سنوات قيادة محمد بديع لجماعة "الإخوان المسلمون" كانت قصيرة، لكنها شهدت تحولات تاريخية عميقة انتقلت خلالها الجماعة من العمل السري إلى سدة الحكم، لتعود وتدخل في حقبة جديدة من المجهول بعد خسارتها الحكم مع الأحداث الأخيرة التي عصفت بمصر. شهدت جماعة الإخوان المسلمين في مصر خلال سنوات قيادة محمد بديع القصيرة تحولات تاريخية انتقلت خلالها الجماعة بعد عقود من العمل السري إلى سدة الحكم، قبل أن تعود إلى حركة ملاحقة بين ليلة وضحاها. ولطالما نظر إلى بديع، المرشد العام الثامن لجماعة الإخوان المسلمين الذي ألقت قوات الأمن القبض عليه في القاهرة فجر الثلاثاء، على أنه من المحافظين الذين كانوا يفضلون في مرحلة ما العمل الاجتماعي على العمل السياسي المباشر. غير أن السنوات الثلاث التي قضاها بديع على رأس هرم هذا التنظيم، والتي بدأت نهايتها تلوح مع عزل محمد مرسي من قبل الجيش في يوليو الماضي إثر تظاهرات شعبية حاشدة، أثبتت عكس ذلك. حل محمد بديع في يناير 2010 مكان محمد مهدي عاكف، أحد أقطاب "الحرس القديم" للإخوان، بعد أشهر من الخلافات داخل الجماعة بين مجموعات من المحافظين والإصلاحيين حول الاستراتيجية التي يتعين على الجماعة تبنيها. وبعيد انتخابه، قال بديع الذي ولد عام 1943 في مدينة المحلة وعمل أستاذا متفرغا بكلية الطب البيطري في جامعة بني سويف، إنه سيركز على "التدرج في إصلاح (...) لا يتم إلا بأسلوب سلمي ونضال دستوري قائم على الإقناع والحوار وعدم الإكراه". وشدد حينها على أن جماعة الإخوان التي أسسها حسن البنا في العام 1928، ترفض "العنف وتدينه بكل أشكاله، سواء من جانب الحكومات أو الأفراد أو المجموعات أو المؤسسات". ورأى مراقبون في انتخاب بديع نزعة لدى الإخوان، المجموعة الأكثر تنظيما في مصر، إلى التركيز على العمل التربوي والتنظيمي والإيديولوجي أكثر من العمل السياسي. غير أن ثورة يناير 2011 ضد نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك بدا وكأنها غيرت حسابات وإستراتيجية بديع وجماعته، إذ وجد الإخوان أنفسهم فجأة أمام فرصة تاريخية لبلوغ ما عملوا عليه بسرية لأكثر من ثمانين سنة. وبدا التحول في خطاب بديع بعيد فوز جماعة الإخوان بنحو نصف مقاعد البرلمان في انتخابات العام 2012، حين قال إن للبرلمان المنتخب الحق "في محاسبة كل مؤسسات الدولة وبينها المؤسسة العسكرية" التي خرج من رحمها كل الرؤساء السابقين لمرسي. وفي خضم التحولات التي كانت تعيشها مصر بقيادة مجتمع مدني متحمس، مع الانتقال من نظام ديكتاتوري حكم البلاد بقبضة من حديد لعقود إلى نظام ديمقراطي تحكمه صناديق الاقتراع، أعلن بديع أن الجماعة لن تخوض انتخابات الرئاسة أو تدعم أي مرشح له خلفية إسلامية. إلا أن جماعة الإخوان المسلمين ما لبثت أن أعلنت ترشيح خيرت الشاطر، أحد أبرز قادتها المتشددين، للرئاسة لكن اللجنة الانتخابية استبعدته لأسباب قانونية فاستبدلته الجماعة بمحمد مرسي، الذي تفوق في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية على الفريق أحمد شفيق، آخر رئيس وزراء في عهد مبارك. وبعد سنة من حكم مرسي، قام الجيش بعزل أول رئيس مدني منتخب في يوليو الماضي إثر تظاهرات مليونية عمت البلاد وطالبت بإنهاء عهد الإخوان الذين اتهموا من قبل مجتمع متدين إجمالا إنما غير متطرف، بمحاولة فرض رؤيتهم للإسلام وتمكين أعضاء الجماعة من جميع مفاصل الدولة. وبقي بديع على تأييده لمرسي، وشارك في الاعتصامات التي نظمتها جماعة الإخوان، خصوصا في "النهضة" و"رابعة العدوية" في القاهرة، قبل أن تفض قوات الأمن هذين الاعتصامين الأربعاء الماضي في عملية قتل فيها المئات. ووصل الأمر ببديع إلى اعتبار إزاحة الرئيس المعزول أسوأ من "هدم الكعبة"، حيث قال في رسالته الأسبوعية في 25 يوليو إن ما حدث في مصر "يفوق جرما ما لو كان قد حمل معولا وهدم به الكعبة المشرفة حجرا حجرا". وهكذا تحولت الجماعة بسرعة قياسية من صاحبة سلطة، إلى مطلوبة للعدالة ومكروهة شعبيا على نطاق واسع. وألقي القبض على العديد من قيادات الصف الأول فيها، وعلى رأسهم بديع فجر أمس في شقة تقع في منطقة رابعة العدوية، قبل أن يجري نقله إلى سجن طرة حيث يوجد مبارك.
وسبق لمحمد بديع أن سجن مرتين الأولى عام 1964 لمدة تسع سنوات بعدما اتهم بالتورط في مخطط للانقلاب على السلطة، والثانية في العام 1999 حين حكم عليه بالسجن لمدة تسع سنوات قضى منها أربع سنوات تقريبا في السجن. وتبدأ الأحد المقبل محاكمة بديع، صاحب اللحية البيضاء الخفيفة والوجه النحيف والنظارة التي لا تفارقه، إلى جانب قياديين آخرين في جماعة الإخوان، بتهمة التحريض على قتل متظاهرين، في يوم يشهد أيضا جلسة جديدة في محاكمة مبارك. وبعيد إلقاء القبض على بديع، أعلنت جماعة الإخوان المسلمين تسليم منصب المرشد العام بشكل مؤقت إلى نائبه محمود عزت (69 عاما)، الذي ينظر إليه على انه احد أهم صقور التيار المتشدد الذي يطلق عليه "القطبيون" نسبة إلى سيد قطب المفكر الإسلامي المتشدد الذي اعدم عام 1966.