في يوم الأربعاء الثالث من أغسطس القادم، تبدأ محاكمة الرئيس السابق محمد حسني مبارك ونجليه علاء وجمال، وصديقه الأثير رجل الأعمال الهارب حسين سالم. ففي هذا اليوم، وكما هو مقرر، تبدأ أول جلسة للمحاكمة أمام محكمة جنايات شمال القاهرة، في التهم الموجهة إليهم. وتتعلق التهم المنسوبة إلى مبارك ونجليه بالقتل العمد والشروع في القتل العمد لبعض المشاركين في التظاهرات السلمية في 25 يناير الماضي واستغلال النفوذ والإضرار العمدي بأموال الدولة والحصول على منافع وأرباح مالية لهم ولغيرهم دون وجه حق. ومنذ بدء الحديث عن التحقيق مع مبارك ونجليه في الاتهامات المنسوبة إليهم، والجدل لا ينتهي بين المؤيدين والمعارضين للعفو عن مبارك. وقد احتدم الخلاف بشكل كبير منذ صدور القرار بحبس الرئيس المخلوع على ذمة التحقيق. كذلك، يحتدم الخلاف حول مكان المحاكمة، وما إذا كانت تتم في القاهرة حيث مقر محكمة جنايات شمال القاهرة أم تجري في شرم الشيخ لدواع أمنية. كذلك، انشغل الرأي العام لفترة طويلة بمكان الحبس الاحتياطي للرئيس السابق، وما إذا كان من الواجب نقله إلى مستشفى سجن طره، أم أن حالة مستشفى السجن لا تسمح بتوفير الرعاية الطبية اللازمة له، ومن ثم يجب أن يبقى في مستشفى شرم الشيخ. والموضوع الرئيسي والأهم من كل هذه الموضوعات يكمن في مسألة العفو عن مبارك من عدمه. حيث يطالب البعض بإيقاف المحاكمات، بدعوى المصالحة وعدم إهانة الكبير، وبحجة أن مصلحة الاقتصاد المصري ومصلحة الفقراء تقتضي مقايضة تلك المحاكمات ببعض المليارات. وفي سبيل ذلك، يروج البعض من حين لآخر لمرض الرئيس وأنه أحد أبطال حرب أكتوبر. وراح البعض يعقد مقارنة بينه وبين الرؤساء العرب المتشبثين بالسلطة في مواجهة الثورات الشعبية، مثل معمر القذافي وعلي عبد الله صالح وبشار الأسد. بل أن إحدى المذيعات راحت تعقد مقارنة بين أسلوب خطاباته الردي إبان الثورة وبين أسلوب السباب والشتائم الذي استخدمه معمر القذافي عندما وصف الثوار بالجرذان. ويمكن تلخيص حجج المطالبين بالمحاكمة في مبدأ سيادة القانون، وخضوع الجميع لكلمة القانون، دون تمييز بين حاكم ومحكوم. وقد عبر عن هذا الاتجاه المستشار محمد حامد الجمل الرئيس الأسبق لمجلس الدولة، قائلا أن من ارتكب جرائم في حق الشعب المصري لابد أن يعاقب، وإلا نكون قد فتحنا الباب أمام الفاسدين، ونقنن الفساد. يعني اللي يأخذ أراضي بملاليم، ثم نكتشفه، نكتفي برد ما أخذه، ونقول له مع السلامة. هذا الكلام – على حد قوله - غير دستوري، وغير أخلاقي، وغير عقلاني. وفي اعتقادي أنه ينبغي التفرقة بين المحاسبة والعقاب. فالمحاسبة تعني الاستمرار في المحاكمة حتى تتضح الحقائق أمام الرأي العام، ويتمكن المجتمع من معرفة حجم ما جرى من فظائع ووقائع فساد تزكم أنوفنا يوميا، ويعلم الجميع من هم الأشخاص المتورطين فيها على نحو يقيني لا شبهة فيه. وبعد المحاسبة، وثبوت الإدانة، يأتي العقاب. والمحاسبة لا تعني حتما العقاب. وتتحقق المحاسبة بأحد طريقين: إما المحاكمة وسلوك سبيل التحقيقات الجنائية، وإما من خلال اعتراف الجاني بجرمه. ولا يكفي هنا مجرد الاعتراف بالذنب، وإنما ينبغي أن يكون الاعتراف تفصيليا، بحيث يؤدي إلى الكشف عن أدلة الجريمة والكشف عن المتورطين فيها. وقد لجأت جنوب أفريقيا والمملكة المغربية إلى هذا الطريق الأخير، بإنشاء هيئات للاعتراف والمصالحة. والمحاسبة تشكل الحد الأدني، حتى يمكن بناء المجتمع الديمقراطي الذي نطمح إليه على أسس سليمة. ولا يجوز لأحد أن يتنازل عن مبدأ المحاسبة. واعتقد من الواجب على الرئيس مبارك أن يعترف بكل الجرائم التي شارك فيها ومدى تهاونه في حق الأمن القومي المصري وعلاقاته المشبوهة مع رجال الأعمال، وأن يعترف بمشروع التوريث الذي بدد من أجله أكثر من عشر سنوات من عمر هذا الوطن. كذلك، نرى من الواجب أن يعترف بالسبب الحقيقي وراء عدم قيامه بتعيين نائب رئيس جمهورية طيلة ثلاثين عاما. وإذا كنا نرغب حقا في الانتقال من مرحلة القبيلة إلى مرحلة الدولة، فلا يجوز لأحد أن يرفع شعارات مثل «إهانة الكبير» وغيرها من الشعارات التي لا تمت بصلة إلى فكرة الدولة. كذلك، لا يجوز أن نعقد مقارنة بين ما حدث في مصر وبين ما يحدث في ليبيا واليمن وسوريا. فالفارق في رأيي لا يكمن في شخص الرئيس في كل دولة من هذه الدول، وإنما يكمن في الطابع المهني للجيش المصري العظيم، الذي حمى الثورة وساعد على نجاحها. هذا هو الفارق الوحيد بين الثورتين المصرية والتونسية وبين الثورة في ليبيا واليمن وسوريا. أستاذ القانون الجنائي المساعد بجامعة القاهرة