة لانتشال جثماني طالبين بهاويس الخطاطبة بالمنوفية (أسماء)    «تنمية المشروعات» يضخ 2.5 مليار جنيه تمويلات لسيناء ومدن القناة خلال 10 سنوات    طريقة عمل الكرواسون بالشيكولاتة، الوصفة الأصلية    غارة إسرائيلية عنيفة على الضاحية الجنوبية لبيروت    تعديل تركيب قطارات الوجه البحري: تحسينات جديدة لخدمة الركاب    إشراقة شمس يوم جديد بكفر الشيخ.. اللهم عافنا واعف عنا وأحسن خاتمتنا.. فيديو    إسلام عيسى: انتقالى لسيراميكا إعارة موسم منفصل عن صفقة أوجولا    برج القوس.. حظك اليوم السبت 5 أكتوبر: اكتشف نفسك    "حزب الله" يكشف قصة صور طلبها نتنياهو كلفت إسرائيل عشرات من نخبة جنودها    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 5-10-2024 في محافظة البحيرة    ندى أمين: هدفنا في قمة المستقبل تسليط الضوء على دور الشباب    رئيس جامعة الأزهر: الحروف المقطعة في القرآن تحمل أسرار إلهية محجوبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



21 يوما في أمريكا.. الحلقة الاخيرة
نشر في التحرير يوم 26 - 04 - 2014


كتب: محمد هشام عبيه
من داخل نيويورك تايمز.. جريدة الزجاج الشفاف والمليون نسخة
. العدد الأسبوعي من نيويورك تايمز الذي يصدر كل أحد يضم 9 ملاحق في 186 صفحة ويباع بستة دولارت!
. الجريدة لديها 75 مراسلا في العالم وتوزع يوميا 1.1 مليون نسخة واعتذرت في صفحتها الأول عن دعمها لغزو العراق
. نائب رئيس قسم الخارجي: نعرف جيدا أنه إذا لم تفهم بعمق ما الذي يحدث في مصر فلن تفهم ما يحدث في الشرق الأوسط
. سلايكمان: نصيحتي لأي صحفى "لا تصدق ما يقال لك في المرة الأولى".. ولست مهتما بطغيان الإنترنت.. أنا مهتم بالصحافة
الآن ونحن في اليوم قبل الأخير في أمريكا، حان وقت المكافأة الكبرى لأي صحفي يأتي لزيارة الولايات المتحدة.. "نيويورك تايمز".
نيويورك تايمز واحدة من أقدم الصحف التي لاتزال تصدر حتى اليوم في العالم، عمرها 163 سنة، صدر العدد الأول منها في 18 سبتمبر 1851 من نيويورك، وفاز صحفيوها ب 112 جائزة "بوليترز" – أو نوبل الصحافة- وهو أكبر عدد من جوائز البوليترز الذي ظفرت به أي جريدة على مستوى العالم، أما الموقع الإلكتروني لنيويورك تايمز فهو الموقع الإخباري الأكثر زيارة في الولايات المتحدة ويزوره شهريا 30 مليون قارئ، أي بمعدل مليون زائر يوميا، رغم أن كثير من خدماته مدفوعة الثمن، لاحظ أن النسخة المطبوعة من الجريدة نفسها توزع يوميا 1.1 مليون نسخة، وهو رقم يتفوق على منافستها اللدود "واشنطن بوست" بنحو 500 ألف نسخة كاملة.
ونحن نخطو داخل المبنى الزجاجي الضخم الذي يقع عند تقاطع الشارع الثامن و"تايمز سكوير" في حي مانهاتن الشهير، سرت رعشة خفيفة في جسد المرء كتلك التي تنتابه وهو يلامس قطع أثرية، الرعشة ليس فقط تتعلق باسم وتاريخ نيويورك تايمز، وإنما بسمعتها الصحفية وبقوة تأثيرها الممتدة بطول العالم، نحن الآن في مكان يمنح هذه المهنة الكثير، ولذا فالرهبة بين أضلاعه منطقية.
بدأ بناء المبنى الجديد لنيويورك تايمز عام 2000، وتم افتتاحه عام 2007، أي أن تشييده استغرق نحو ثمان سنوات، ورغم أن الصدفة جعلت تزامن بناءه مع أحداث 11 سبتمبر عام 2001، إلا أن كثيرين يرون في المبنى المتألق ليل نهار، رمزا ل"عالمية نيويورك"، وانفتاحها على كل بلدان الدنيا، رغم الانتكاسة التي دفعت كثير من الأمريكيين إلى مزيد من التقوقع والانغلاق عقب 11 سبتمبر وما تبعه من دمار في شتى أنحاء العالم. وتأتي عالمية مبنى نيويورك الجديد من كون أن صاحب تصميمه هو الفنان الإيطالي "إنزو بيانو" الذي يقيم حاليا في باريس والمعروف بأنه واحد من أهم مصممي المعمار في العالم كله، وله الكثير من البصمات العمرانية الفائقة في مختلف الدول، أبرزها "برج جسر لندن" والمقر الحالي لمهرجان برلين السينمائي، لكنه يعتبر مبنى نيويورك تايمز من أفضل ما أنجزه في حياته.
يتكون المبنى "الأوروبي الأصل" من 52 طابقا، تحتل فيه نيويورك تايمز الستة طوابق الأولى فقط، وفي القلب منها حديقة، لايمكن التسلل إليها لأنها محمية من المدخل بواجهات زجاجية، لكنك في كل الأحوال، ستطل على الحديقة عندما تنظر من النافذة، مع مراعاة أن واجهات المبنى الزجاجية الشفافة جميعها تجعلك تطل على الشوارع مباشرة مشتبكا بالنظرات مع السائرين الذين يمكنهم بمزيد من التدقيق أن يروا ما الذي يحدث داخل أهم صحيفة أمريكية وهو يتجولون في الشارع!، وفي كل الأحوال فإن ذلك يعكس فلسفة ملاك نيويورك تايمز عندما طلبوا من المصمم الإيطالي تشييد المقر "نريد مبنى يرمز إلى علاقة الشفافية القائمة دائما بين الصحيفة وقرائها".. وقد كان.
قبل زيارة المبنى الملهم، ابتعت العدد الأسبوعي من نيويورك تايمز الذي يصدر كل أحد، العدد بستة دولارات كاملة "اي 42 جنيها مصريا تقريبا"، لكنه عدد دسم "ملظلظ" بدرجة لايصدقها عقل، وسيحتاج المرء لأكثر من اسبوع حتما للانتهاء من قراءته، إذ يضم الإصدار اليومي التقليدي من الجريدة في 20 صفحة، وملحق في 12 صفحة عن الشئون الدولية، وملحق ثاني في 14 صفحة عن السفر وأماكن الفسح، وملحق ثالث في 22 صفحة عن آخر خطوط الموضة للرجال والسيدات، ثم ملحق رابع- أتمنى الا أكون قد أخطأت في العد!- في 26 صفحة عن الفنون والترفيه، ثم ملحق خامس في 60 صفحة كاملة "BookReview" عروض للإصدارات الجديدة والمهمة من الكتب، ثم ملحق سادس متخصص في الاقتصاد في 10 صفحات وملحق سابع في 12 صفحة لمقالات الرأي، وأخيرا ملحق ثامن في 10 صفحات للرياضة!
هكذا إذن العدد الأسبوعي من نيويورك تايمز جريدة + 8 ملاحق بإجمالي 186 صفحة.. ثم بعد ذلك يقولون أن الصحافة المطبوعة في خطر! ربما هذا حقيقي لكنه ليس بالنسبة لنيويورك تايمز قطعا. لاحظ أن ملحق الكتب يمثل ثلث الجريدة تقريبا من حيث عدد الصفحات، هذا يوضح حجم حركة الطباعة والنشر في نيويورك وأمريكا إجمالا، ودرجة اهتمام القراء بمتابعة كل ما هو جديد في ذلك المجال، .. يستحق العدد بكل تأكيد 6 دولارات وأكثر!، ولو أن هناك نسخة عربية من نيويورك تايمز الأسبوعي، لصلحت تماما لأن تكون هدايا يتبادلها العشاق في عيد الحب!
في غرفة الاجتماعات، التقينا "مايكل سلاكمان" Michael Slackman نائب رئيس قسم الشئون الخارجية في نيويورك تايمز، وهو شخص وسيم يشبه جورج كلوني كثيرا، يتحدث بهدوء وثقة، عمل مراسلا لفترة في موسكو وبرلين، ويعتبر نفسه سيئ الحظ عندما جاء مراسلا لنيويورك تايمز في مصر ولديه سبب منطقي فعلا "بعد العمل لسنتين في القاهرة. عدت إلى نيويورك يوم 24 يناير 2011"!.يصمت للحظة قبل أن يفسر أكثر " إذا لم تفهم بعمق ما الذي يحدث في مصر، لن تفهم ما يحدث في الشرق الأوسط".
لدى نيويورك تايمز 75 مراسلا صحفيا و42 مكتبا دوليا يغطون مايحدث في العالم، ومع ذلك يعتبر "سلاكمان" أن جريدته الأمريكية الأشهر انسحبت من التغطية الخارجية لأسباب مادية بحتة معتبرا أن تغطية الأخبار الدولية مكلفة، ورغم أن نيويورك تايمز لها مراسلين ي القاهرة وتونس وليبيا ولبنان وإيران وإسرائيل، إلا أنه يعترف قائلا "لانغطي بعمق في الشرق الأوسط".نسأل عن المهمة التي يكلف بها أساسا كل مراسل لنيويورك تايمز عندما يكون في أي بلد في العلم، فيرد "المراسل في أي بلد أجنبي هدفه الرئيسي أن يكون شاهدا على ما يحدث، وأن يقدم الحقيقة للناس بصورة موضوعية رغم أنه من الطبيعي أن تكون له وجهة نظر قطعا عندما يكتب، رسالتنا أن نجعل القراء ينظرون للعالم من خلال عيون مراسلينا والتحدى أن نظل صامدين في ذلك، ونصيحتنا الأبدية لأي صحفي هي لا تصدق ما يقال لك في المرة الأولى".
ومثلما يحدث في دول العالم، يبدو في بعض الأحيان اهتمام القراء بقضايا أو موضوعات معينة خارجا عن المألوف، يروى سلايكمان قصة مقال بوتين في نيويورك تايمز نموذجا على ذلك "في الحادي عشر من سبتمبر عام 2013، كانت افتتاحية نيويورك تايمز بعنوان «نداء من أجل سوريا»، المفاجأة هنا أن من كتب المقال هو الرئيس الوسي فلاديمير بوتين. كانت هذه هي المرة الأولى التي يختص فيه رئيس روسي صحيفة أمريكية بمقال كتبه خصصيا له، وفي هذا الوقت الذي كانت يه الأجواء متوترة في سوريا، وسط أحاديث مؤكدة عن رغبة أمريكا في التدخل عسكريا هناك قبل أن تتراجع عن ذلك كتب بوتين قائلا "إن توجيه ضربة محتملة من قبل الولايات المتحدة ضد سوريا سوف يؤدي إلى مزيد من الضحايا الأبرياء والتصعيد، وربما ينتشر الصراع إلى ما هو أبعد من الحدود السورية». ونفى حمايته للحكومة السورية، منتقدا تدخل الولايات المتحدة في شؤون الدول الأخرى، وتساءل «هل هذا في مصلحة أميركا على المدى الطويل؟ أشك في ذلك". يصمت سلايكمان للحظات قبل أن يضيف "اثار المقال ردود أفعال كثيرة وجدل محتدم، لكن الغرض تحقق.. كنا نريد أن نساعد الأمريكيين على رؤية كيف ينظر الآخرين لهم، وكان لافتا أن مقال بوتين قرأه على الموقع الإلكتروني عدد أكبر ممن قرأ خبر قيام أنجلينا جولي بعملية استئصال لثدييها.. رغم أن هذا الخبر الأخير كان الأول في كل المواقع الأخبارية العالمية تقريبا".
لايخشي نائب رئيس القسم الخارجي بنيويورك تايمز من طغيان الصحافة الإلكترونية على الصحافة المطبوعة، للدقة. هو غير مهتم ولديه الأسباب المقنعة "سنبقى على قيد الحياة. أنا لست مهتما بالوسيلة التي نقدم من خلالها الأخبار. أنا مهتم بالصحافة.ونجاح الإنترنت وانتشاره يؤكد أن هناك وسيظل هناك دوما قصص صحفية ضخمة. ثم أن نيويورك تايمز لا تتراجع التوزيع بل أن توزيعها يزيد. القصة هنا ليست في التوزيع وإنما في الأرباح".
ونحن ناخذ جولة في "غرفة أخبار" نيويورك تايمز، وهو – كما هو متوقع- عصرية ومفتوحة بلاحواجز كتلك التي يمكن تشاهدها في المسلسل الأمريكي الشهير "نيوزروم"، نسأل " هل هناك سرا يقف وراء نجاح وصمود نيويورك تايمز لأكثر من 150 عاما"، يبتسم كما يفعل جورج كلوني عندما يسأله أحدهم عن سر وسامته وأناقته الأبديين، قبل أن يقول " الأسباب كثيرة، لكن ربما يكون السبب الأساسي هو التزام أسرة سولزبيرج Sulzberger المالكة للجريدة بقيم الصحافة جيل وراء جيل، ثم أن نيويورك تايمز تحظى بمصداقية دولية من الصعب خدشها. هذا سبب مهم أيضا".
قصة الأسرة المالكة لنيويورك تايمز ملهمة بالفعل. في عام 1896 كانت الجريدة مفلسة وخاسرة، فاشترتها الأسرة وأصبحت مالكة لنحو 88% من الأسهم. ومنذ هذه التاريخ، أصبحت نيويورك تايمز أرثا قيما لايفرط فيه أحدا من أفراد الأسرة، بل – وهو الأهم- فإن أحد من أفراد الأسرة لايتعامل مع الجريدة باعتبارها "عزبة بابا"، بل كمشروع ومؤسسة، وربما يفسر ذلك أن "ارثر سولزبرج" رئيس مجلس الإدارة الحالي حصل على بكالوريوس العلوم السياسية عام 1974 ثم عملا مراسل لجريدة محلية تدعى تايمز رالي لثلاث سنوات، ثم مراسلا لوكالة اسوشيتدبرس في لندن لثلاث سنوات أخرى، ثم التحق أخيرا بنيويورك تايمز "جريدة الأسرة لو تتذكر" عام 1978 مراسلا لها في واشنطن، قبل أن يعمل مجموعة من الأعمال اإدارية لفترة ثم يعود لجريدة الأسرة مجددا، ويتولى تطوير موقعها الإلكتروني ثم أصبح أخيرا رئيسا لمجلس الإدارة.. قصة كفاح معقولة في مؤسسة نظيرها في مصر والبلدان العربية يمكن أن يصبح فيها الابن نائبا لرئيس لمجلس الإدارة قبل أن يصل سن البلوغ والخصوبة!
كنا نأخذ جولتنا في الموقع الإلكتروني لنيويورك تايمز المتصل بغرفة الأخبار والمزود بكاميرات تلفزيونية محترفة ومتقدمة، عندما أخبرنا سلايكمان، بأن المسئول عن محتوى الفيديو في الموقع هي دينا.. هذه الفتاة المصرية العشرينية اللطيفة التي تحدثت معنا بود، وقد أجبرناها كما هو متوقع على "النطق بالعربي" في قلب واحدة من أهم صحف العالم، ولسان حالنا يردد "تحيا مصر"!
ونحن نستعد لمغادرة المكان بعد قضاء نحو ساعتين من المتعة، كان لابد أن نسأل " ألا تخطأ نيويورك تايمز أبدا؟"، يفقد سلايكمان ابتسامة جورج كلوني وقد تذكر شيئا يثير الأسف قبل أن يقول "بالقطع أخطأنا عندما دعمنا الحرب الأمريكية على العراق. هذا خطأ كبير اعتذرنا عنها في افتتاحية نيويورك تايمز بعد عدة أشهر من وقوع الحرب".
هذا ثاني صحفي أمريكي مخضرم نلتقيه هنا بعد "بوب وودورد" يعترف بخطأ ترويج الصحف الأمريكية الكبرى لغزو العراق. نيويورك تايمز التي ينتمي إليها "سلايكمان" اعتذرت بشكل مكتوب وعلني وفي نفس المكان الذي دعمت فيه الحرب "الافتتاحية"، لكن واشنطن بوست التي بدورها افتتاحية داعمة للحرب لم تفعل ذلك، لم تعتذر. حتى "بوب وودوورد" لم يعتذر وإن اعترف بأن موقف جريدته كان ينقصه الدقة. مع مراعاة أن نيويورك تايمز وواشنطن بوست محسوبتان معا على التيار اللبيرالي ويدعمان بشكل أو بأخر الحزب الديمقراطي. لكنه اختلاف في الأساليب كما ترى.ودعنا نيويورك تايمز، وقد تلبستنا روح "جابريل جارثيا ماركيز" عندما قال مفتخرا ذات يوم "الصحافة أجمل مهنة في العالم".
لكن المتعة لم تنته في نيويورك.
دعك من متعة التسكع في شوارعها وتأمل المحلات والبشر وناطحات السحاب، هناك متعة خاصة ثمنه تذكرتها الواحدة يصل إلى 100 دولار، دفعتها الخارجية الأمريكية مشكورة، متعة تستحق أكثر من ذلك، ولن تجدها إلا في نيويورك فقط.. برودواي.
هذا أقدم شارع في نيويورك، بناه الهولنديون عام 1670 أي قبل إعلان استقلال أمريكا بنحو مائة عام كاملة، في هذا الوقت كانت نيويورك تعرف باسم "نيو امستردام" وكان الشارع عبارة عن غابات كثيفة يسكنه الهنود الحمر، وعرف الشارع باسم "بريد فيج" أي الشارع العريض بالهولندية، واحتفظ بنفس الاسم بالإنجليزية عندما أصبح أمريكيا خالصا.
طول الشارع 1300 مترا فقط، لكن هذه الأمتار أصبحت معادلا موضوعيا لأهم شوارع الفن والمتعة في العالم بأسره، يزوره سنويا 10 مليون زائر من كل الدنيا، للانبهار والفرجة على المسارح التي لاتعرف الظلام أو الهدوء أو النوم، وللشارع قصص وتاريخ بل ومحطات فارقة في تركيبة المجتمع الأمريكي، وبدأت شهرته بالأساس في العشرينيات من القرن الماضي، حينها كانت السينما الأمريكية الصاعدة المغناطيس الذي يجذب المهاجرين من شتى بقاع الأرض، لكن أبوابها لم تكن مفتوحة بسهولة للجميع، وهؤلاء وجدوا أنفسهم يذهبون إلى "برودواي" الذي كانت مسارحه تعيش حالة انتعاش متزايدة مستندة إلى بدء استخدام الكهرباء بفاعلية، بدأ الشارع يتحول تدريجيا إلى "مسارح وطلع لها شارع"، وفي عام 1927 كسرت مسارح بروداوي أحد أكثر تابوهات المجتمع الأمريكي تعقيدا في ذلك الوقت، عندما اشترك ممثل أسود مع ممثلة بيضاء البشرة في بطولة مسرحية "شو بوت" "سفينة العرض"، صحيح أن الممثل الأسود لم يجرؤ على تقبيل الممثلة، لكنه ماحدث هز المجتمع الأمريكي الذي كان تحركه العنصرية وترتب قواعده، وهكذا كسر مسرح بروداوي الطوبة الأولى في جدار العنصرية الأمريكية التي انهارت عل يد مارتن لوثر كينج بعد ذلك بنحو 40 سنة كاملة.
كنا نسير في الشارع الذي تلمع جوانبه بالأضواء، عندما عرفنا صديقنا "جو" بأن برودواي وحتى عشرين سنة سابقة فقط، كان يضم بجانب المسارح منازل دعارة وعروض عارية، شكرته على المعلومة المهمة، متحسرا أن المرء جاء أمريكا متأخرا كل هذه السنوات!
العرض الذي اختارته لنا "عايدة" التي لاتحب نيويورك لكنها تعشق بروداوي، هو "WICKED" "الشرير" بترجمة شبه حرفية، ولما سألت عرفت أن هذه المسرحية تعرض بانتظام في برودواي منذ أكتوبر 2003، أي أنها تعرض منذ عشرة سنوات كاملة!، مع مراعاة أن المسرح يستوعب في الليلة واحدة 2000 متفرج! ما هذه الحياة ياسيدنا؟، ونحن الذين نتفاخر بأن مسرحية "الواد سيد الشغال"لعادل إمام استمرت في العرض لثمان سنوات، يتخللها إجازات بالشهور!
WICKED، حتى كتابة هذه السطور تحتل المركز الثاني في عروض برودواي من حيث الشعبية والأكثر مشاهدة بعد مسرحية " THE LION KING" المأخوذة عن فيلم والت ديزني الشهير، وعلى الأفيش الترويجي ل WICKED، هناك تلك العبارة المنسوبة لجريدة "Entertainment Weekly " "The best musical of the decade. "أفضل عرض موسيقي في العقد".. ومن ذا الذي يستطيع مقاومة المشاهدة إذن؟
في داخل المسرح، وقبل بدء العرض، هناك فرحة واضحة تستشعرها بمجرد جلوسك على المقعد الأحمر الوثير، الناس هنا تأتي وهي تشعر بالسعادة أولا لأنها في برودواي وثانيا لأنها ستشاهد مسرحية موسيقية علامة في تاريخ هذا الشارع، على باب المسرح ابتعت اسطوانة تضم موسيقى وأغاني المسرحية، صحيح أنها بعشرين دولار، لكن يكفي أنها مختومة بشعار "برودواي"، وأنها فازت بجائزة جرامي الموسيقية الأهم في العالم.
المسرحية مستوحاة من الفيلم الهوليودي الشهير "ساحر أوز" الذي يروى قصة الفتاة دوروثي التي يحملها إعصار إلى عالم أوز، فتبدأ رحلة البحث عن الساحر أوز لكي يعيدها إلى بيتها، لكن التفاصيل والتقينات هنا مختلفة، يكفي الإشارة إلى أن هناك ديناصور كامل تم بناءه أعلى المسرح لينفث الدخان مرتين ضمن الأحداث فقط!، حتى عدم معرفتك الجيدة باللغة الإنجليزية لن يكون عائقا أمام الانبهار بالحركة الفائضة على المسرح، والاستعراضات، والأغاني، والحوار الباسم، والحضور الطاغي للممثلين، حتى تحسب أنه لو لم تكن هناك استراحة بعد ساعة ونصف من بداية العرض لأصابك شعور الصاعدين إلى أعلى الهرم الأكبر بسبب عدم قدرتك على إغماض عينيك لدقيقة واحدة والانفعال المتواصل بالأحدث والخدع والتقنيات والأبطال.
في نهاية العرض، عندما خرج الممثلون لتحية الجمهور، فنالوا تصفقيا عظيما، خرج أحد الأبطال عن الصف، ليشكر الجمهور عن الحضور أولا، وثانيا عن أنهم وافقوا ضمنوا على التبرع بدولار من قيمة التذكرة لصالح مرضى السرطان. هكذا يبدو أن الدور الذي لعبه "برودواي" في تطور المجتمع الأمريكي لم يتوقف منذ تلك المسرحية التي ظهر فيها الممثل الأسود مع الممثلة البيضاء.
برودواي إذن كان خير ختام لرحلة 21 يوم يوما مذهلة في أمريكا. ذلك البلد الذي قد لاتحب سياسته الخارجية قطعا، لكنك أبدا لا تملك مقاومة إغراء زيارته والاستمتاع باكتشافه والعيش فيه ل21 يوما وأكثر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.