منذ ثمانية عشر عامًا تقريبًا ولجت إلى محل جزارة بحى الدقى وطلبت من البائع ثلاثة كيلو جرامات من اللحم، وخالجنى الشك فى الميزان فقمت بإعادة الوزن خارج المحل ووجدته ناقصا بمقدار نصف كيلو، فعدت إلى صاحب المحل متوقعا ان ينهر البائع عن فعلته النكراء ويقدم لى الاعتذار الواجب.. ولكن حدث ما لا يخطر على البال حيث برر ذلك بارتفاع أجور العمال وأسعار الكهرباء والمياه.. اصابتنى الدهشة لوهلة ثم رددت عليه بأنى ابتعت اللحم وفقًا للسعر المحدد ب22 جنيها وان هامش الربح يغطى كل أنواع التكلفة. استرددت ما دفعته وخرجت أضرب كفا ب كف. فهل ننتظر من المطففين الذين يخسرون الميزان ان يقدموا لنا فنًا راقيًا نظيفًا خاليًا من الروث؟! الفن قديم قدم الإنسانية.. يراه افلاطون وسيلة للتقويم وإصلاح الخلق، أما الفن الذى لا نفع منه أو يثير الغرائز فينبغى على الدولة أو الحاكم فى المدينة الفاضلة ان يحول بينه وبين النشء.. الفن مرآة المجتمع وصدى افكاره وآماله واحلامه.. الفن رسالة وجهد وعقيدة ورأى وليس تسلية وترويحا عن النفس وحسب.. الفن الذى يتملق الغرائز يهدم ولا يبنى.. الفن الحقيقى يكشف ولا يفضح، يصلح العيوب ويعالج المساوئ ويرتقى بالمشاعر ويسمو بالاخلاق.. وحرية الابداع لا تلغى العقل ولا تتعارض مع القيم ولا تتناقض مع الدين ولا تحرض على الابتذال والرذيلة.. مصر تمتلك ثروة من الفن الجميل، بقيت على مدى السنين فى ضمائرنا نروض بها نفوسنا ونرطب مشاعرنا.. لماذا ظلت هذه الأفلام والأغنيات فى ذاكرتنا رغم مرور السنين وننسى الآن اسم الفيلم بمجرد خروجنا من دور السينما؟.. بدأ انهيار السينما منذ ارتضينا ان يكون فيلم «حمام الملاطيلى» وغيره فنا، ومنذ أيضًا أن وافقنا ان تكون «السح الدح امبو» و«كوز المحبة اتخرم» من الأغانى الشعبية, بدأ الانهيار ولايزال حين تخلت الدولة والبنوك عن دورها فى دعم وتمويل السينما فظهر المنتج الجزار والسباك والمطرب السواق وأشباه المؤلفين الذين يكتبون على انفاس المخدرات.. عندما تراجعت السينما انحسر تأثير الدور المصرى فى الدول العربية.. نظرتنا للفن هى التى تحدد الهدف منه. فإذا أردنا ان نتعامل مع السينما المصرية كصناعة ضخمة فإنها يمكن ان تلعب دورًا اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا هائلاً وتتحول إلى مصدر مهم لزيادة الدخل القومى بل تنقذ الاقتصاد الوطنى كما حدث فى عهد حكومة فيشى بفرنسا عقب الحرب، وتسهم فى نهضة الاقتصاد كما يحدث فى تركيا حاليًا.. الفيلم السينمائى يهدم فى ساعتين ما تبنيه الأسرة والمدرسة والجامع والكنيسة والدولة فى سنين، الفنان واحد من أفراد المجتمع ينبغى ان يشارك فى رفع المستوى الفكرى.. يستطيع بفنه ان يصل إلى عقل وقلب المواطن بسرعة أكبر من المدرس والشيخ والقسيس.. يستطيع ان يغرس فضيلة ويقدر على هدم القيم.. الفنان له دور وعليه مسئولية.. وصفة الأديب الراحل عباس العقاد بأنه شريك للمصلح الاخلاقى فى وجوب الحذر من كل شائبة تبتذل الفن.. الفنان المصرى ثروة إنسانية بيده أن يكون شريكًا فى عصابة يقودها منتج تافه، أو عضواً فى قافلة التنوير. الفنان يجب ان يدافع عن رأيه الذى يؤمن به ولايتحول إلى فرد يتعامل مع الفن بمنطق السبوبة والاسترزاق.. لا يقدم ما يريده الجمهور بل يقدم له ما يجب ان يكونه.. استرضاء السوقة بإثارة غرائزهم يحط من قيمة الفن والفنان. إذا كان الاحباط العام عقب هزيمة يونية هو السبب فى ظهور افلام من عينة حمام الملاطيلى وثرثرة فوق النيل أو أغان مثل «الطشت قاللى» فإن افلام العيد المنحطة إحدى صور الانفلات العام الذى اجتاح المجتمع بعد ثورة يناير. ومن قصور النظر والرؤية ان نؤشر لنجاح فيلم من عدمه بحجم الايرادات. أرى ان يجتمع وزيرا الثقافة والصناعة ورئيس اتحاد الصناعات ورؤساء النقابات الفنية لوضع روشتة العلاج للسينما المصرية ومساعدتها على أداء دورها فى تشكيل وعى المجتمع ودعم الاقتصاد. Email: