الحمد لله، ظهر الأمن فى الشارع المصرى.. أقصد فى بعض الشوارع العامة فقط، ظهر بكثافة وفى مجموعات بعد حادث التحرش البشع بالتحرير، فشاهدت 4 أو5 ضباط مع جنود يتجمعون فى نقاط منتشرة بالميادين والشوارع الكبرى، واستمر هذا الظهور لأقل من أسبوع، ثم اختفى تدريجياً، فأصبح هناك رجلين أمن فى كل تجمع، ثم واحد، ثم لا شيء، عادت «ريمة لعادتها» عملاً بسياسة الهوجة المتعارف عليها فى مصر. نشط الإعلام بكل وسائله فى الحديث عن ظاهرة التحرش، تبارى علماء النفس والاجتماع ليدلوا بدلوهم عن الانهيار الأخلاقى وأسبابه، خاصة بعد ثورة 25 يناير، التى يرجع إليها البعض السبب فى انفجار «ماسورة مجارى الأخلاق»، اعتقاداً من الكثيرين أن الثورة أسقطت جدران الخوف تجاه السلطة والمسئولين، وعلى رأسهم رئيس الدولة، وأسقطت بالتالى معها جدران الأخلاق والاحترام والحياء والعيب، نشط الإعلام فى الحديث عن الظاهرة، ثم بدأ الاهتمام يتراجع أيضاً عملاً بسياسة «الهوجة». «الهوجة» فى مصر سياسة مدمرة، لا تبنى مجتمعات ولا تسمن ولا تغنى من جوع، فما جدوى «الريم» أو فورة الموج وغضبه، ثم هدأته فجأة، لتعود الظواهر الإجرامية واللاأخلاقية إلى مربع صفر، ما جدوى أن نصرخ جميعاً معاً، فلا يسمع أحدنا صوت الآخر، ثم نهدأ فجأة، دون أن نضع سياسة طويلة الأجل، سياسة ناجعة ممتدة لعلاج الظواهر المرضية الدخلية على مجتمعنا المصرى الذى كنا نتغنى بأخلاقه أمام العالم، فعلاج ظاهرة التحرش والانحدار الأخلاقى فى شوارعنا تجاه التعامل مع المرأة، لن يتم بانتشار الأمن لمراقبة الشوارع والمارة ثم اختفاؤه، لن يتم بتطبيل الإعلام ثم صمته، لن يتم بسن ألف قانون دون قوة تنفيذية لإعماله وتنفيذه على أرض الواقع، علاج الانهيار الأخلاقى يبدأ بأول مؤسسة تربوية، بالبيت، بالأب والأم، بتلقين الأطفال الحلال ورفض الحرام، بزرع الحياء فى نفوسهم، فى ملبسهم، فى طريقة تعاملهم. وتلى ذلك المؤسسة التربوية الثانية، المدرسة، ألا تتحول المدارس إلى مجرد غرف لتلقين الأطفال والتلاميذ العلم والمناهج المعقدة التى ينسونها بمجرد انتهاء العام الدراسى، وأن يتم تطعيم كل مادة علمية بمبادئ الأخلاق، فماذا جدوى عالم أو طبيب أو مهندس أو متفوق فى الدراسة وهو بلا أخلاق، فمن المؤكد أن انعدام خلقه سيجعله يستخدم علمه فى إضرار وتدمير المجتمع لا نفعه ودفعه للأمام، وغريب أن وزارة التعليم اسمها وزارة التربية والتعليم، أى التربية والخلق قبل العلم، فأين مدارسنا من هذه الأخلاق، وقد أصبح هم المعلمين حصد الأموال من الدروس الخصوصية، وتفريغ مضمون المنهج وسكبه فى عقول الأطفال ليغادروا المدرسة على عجالة للحاق بجدول الدورس الخاصة، وأصبح تلاميذ المدارس امتداداً لطلاب مسرحية مدرسة المشاغبين، فضاع احترام التلميذ لأستاذه، لإدراكه أنه يمكن شراء النجاح وضمير الأستاذ نفسه بأموال أبيه فى الدروس الخصوصية. العلاج يتم من خلال تكاتف باقى المؤسسات الاجتماعية فى مجتمعاتنا، الإعلامية، الثقافية، الفنية، الإعلام ينشر ويذيع جرائم الاغتصاب والتحرش ويسلط عليها الضوء بقوة فى تفاصيلها، ونبكى وتعتصر قلوبنا مع أسر الضحايا، ثم بعد ذلك لا نسمع شيئاً عن مرتكب الجريمة ولا عن العقوبة الرادعة التى صدرت ضده، وذلك لأن الإعلام يهتم بالجريمة كنوع من الإثارة والجذب، ولا يسلط الضوء على العقاب، وإن تم نشره فى صحيفة ما، ينشر فى زاوية صغيرة لا تلفت انتباه القارئ، رغم أن إبراز العقاب هو الأهم لأنه الردع والعلاج حتى لا تتكرر الجريمة، ولعل إهمال الإعلام تسليط الضوء على العقاب لسبب رئيسى وهو طول إجراءات القضاء، مما يجعل الجريمة الأصلية تنسى وتسقط من الذاكرة، حتى تحييها جريمة أخرى، ومن هنا أطالب بسرعة البت القضائى فى مثل هذه الجرائم الأخلاقية. العلاج يتم من خلال الفن، ولعنة الله على الحرية المزعومة لدى بعض تجار الفن، الذين استباحوا الأجساد والأعراض، وعرضوها كلا مباحاً على الشاشات الكبرى والصغرى، تحت زعم الحرية الفنية «والمشاهد عايز كده» «وده جزء من المجتمع»، وغيرها من المبررات اللاأخلاقية التى يعلل بها هؤلاء استباحتهم للمحرمات وهدمهم للدين والمجتمع، وكان هذا السقوط الأخلاقى الفنى محصوراً منذ سنوات فى السينما، فكانت الأسر المحترمة تقاطعها، أما الآن فباتت هذه القصص والمشاهد القذرة تطادرنا عبر المسلسلات فى بيوتنا، فبتنا نخجل من رؤيتها بعد أن كانت المسلسلات وليمة التسلية التى تجمع الأسرة فى معظم الليال، فطاردنا مزاج الخير، وزهرة وأزواجها الخمسة، وسمارة، والعار، وغيرها كثير لتلحق بنا العار الأخلاقى، هذه المسلسلات التى تظهر نساء مصر كلهن «شمال» عملاً بالتعبير السائد الآن، وكل الرجال خونة. ظاهرة التحرش لن تختفى، قد يختفى الاهتمام بها عملاً بسياسة الهوجة، ولكنها ستظل إن لم يتحرك كل المجتمع بكل مؤسساته وعلى رأسها الفن لاستعادة القيم والأخلاق المصرية الأصيلة، وإحياء الدين فى نفوسنا وليس فقط التظاهر به والتمسك بقشوره.