الصراع يتجدد بين موسكووواشنطن في قلب القارة العجوز (أوروبا) التي اعتقد الأمريكيون أن الصراع لن يكون له وجود في هذه القارة العتيدة التي سبق أن شهدت حربين عالميتن هائلتين، وعاشت بعدهما ما يقرب من نصف قرن في أجواء شديدة السخونة من التفاعلات الصراعية المكبوتة وبأدوات صراعية مستحدثة، غير أدوات الحرب العسكرية، كان عنوانها الرسمي هو "الحرب الباردة" . انتهت الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي، وانهار حلف وارسو ابتداء من عام ،1991 واعتقد تيار "المحافظين الجدد" أن زمن "الإمبراطورية الأمريكية" آن أوانه، وأن الحرب التي هزمت فيها الاشتراكية، هي حرب "نهاية التاريخ" وإعلان "الانتصار النهائي للرأسمالية"، لذلك تعاملوا بوحشية واستعلاء مع ما تبقى من إرث الاتحاد السوفييتي، خططوا لازدراء روسيا الوريث الشرعي للاتحاد السوفييتي، وعملوا على دفعها خطوات نحو الخلف في سلم تراتبية المكانة العالمية، لتتحول من دولة عظمى إلى دولة متوسطة القدرة، غير قادرة على أن تمارس المنافسة على قيادة النظام العالمي مرة أخرى في الأجل القريب والمتوسط، وأمعنوا في تمزيق جمهوريات الاتحاد السوفييتي، ففرضوا نظم حكم موالية، أخذت نهج الرأسمالية والليبرالية، وسارعت إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي . كانت أوكرانيا، تلك الجمهورية السوفييتية السابقة، هي آخر ما يتصارع عليه الأمريكيون والأوروبيون للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف "الناتو"، بحيث يصل الحلف إلى الحدود الروسية، وهو ما يعد تهديداً مباشراً للأمن القومي الروسي، تماماً كما هي حال "الدرع الصاروخية" الأطلسية التي تسعى واشنطن والحلف لإقامتها في كل من بولندا وجمهورية التشيك، وهو ما عدّته موسكو تهديداً مباشراً لأمنها الوطني أيضاً، نجحت روسيا مرحلياً في تجميد الدرع الأطلسية بتوافقات دفعت ثمنها مع واشنطن، وظن الأمريكيون أن أوكرانيا يمكن أن تكون لقمة سائغة في مقدورهم التهامها في غفلة عن روسيا، لكن ما حدث هو العكس، حيث استطاعت روسيا أن تفسد المخطط الأمريكي - الأوروبي الذي نجح في إسقاط حكم الرئيس فيكتور يانوكوفيتش الموالي لموسكو في "انقلاب ديمقراطي"، من الانقلابات التي يجيدها الأمريكيون عبر منظمات حقوقية ومدنية مدربة وممولة . تصور الأمريكيون والأوروبيون أن إسقاط الرئيس الموالي لموسكو هو نهاية المطاف، وأن تأمين فوز الموالين للغرب في انتخابات برلمانية ورئاسية سريعة، سيؤمن انضماماً سهلاً لأوكرانيا إلى كل من حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وفي تحرك لم تستطع الاستخبارات الأمريكية توقعه اتخذ الرئيس الروسي حزمة من القرارات الاستراتيجية المفاجئة والصادمة، أولها تحريك ورقة شبه جزيرة القرم، وهي إقليم روسي قام الزعيم السوفييتي الأسبق نيكيتا خروتشوف بضمه إلى جمهورية أوكرانيا السوفييتية عام ،1954 ولم يحدث هذا القرار وقتها ضجة سياسية أو ردود فعل روسية غاضبة، لأن أوكرانيا كانت جزءاً أساسياً من الاتحاد السوفييتي، ولأن روسيا الاتحادية، وهي الشقيق الأكبر في الاتحاد السوفييتي، كانت مطالبة دائماً بتقديم التضحيات إرضاء للشركاء في البلد الأكبر الذي يضم الجميع (الاتحاد السوفييتي) الذي كان يحظى بالولاء الأعلى على حساب الولاءات الفرعية للجمهوريات المكونة لهذا الاتحاد . لم يعِ الأمريكيون ولم يدركوا ما يعنيه ضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي ثم إلى حلف الناتو، لم يأبهوا بأن هذا يعني ضم أجزاء أصيلة من روسيا إلى الاتحاد الأوروبي والحلف، وأن هذا معناه تجاوز كل الخطوط الحمر في ازدراء روسيا والعدوان على كبريائها الوطني، لذلك لم يحسبوا جيداً رد الفعل الروسي ولم يتوقعوا أن روسيا سترفض وستمنع عملياً أن تنضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، وإذا لم تستطع منع ذلك، فإنها اقتطعت إقليم القرم من الدولة الأوكرانية وأعادته إلى الجسد الروسي . وهنا جاءت الخطوة الصادمة الثانية وهي التدخل غير الرسمي لفرض استقلال القرم عن أوكرانيا، وبعدها جاءت الخطوة الثالثة وهي تدبير استفتاء للشعب في القرم، ليقول كلمته بالاستقلال عن أوكرانيا، ثم الانضمام إلى روسيا . حدث هذا كله في أيام قلائل وربما في ساعات كان الجميع يسابقون الزمن، فبينما ذهب الأمريكيون والأوروبيون إلى مجلس الأمن لإصدار قرار يمنع الاستفتاء الذي يجري الإعداد له في إقليم القرم، كان الروس يعدون في الكرملين لترتيبات انضمام القرم إلى الاتحاد الروسي، وكانت النتيجة أن روسيا استخدمت "الفيتو" وامتنعت الصين عن التصويت، وفشل الغربيون في مسعاهم، في حين أن الاستفتاء الشعبي الذي أجرى في القرم يوم 16 مارس/آذار الجاري جاءت نتائجه مفاجئة وبنسبة وصلت إلى 97%، واتبع الاستفتاء إعلان برلمان القرم استقلال شبه الجزيرة عن أوكرانيا، والمطالبة بضمها إلى روسيا، كما صوت النواب ال 85 بالإجماع على تأميم كل أملاك أوكرانيا في القرم، واعتماد "الروبل" الروسي عملية رسمية، وتفكيك الوحدات العسكرية الأوكرانية، وأعلن البرلمان وثيقة جاء فيها أن "جمهورية القرم تدعو الأممالمتحدة وجميع دول العالم إلى الاعتراف بها دولة مستقلة"، وما هي إلا ساعات حتى كان وفد البرلمان وقادة القرم في موسكو وقاموا مع الرئيس فلاديمير بوتين بالتوقيع على وثيقة الانضمام إلى روسيا . ضربات استباقية صادمة وضعت البيت الأبيض وقادة دول الاتحاد الأوروبي أمام واقع شديد التعقيد وخيارات مقلقة . فالحل العسكري مستبعد نهائياً، وليس أمامهم غير توقيع عقوبات يرى بوتين أنها سوف ترتد عليهم، نظراً للتداخل الراهن بين الاقتصاد الروسي واقتصادات الدول الغربية . رئيس حكومة القرم الموالي لروسيا سيرغي أكسيونوف دعا المناطق الأخرى الناطقة بالروسية في شرق أوكرانيا، إلى اجراء استفتاءات على انضمامها إلى روسيا، وحفز هذه المناطق أن تحذو حذو القرم وقال: "إذا كان هناك عدد كاف من الأشخاص في تلك المناطق يدعمون ذلك (فكرة الانضمام إلى روسيا) فعليهم تنظيم استفتاءات" . الدعوة مغرية ويمكن أن تحدث، بل يمكن أن تتجاوز حدود أوكرانيا إلى دول مجاورة لتنتشر حمى الانفصال في دول شرق أوروبا، عندها ستتحول أوروبا مرة ثانية إلى "بركان" من الصراعات، ولن تجد واشنطن فرصة للتوجه نحو الشرق الأقصى لتمارس صراعاتها الانتقائية، لأن الكبرياء الأمريكي أفقد العقل الاستراتيجي القدرة على التحليل والتبصر، وأن الصراعات تفرض فرضاً وليست محض اختيار البتة . نقلا عن صحيفة الخليج