أوقفتني قائلة في غضب: إلا اللعب بدم الشهيد يا ابنتي.. إلا دم الشهيد.. لا تسمحوا لهم أن يجعلوكم الثور الأسود!.. تعجبت من كلامها.. الطريقة الهجومية التي تخاطبني بها.. رغم أنني طوال فترة معرفتي بها لم يتجاوز الحوار بيننا سوي كلمات زبونة لبائعة.. أو إيماءة لتحية عابرة.. ورغم أنني في كل مرة أري تلك المرأة.. يقتلني الفضول لمعرفة قصتها.. عجوز نحت البؤس والشقاء ملامح وجهها.. تحس منذ لحظة رؤيتها أنك تعرفها.. قابلتها في مكان ما.. لا أحد يعرف من أين تأتي.. تظهر بعربتها الخشبية مع شروق الشمس وترحل مع غروبها.. لا يمنعها البرد القارس ولاالشمس الحارقة.. تنتظر في صبر من يشتري بضاعتها من مناديل ورقية وحلوي رخيصة. حواري مع هذه السيدة البسيطة التي لم تنل أي قدر من التعليم، وتمتلك خبرة أكبر الحكماء، نبهني أننا شعب لا يستهان به.. يحب الحياة في هدوء وسلام، شعب يتعايش مع أصعب الظروف، لكنه ليس غبياً، يستطيع قراءة ما بين السطور، كما نبهتني أننا في مفترق طرق.. وأن ما يحدث من فتن مدبرة، غياب أمني مقصود، تعديل مريب لمدة في الدستور من قبل المجلس العسكري رغم الوعود المستمرة بدستور جديد.. التعتيم المستمر علي محاكمات رموز النظام السابق الذي جعل هذه العجوز الحكمية تخبرني بأن مبارك لم يرحل، وأنها تشك في وجود العادلي وأعوانه في سجن طرة كما يدعون.. الاستهتار بدم الشهداء، اللعب بمصائرنا، التحايل والالتفاف علي ثورتنا، كل ذلك يحدث لأننا فقدنا روح الجماعة، تفرقنا، لم يعد بيننا هم مشترك، اشتغل كل منا بمصالحه الخاصة، نسينا الهدف الرئيسي وتبعنا الشرك المحكم الذي تفننوا في صنعه لنا، بدأت الأمور تختلط علينا، وقعنا في فخ التصنيف، من مات من الشرطة ليس شهيداً، وكل من مات أثناء الثورة شهيد يجب أن نعترف بأن هناك شهداء من الشرطة، فاللواء محمد البطران الذي ضحي بنفسه من أجل واجبه شهيد، المقدم هشام الحسيني الذي قتل منذ فترة قريبة في القصير وهو يحمي إحدي البنزينات علي يد مسجلين خطر، شهيد، نقيبين مثل شريف مرسي، وحازم الشيخ في سفاجا عندما يتمكنان من جلب كميات كبيرة من المخدرات والبانجو في هذا الفراغ الأمني، بطلان، كل من مات وهو يدافع عن مكانه، ولم ينسحب مثل الجبناء، شهيد، يجب أن نمتلك من الجرأة ما يجعلنا نعترف بأن هناك شرفاء في الشرطة، أبطال، كما أن هناك قتلة وسفاحين.. يجب أن نبدأ بمحاكمة حبيب العادلي محاكمة حقيقية، ليس من أجل غسيل الأموال، بل من أجل قتل الشهداء شرطة كانوا، أم ثواراً، يجب التأكد من وجود رموز الفساد في سجن طرة، يجب أن نراهم بأعيننا، نلمس الجدية في محاكمتهم.. نحاكم مبارك وأسرته الذي اختفي ذكرهم من الساحة تماماً.. وتحدث كل هذه الفتن المدبرة لحمايتهم، أغرقنا بهموم ومصائب تلهينا عنهم، نحاكم المجلس العسكري علي البطء الشديد في القرارات المهمة، رغم الشدة والصرامة التي يتعاملون بها مع كل من تسول له نفسه الاقتراب منهم، وحتي لا يقول كلامي علي أنني أخوض في الذات العليا.. لا أقصد بكلامي محاكمة المؤسسة العسكرية «الجيش» أقصد المجلس العسكري الذي يحكمنا.. نحاسبه علي المستوي السياسي، نطالبه بمعرفة كل صغيرة وكبيرة خلال هذه الشهور الستة.. وبما أنه - علي رأي العجوز - ليس هناك ملائكة يلبسون المموه يجب أن يحاسبوا علي الأخطاء الصغيرة حتي لا نجد أنفسنا نغرق في كل هذا الفساد والهموم الكبيرة. يجب أن نتحد.. نتكاتف.. نعود للروح الجماعية التي نجحت الخطوة الأولي من ثورتنا.. لا نسمح لمن يهمه الأمر أن ينسينا الثمن الفادح الذي دفعناه لهذه الثورة.. يجب ألا نسمح للذئب الجالس في سكون يترصد تفككنا أن يلعب معنا قصة الثيران الثلاثة من تفرقة، حتي لا نكون مثل الثور الأبيض والذئب يخبره أنه لم يبق غيره ليأكله. قتلنا يوم قتل الثور الأسود.