"فين بابا ؟ فين ماما ؟ مين أهلى ؟ تركونى جميعا هنا أنا واخوتي الثلاثة رغم انهم أحياء".. كانت تلك هى كلمات مهند الذى لم يتجاوز عمره الخمسة أعوام، والذى يعيش داخل ملجأ أيتام ببنها رغم أن والده على قيد الحياة ليعيش مع مجموعة من الأطفال لا يعرفون من الأهل سوى بابا رمضان. يستكمل مهند كلماته التى كانت أشبه بطلقات الرصاص فيقول: تركنى أبى في الدار منذ سنوات أنا واخوتى لؤى وقصى وشقيقتنا سيرين التى انفصلت عنا تعيش فى مؤسسة رعاية البنات هي الأخرى، لم نره من وقتها بعد أن ألقى بنا هنا من أجل عيون زوجته الجديدة. يبكى لؤى وهو يتحدث قائلا: صرخاتنا لم تشفع لنا عنده، وتضيف سيرين قائلة: في آخر لقاء بوالدى منذ سنوات عندما أجبره مدير الدار على الحضور قال لى إننا لسنا أبناءه وعندما رددت عليه (لما احنا مش ولادك جاى ليه.. لم يرد!) وتواصل احنا مرتاحين هنا ومش عاوزينه.. ماما سهير أمى ( المشرفة) ودادة نادية كمان، أنا مش هروح معاه وانهارت فى البكاء.. كانت كلمات هؤلاء الأطفال أشبه بطلقات تخترق القلوب وتنهار أمامها كل المعانى والمفردات التى عجزت عن التعبير عن تلك المأساة. أحلام مشروعة من قلب المؤسسة التقينا بطفل آخر.. أحلامه بسيطة انحسرت في أن يصبح طباخا على الرغم من تفوقه الدراسي وحصوله على مجموع 248 من 280درجة في الشهادة الابتدائية. وسط ضحكات إخوته في الدار انبرى هشام يقول: نفسى اطلع طباخ لأنى بحب اللحمة جدا، وبحب اطبخ لزمايلى كل الأكلات.. ويضيف: أحوالى هنا جيدة.. فأنا وسط أشقائى الذين لايعرفون سوى الحب ولا يعرفون لغة الغدر والكراهية التي نجدها من الأهل والكبار.. معهم أتقاسم الطعام .. والفرحة والحزن ، أجد فى وجودهم معي ووقوفهم بجانبى الأنيس فى وحدتى! كانت الكلمات تخرج من فمه الصغير بصعوبة.. لكنها عبرت عن مدى الحزن الكامن فى صدره. ويتحدث تامر ،الطالب بالصف الخامس الابتدائي، عن أحلامه الصغيرة فيقول: نفسى أطلع رسام وأعمل معرض لأعمالي الفنية وأصبح مشهورا يعرفني الجميع.. وتنشر الصحف صوري ولوحاتي علشان أهلي يفتكروني ويسألوا عني من تاني.. كل ما يطلبه تامر توفير مستلزمات الرسم له ليمارس موهبته التي يستمتع بها ويجد فيها عوضا عن الأب والأم اللذين تخليا عنه .. ويتساءل عن سبب وجوده في الدار قائلا: أنا لست يتيما فأبي وأمي أحياء لكنهما أودعاني الدار بعد أن عجزا عن الانفاق علي.. ولكن هل الفقر يمنعهما عن الحضور لرؤيتي؟! سليمان ،طالب بالصف الثالث الاعدادى، حصل على ميداليات تفوق رياضى عديدة وهو أيضا مذيع جيد بشهادة زملائه حتى أنهم يلقبونه بمحمود سعد الدار . ورغم مواهبه المتعددة فكل أمله أن يكون ضابط مهندس لحبه الشديد للرسم الهندسي. وفى مسجد المؤسسة التقينا بالطفل سيد محمد على ،ابن الثانية عشرة،.. استوقفنا صوته العذب وهو يؤذن للصلاة..عرفنا من زملائه أنه يوقظهم يوميا لأداء صلاة الفجر.. ورغم افتقاده للإحساس بالأمان النفسي الذي حرم منه بسبب وحدته منذ الصغر نجده يقول في شجاعة : نفسي أطلع ضابط لأعيد الأمن للشارع المصرى . ورغم صغر سنه ،وفي مشهد يثلج صدر أي أب وأم ويدعوهما للزهو بصغيرهما المنسي، ترى عماد محمد ،بالصف الثالث الابتدائى، ينصح زملاءه دوما بفعل الخير ويجتهد ليتم حفظ القرآن.. بينما يحرص محمد عبد الله على تدريب السباحة ليحصل على المركز الأول في المسابقة التي رشحته الدار لها عازما على أن يصبح بطلا دوليا تسعى لأخباره جميع الفضائيات والصحف. جوز جنيهات..دعم! عن هذه المواهب الجميلة التي لم تفسدها الظروف يقول رمضان قطب ،مدير مؤسسة رعاية البنين، أو بابا رمضان كما يطلق عليه الصغار: نحن هنا لنعالج ما أفسده الآباء والأمهات ولنصنع جيلا يحترم نفسه ويحترم وطنه ويحترمه المجتمع، ونحاول جاهدين توفير كافة احتياجات الأطفال من مسجد ومكتبة وملعب كرة قدم إضافة لأدواتهم الشخصية، ونعتمد على التبرعات بنسبة 90% لأن الدعم الحكومى لا يتجاوز جنيهين يوميا لكل طفل لا تكفى طعامه أو شرابه أو ملبسه..! ويوجه مدير الدار صرخة لمجتمع تناسى هؤلاء الأطفال وتجاهل همومهم واحتياجاتهم النفسية والمادية بعد أن نسيهم الأهل وألقوا بهم قهرا وغصبا فى ذلك الملجأ لينضموا لصفوف الأيتام رغم أن لهم آباء أحياء يرزقون!!