ثلاث سنوات مضت على وفاة محمد البوعزيزي اشتياقاً ليوم عزيز بلا مهانة، واحتراقاً بعدما عز عليه أن تطعن كرامته في وطنه الأخضر تونس. كان يعلم بالفطرة ومن دون كتب وقبّعة مائلة أو ربطة عنق على شاشة فضائية، أو توقيع ديوان شعر جديد، أن المسميات لا تصنع واقعاً ولا تمثّله بالضرورة، بل هي في كثير من الأحيان تمثل نقيضه . كان يدرك أن كلام بعض الحكومات المتكرر عن "المصلحة الوطنية العليا" ليس المقصود الحقيقي منه سوى استمرار كلمتها العليا ومصلحة الشعب "السفلى"، وأن أسطوانة الحرية الرتيبة بأداء "العالم الحر" ليست سوى ضجيج يخفي عبودية تتجدد أشكالها . الشاب حرق نفسه ولم يترك وصية مكتوبة أو محكية، ولهذا ترك روايات متعدّة للدوافع، ليس في إحداها أنه قصد تحويل جسده إلى صاعق لتفجير يتجاوز حدود تونس، أو أنه خطط لسيناريو يتضمن نفي رئيس البلاد، وعودة المنفيين للإمساك بمفاصل النظام نفسه، ومعهم كل ما راكموه من لعبة السياسة في بلاد المنافي الغربية، ومن تمويل إقليمي وطبخ على نار غير تونسية . كان الفساد في عهد بن علي موجوداً ومسكوتاً عنه، مشاركة أو خوفاً، ظل الفساد في عهد "النهضة"، غير مسكوت عنه، إنما بحديث جدواه يساوي فعل السكوت وأشد وطأة، فالفاسد القريب من السلطة تدافع عنه وتلاحظ كاشف الفساد وتهدد بقطع لسانه، والمتاجر بالأخلاق الرياضية يدعو علناً لكم الأفواه . تونس التي خرجت بعض مناطقها عن سيطرة الدولة وباتت تحت سيطرة قطاع الطرق ومصنعاً لإنتاج التفخيخيين والجهاديين الذين يتركون القدس خلفهم في طريقهم إلى سوريا، تنشغل أشهراً وأسابيع باختيار اسم رئيس الحكومة، والحزب الحاكم بأمر "الشريعة" الذي يقف سداً منيعاً أمام تشريع يحظر التطبيع مع "إسرائيل"، يلف ويدور ليأتي بنهضوي يرتدي ثوب الحداثة وتقديمه كمستقل يترأس حكومة تكنوقراط أو كفاءات أو حياد . ناجح هذا التكتيك الذي يأخذ في الاعتبار تجربة الخسارة في مصر، لكن الترقيع مآله الفشل لأن الرقعة ليست من النسيج نفسه، وسرعان ما تنفك عنه . لم يعد احتراق البوعزيزي ملكاً لتونس وحدها . وبعد ثلاث سنوات على الحدث الجلل، نستطيع القول إنه كان بالإمكان أفضل مما كان لو كان بديل الواقع العربي السيئ موجوداً وأهلاً لقيادة السفينة . كان بالإمكان استلهام روح البوعزيزي الغاضبة وزرعها في جسد ثورة حقيقية مكتملة الأركان: القيادة والبرنامج وقوة الفعل على الأرض، والالتفاف الشعبي، ووسائل نضال إنسانية . لكن أشقاء البوعزيزي في بعض الدول العربية تركوا روحه ولم يرثوا عنه سوى الحرق والنار، وبعدما انشغلوا لفترة في ما إذا كان شهيداً أم منتحراً، غرقوا في الإفتاء للحرق الجماعي وانتحار الأوطان ووضعها في أتون نار تأكل بعضها بعضاً عندما لا تجد ما تأكله . بعد ثلاث سنوات ينبغي القول: أعمى من لا يرى أن ذكرى البوعزيزي لم يبق منها سوى الحريق، وعندما تشتعل النار تحرق كل الشعارات الباردة، بما فيها مقولة الحاج أحمد "هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية" . نقلا عن صحيفة الخليج