أذكّر بالعبارة التاريخية التي تشكل أحد مكونات العقل الجمعي المصري وهي أن "مصر هبة النيل" دلالة على عمق النيل في حياة مصر، وكأن مصر والنيل مترادفان، لا غنى لمصر عن النيل، ولا غنى للنيل عن مصر بحضارتها وعمق وامتداد تاريخها، ولذلك فالنيل بهذا المعنى يمثل أحد أهم مصادر الأمن القومي المصري، ولعل أحد نتائج هذه العلاقة أن مصر قادرة على أن تنجب القادة والعلماء والكتاب، والمفكرين الذين يساهمون في بناء حضارتهم، وفي الحضارة الإنسانية، وأن مصر قادرة على تجاوز كل من يريد أن ينال من هويتها ومن دورها . ومن ثمار هذه العلاقة بين مصر والنيل السجل الكبير من القادة ومن العلماء، ومن الثورات التي لفظت كل من حاول اختزال الهوية المصرية في غير سياقها الجغرافي والتاريخي، والسكاني، وهذا أحد أهم ما يمكن استخلاصه من ثورتي يناير ويونيو وهي أن مصر بقيت هي الهوية التي اجتمع حولها كل المصريين، فمصر كانت وراء نجاح استفتاء دستور الثورة، وهي التي تقف وراء التفاف كل المصريين حول شخصية الفريق أول عبدالفتاح السيسي، ونقطة الالتقاء هنا هي مصر . والسؤال لماذا كل هذا التأييد للسيسي ومطالبته بالترشح للرئاسة وحسم هذا الاختيار قبل أن تجرى الانتخابات الرئاسية، وكأننا أمام استعادة أرقى درجات الديمقراطية المباشرة حين تجتمع إرادة الأمة على اختيار من ترى فيه هويتها . للإجابة عن لماذا؟ وليس ذلك تقليلاً من كل المرشحين الآخرين، لكنها تفاعل العلاقة بين مصر وأبنائها، فاليوم مصر تتعرض لمخاطر أمنية تستهدف دورها التاريخي والحضاري، والسياسي في كل دوائرها الوطنية والعربية والإسلامية والدولية . والمسألة هنا لا تقاس بمعايير الخلفية العسكرية كما يحلو لمعارضي الثورة، ومعارضي أي دور لمصر القول، بل بقدر الانتماء لمصر، وبقدر تجسيد طموحات وأهداف الشعب المصري في هذه المرحلة، وبالقدرة على تحقيق هذه الأهداف، وتجسيد الهوية والشخصية المصرية، والاستعداد للتضحية، والقدرة على امتلاك رؤية إنقاذ مصر، وبقدر أن يختزل نفسه في شخصية مصر، وليس العكس . وهذه الصفات تتوافر كلها في شخصية الفريق السيسي إذ جمع بين شخصيته الكارزمية المؤثرة ومكونات الشخصية المصرية، وقد ينفرد بأنه مرشح كل الشعب المصري . وهذا التجسيد ليس مجرد شعارات أو عبارات انتخابية، بل هو مقتبس من العبارات التي رددتها المرأة المصرية بكل شرائح عمرها، عندما نزلت بزخم للمشاركة في الاستفتاء، وهنا المرأة تجسد الأم المصرية والحاضنة للجميع . فعندما تسمع امرأة كبيرة في السن وتقول: "السيسي ابني"، وأخرى تقول: "السيسي طلب منا أن نصوت من أجل مصر"، والرجل الذي يقول: "السيسي أبويا" . في هذه الصور تكمن الإجابة لماذا السيسي في هذه المرحلة المصيرية التي تمر بها مصر، وهي مرحلة تثبيت الهوية المصرية الحضارية والتاريخية والبشرية، ومرحلة التصدي للأخطار والإرهاب والعنف الذي يمس حياة المواطن المصري العادى . الدافع واضح هنا هو حماية مصر من أي أخطار تهدد أمنها وحياتها ودورها، والسيسي مؤهل للعب الدور الوطني الخاص الذي لعبه ويلعبه الجيش المصري في تاريخ مصر . نحن هنا لسنا أمام أي دور لأي مؤسسة عسكرية كما الحال في النماذج الأخرى حتى في الدول الديمقراطية، إذ إن تركيبة ودور الجيش المصري تعكسان خصوصية الحالة المصرية، ولا يحسب هذا الدور من منظور، أدبيات الديمقراطية، أو توصيف ذلك في سياق انقلاب أو ثورة، فهذا لا يكفي، يقاس دور الجيش في الحفاظ على هوية مصر التي لا تختزل في حزب، أو جماعة أو فرد . في حسابات السياسة الدولية، وفي علاقة مصر الخارجية، يمكن القول: إن دور مصر دائماً في مرمى الخارج، لذا لابد من رئيس يعرف كيف تمتلك مصر قرارها وإرادتها . السيسي يذكرني بالرئيس الراحل عبدالناصر الذي كان هبة مصر، ومثّل مشروعاً قومياً بمحاربة الاستعمار في الخارج، وبتأميم قناة السويس، وبناء السد العالي، وهو ما يعني استعادة دور مصر، وكان لابد من ضرب هذا الدور بالتخلص من عبد الناصر، ولو بقي حياً لكانت تغيرت الخارطة السياسية ليس لمصر فقط، بل للعرب جميعاً . هذا النموذج يتكرر اليوم مع الفريق السيسي الذي يأتي بتوافق ورضى مصر، وترجمة لهبة مصر، وليس برضى الأجنبي، ويأتي حاملاً لمشروع وطني وقومي أهم ملامحه استعادة دور مصر العربي، ومن ثم إحياء العروبة، وهذا بلا شك يتعارض مع المشاريع الأخرى الأمريكية والصهيونية، وأيضاً المشروع الإيراني والمشروع التركي من خلال إحياء دور الخلافة الإسلامية من خلال "الإخوان" . مصلحة الجميع تستدعي إدراك مهمة التصدي لكل محاولات النيل من مصر ودورها، فالمساعدة التي تقدم لمصر ليست منّة، ولا منحة، بل لمصلحة يستوجبها بقاء العرب من عدمه . مصر غنية بمواردها الطبيعية والبشرية ولكنها بحاجة لقيادة سياسية بإرادة سياسية صلبة . نقلا عن صحيفة الخليج